
إن عجز السعودية عن العمل المنفرد وتاليًا تحقيق إنجاز مستقل من دون “الاستعانة بصديق” إقليمي أو دولي، يجعل تقاسم المنجز مع الآخرين حتميًا ولا مناص منه. ولكن هذا لا يحل المشكلة، فقد اعتادت السعودية على التصرّف بكونها محورًا قائمًا بذاته، وهذا التصرّف يعود إلى بداية نشأت الدولة السعودية حيث كان يتصرّف الملك عبد العزيز بن سعود، مؤسس الدولة السعودية، على أنه المرجع للشرعية الدينية، وأن دولته هي الباب الذي يجب على كل القادة العرب والمسلمين الدخول منه. وكان قادة الكيان الاسرائيلي، ولا سيما بن غوريون، المؤسس الفعلي لدولة الصهاينة في فلسطين المحتلة وأول رئيس وزراء فيها، يؤمنون إيمانًا راسخًا بأن تطبيع الكيان الاسرائيلي في المنطقة يكون ممكنًا فحسب عبر البوابة السعودية.
بعد اندلاع الصراع الناصري السعودي في نهاية الخمسينيات، تبلورت فكرة المحورية السعودية بخلفية دينية في مقابل الزعيم جمال عبد الناصر بخلفية قومية، ومع وفاة الأخير سنة 1970 بدأت ما أسبغ عليها الكاتب المصري الكبير محمد حسنين هيكل “الحقبة السعودية”. منذاك، بدأت السعودية تتصرّف على أنّها بحسب المثل الشامي: الفريك لا يقبل شريك..
ولأنّها قاصرة عن انجاز سياسي وعسكري بمجهود ذاتي ومستقل، فإن الشراكة القهرية سوف ترافق السعودية في كل الأزمنة. كان الحال كذلك في كل الملفات التي دخلت فيها: مصر، واليمن، وليبيا، وسوريا، ولبنان..ولكن السؤال: هل السعودية قادرة على التكيّف مع شراكات، وما هي البدائل التي بحوزتها للتعويض عن قصورها، بما يجعلها الرابح الأكبر في الشراكة وتقاسم المنجز أو الكعكعة.
في التصوّر الاجمالي لمسألة الشراكة، يمكن عرض المشهد التاريخي والجيوسياسي لفهم التحديات التي تواجهها السعودية في الحفاظ على شراكات فعّالة في صراعات مثل اليمن وسوريا، وتنبع من تفاعل معقد بين العوامل الاستراتيجية والأيديولوجية والبنيوية، وفيما يلي تحليل منظم للأسباب الرئيسية:
1 ـ الأولويات الإستراتيجية المتباينة، أو بكلمات أخرى تباين الأهداف الاستراتيجية والمصالح الوطنية: في اليمن، على سبيل المثال، تحالفت السعودية والإمارات في البداية لمواجهة حركة أنصار الله، لكن أولوياتهما تباعدت بمرور الوقت. ركزت السعودية على استقرار حكومة عبد ربه منصور هادي ومواجهة النفوذ الإيراني، في حين أعطت الإمارات الأولوية لمحاربة الفصائل الدينية (مثل حزب الإصلاح) وتأمين جنوب اليمن، بما في ذلك دعم المجلس الانتقالي الجنوبي. وقد أدى هذا إلى تحالفات محلية متنافسة واحتكاكات.
في سوريا، كان الهدف الأساسي للسعودية هو مواجهة النفوذ الإيراني والروسي، بينما تركّزت نشاطات تركيا على الحد من الحكم الذاتي الكردي (النظر إلى الجماعات الكردية السورية على أنها مرتبطة بحزب العمال الكردستاني) والحفاظ على منطقة عازلة. وفي الوقت نفسه، دعمت قطر تاريخيًا الفصائل المرتبطة بجماعة الإخوان المسلمين، والتي تعارضها السعودية. وتخلق هذه الأجندات المختلفة استراتيجيات غير متماسكة.
2 ـ المنافسة على الزعامة الإقليمية: تسعى السعودية إلى تأكيد مكانتها كقوة عربية سنيّة مهيمنة، وغالبًا ما تتصادم مع شركاء لديهم طموحاتهم الخاصة المماثلة. على سبيل المثال، إتّبعت الإمارات سياسة خارجية مستقلة في عهد محمد بن زايد، بما في ذلك التطبيع مع الكيان الاسرائيلي والمشاريع الاقتصادية في موانئ اليمن (على سبيل المثال، عدن)، والتي من شأنها تقويض النفوذ السعودي.
في سوريا، حدّت التدخلات العسكرية التركية والتواصل الدبلوماسي القطري من فعالية الجهود السعودية لتوحيد القوى المناهضة للأسد، الذي عكس صراعًا أوسع نطاقًا على النفوذ الإقليمي.
3 ـ الاختلافات الإيديولوجية والسياسية: يتعارض دعم قطر لجماعة الإخوان المسلمين وتحالف تركيا مع جماعات مماثلة في سوريا مع رفض السعودية للإسلام السياسي، وهو الموقف الذي تشترك فيه الإمارات، ومن شأن هذا الخلاف الأيديولوجي أن يعقّد التنسيق.
ولناحية السياسة تجاه إيران، وفي حين تعارض جميع الأطراف النفوذ الإيراني، فإن نهج المحصلة الصفرية الذي تتبناه السعودية يتناقض مع البراجماتية العرضية التي تتبناها تركيا وقطر (على سبيل المثال، العلاقات الاقتصادية بين تركيا وإيران، وحوار قطر مع طهران).
4 ـ صنع القرار المركزي في السعودية: في عهد محمد بن سلمان، أصبحت السياسة الخارجية السعودية أكثر مركزية وحزمًا، حيث أعطت الأولوية لاتخاذ القرار السريع على الإجماع. وهذا من شأنه أن ينفّر الشركاء المعتادين على الأطر التعاونية. على سبيل المثال، أدّت التحوّلات المفاجئة في السياسة (على سبيل المثال، الحصار المفروض على قطر في عام 2017، والذي تم تخفيفه لاحقًا) إلى توليد انعدام الثقة.
اتبعت السعودية، تحت إبن سلمان، سياسة خارجية أكثر “حزمًا” و”مركزية”، وغالبًا ما تسعى إلى “تحديد” “شروط التعامل” مع شركائها الإقليميين. تتسم قيادة محمد بن سلمان بكونها “أحادية الجانب” في بعض الأحيان، الذي قد يجعل “التعاون” أمرًا صعبًا. تميل السعودية إلى التركيز على “الحفاظ على الهيمنة” في مجلس التعاون الخليجي وكونها القوة المركزية في السياسة العربية. تتعارض هذه الميول في بعض الأحيان مع الجهات الفاعلة الإقليمية الأخرى، وخاصة تلك مثل الإمارات وتركيا وقطر، والتي تسعى أيضًا إلى تأكيد نفوذها الإقليمي.
على الرغم من تحالفها في البداية مع السعودية في اليمن والصراعات الإقليمية الأخرى، فقد سعت الإمارات وبشكل متزايد إلى سياسة خارجية أكثر “استقلالية” تحت قيادة محمد بن زايد. غالبًا ما كانت الإمارات على استعداد للإنخراط في إجراءات أحادية الجانب (على سبيل المثال، دعم الميليشيات المحلية في ليبيا أو دعم الفصائل الانفصالية في اليمن) التي تتعارض مع الأولويات السعودية. إن النهج الأكثر براجماتية للإمارات تجاه التحالفات وتركيزها على “تأمين المصالح الاقتصادية والجيوسياسية طويلة الأجل” وضعها أحيانًا على خلاف مع الأهداف السعودية.
لناحية تركيا، كانت مساعي الرئيس رجب طيب أردوغان مصمّمة في ضوء “رؤية عثمانية جديدة” لتوسيع نفوذها في الشرق الأوسط، وخاصة في سوريا وشرق البحر الأبيض المتوسط. إن دعم تركيا للتنظيمات السلفية المسلحة في سوريا، وتدخّلاتها العسكرية، وتحالفها الوثيق مع قطر، قد وضعها في كثير من الأحيان على خلاف مع السعودية، التي كانت أكثر حذرًا بشأن تنظيمات السلفية المسلحة وركزت على مصالحها الخاصة المتوافقة مع الولايات المتحدة غالبًا ودعم الواقع السياسي القائم. كما أضاف الانقسام الأيديولوجي بين النظام الملكي المحافظ في السعودية وقيادة تركيا ذات التوجه الإسلامي طبقة أخرى من التوتر.
بالنسبة إلى قطر، وعلى الرغم من كونها حليفة لتركيا، فقد اتّبعت أيضًا سياسة خارجية مستقلة. فقد دعمت التنظيمات السلفية المسلّحة في سوريا (مثل جبهة النصرة ـ هيئة تحرير الشام حاليًا)، وهي نقطة خلاف رئيسية مع السعودية قبل سقوط النظام في 8 ديسمبر 2024 وتولي الهيئة الحكم. إن دعم قطر للتنظيمات المسلّحة وتأكيدها على استخدام القوة الناعمة (على سبيل المثال، التأثير الإعلامي من خلال قناة الجزيرة) يتناقض مع النهج العسكري والدبلوماسي الأكثر تقليدية للسعودية. إن “الاستراتيجية الإقليمية” التي تنتهجها قطر غالباً ما تعكس رغبتها في تنويع التحالفات، وهو ما يؤدي إلى تعقيد العلاقات السعودية القطرية.
5 ـ المنافسة الاقتصادية والمتعلقة بالموارد: تعمل إعادة الإعمار بعد الصراع والمخاطر الاقتصادية (على سبيل المثال، السيطرة على الموانئ اليمنية، والعقود السورية المستقبلية) على تغذية المنافسة. تسلط استثمارات الإمارات في البنية التحتية لليمن وطموحات تركيا الاقتصادية في سوريا الضوء على كيف يمكن للمصالح الاقتصادية أن تتغلب على الأهداف الجماعية. لاريب أن لدى السعودية تطلعات اقتصادية في سوريا الجديدة، كما كان لها تطلعات مماثلة في اليمن وفي مصر والعراق ولبنان ولاحقًا في غزة، وهي تطلعات تتصادم مع تطلعات منافسين آخرين مثل تركيا وقطر والامارات..
6 ـ التحالفات المتطوّرة والجهات الفاعلة الخارجية: أظهر انسحاب الإمارات من اليمن في عام 2019 وانخراطها مع روسيا في سوريا تحالفات متغيرة تقوض الشراكات السعودية. وعلى نحو مماثل، فإن التنسيق التركي مع روسيا في سوريا (عبر محادثات أستانا) عقّد الجهود السعودية لعزل الأسد. وأظهرت المتغيرات السورية الجديدة شبكة تحالفات جديدة قد يكون أبرزها التحالف التركي القطري، ولكن ثمة تحالفات تشكلت على وقع الشعور المشترك بالخطر والتهديد من المتغير السوري ضم الأردن ومصر والعراق وحتى ايران والامارات. ولم نذكر السعودية التي بدت جزءًا من تحالف عربي تشكّل في اجتماع العقبة الأردنية في 14 ديسمبر 2024 في سياق رسم ملامح المستقبل السوري لسوريا، وتاليًا اجتماع الرياض بشأن سوريا في 12 يناير 2025، ولكن كشفت التطوّرات اللاحقة عن تحرك سعودي مستقل في احتواء النظام السوري الجديد، وفتح قنوات مستقلة عن المجموعة العربية وعن الشركاء الآخرين مثل مصر والامارات والاردن بدرجة أساسية.
7 ـ الضغوط المحلية ورؤية 2030: تعطي أجندة التحول المحلي في السعودية (رؤية 2030) الأولوية للتنويع الاقتصادي والحد من الاعتماد على الشركاء. وقد يؤدي هذا إلى الدبلوماسية المعاملاتية، حيث يتم تقييم الشراكات من خلال عدسة المنفعة الوطنية الفورية بدلاً من التعاون الطويل الأجل.
8 ـ إدارة الشرعية الدينية: على الرغم من تخلّيها عن الخطاب الديني، نظريًا على الأقل، فإنّها لا تزال تقدّم نفسها كزعيمة للعالم الإسلامي، وتخشى السعودية فقدان هذا الدور، وخاصة فيما يتعلق بالشرعية الدينية. لقد وضعت السعودية نفسها تقليديًا في موقع المدافع عن قضايا العرب، وبالخصوص القضية الفلسطينية، وهي بحاجة إلى التعامل مع التحالفات المعقدة بعناية للحفاظ على هذا الدور دون أن تبدو وكأنها “تتنازل” عن القيم الأساسية. في ضوء ذلك يمكن تفسير بيان الخارجية السعودية الصادر في 4 فبراير 2025 والذي يؤكد فيه على تمسّك السعودية بإقامة دولة فلسطينية عاصمتها القدس الشرقية للرد على تصريحات الرئيس الاميركي بأن السعودية سوف تطبّع مع اسرائيل من دون الدولة الفلسطينية.
إن التصرّف على أساس الدور القيادي بقدر ما يجعل السعودية في موقع المتفرّد بالمغنم والمكانة المتميّزة، فإنها مطالبة أيضًا بأن تتحمل كل ما يمكن أن ينطوي عليه الموقف من أكلاف، من أجل المحافظة على مصداقيتها.
ما سبق ينقلنا الى نهج السعودية في التعاطي مع التهديدات والأخطار وأيضًا المصالح، إذ غالبًا ما يُنظر إليها على أنها “تتصرف بشكل أحادي” عندما تشعر بتهديد مباشر لمصالحها (على سبيل المثال، تدخلها العسكري في اليمن). وبينما تسعى إلى “تحالفات إقليمية”، فإنها تصر كثيرًا على “تحديد شروط” الشراكات، وهو ما قد يسبب احتكاكًا مع الشركاء الذين قد يشعرون بالتهميش أو الذين لا تتوافق مصالحهم مع الأهداف السعودية.
في المقابل، تفضل كل من الإمارات وتركيا اتباع نهج أكثر استقلالية في سياستهما الخارجية. كانت الإمارات على استعداد لدعم “القوات بالوكالة” واتخاذ “إجراءات أحادية الجانب”، مثل “تدخلها العسكري” في ليبيا، والتي تبتعد عن الأولويات السعودية. وبالمثل، كان دور تركيا في سوريا أكثر تركيزًا على “حماية مصالحها الاستراتيجية”، وللسعودية مصالحها الخاصة التي تتعارض مع مصالح تركيا وقطر والامارات.
ترجع الصعوبات التي واجهتها السعودية في إدارة الشراكات إلى حد كبير إلى “المصالح الوطنية المتنافسة”، و”النفوذ الإقليمي”، و”أنماط القيادة”، و”الاعتبارات السياسية الداخلية”. على الرغم من أن وجود حلفاء للسعودية في معاركها الخارجية إلا أن هؤلاء تالحلفاء يتمتعون بسياسات خارجية مستقلة، وغالبًا ما تتعارض طموحاتهم مع “الأهداف السعودية”. وعلاوة على ذلك، فإن ميل السعودية إلى “انتهاج سياسات أحادية الجانب” ـ وخاصة في المواقف التي تتعرض فيها قيادتها للتهديد – يخلق “احتكاكًا” في الشراكات المتعددة الأطراف. وهذا يجعل من الصعب على السعودية إدارة التحالفات الطويلة الأجل التي تتطلب “التنسيق” و “التسوية” باستمرار.
وعليه، فإن تحدّيات الشراكة التي تواجهها السعودية تنشأ من سعيها إلى تحقيق التفوّق الإقليمي، والتصلّب الإيديولوجي، وأسلوب الحكم من أعلى إلى أسفل، والتي تتعارض مع المصالح الدقيقة للحلفاء. في كل من اليمن وسوريا، تخلق الأهداف المتداخلة ولكن غير المتوافقة – مواجهة إيران، وإدارة الجهات الفاعلة الإسلامية، وتأمين موطئ قدم اقتصادي – احتكاكًا. وفي غياب آليات التسوية أو تقاسم السلطة، تخاطر هذه الشراكات بأن تصبح ساحات للمنافسة بدلاً من التعاون. ولكي تنجح السعودية، فقد تحتاج إلى تبني استراتيجيات أكثر مرونة وشمولية تعترف بمصالح الشركاء مع موازنة طموحاتها الخاصة.
إن التحدي الذي تواجهه السعودية في المستقبل سيكون إيجاد طريقة “لموازنة رغبتها في النفوذ الإقليمي” مع “حقائق شراكاتها”، وخاصة في منطقة حيث غالبًا ما تكون الخطوط الفاصلة بين “الصديق” و”العدو” غير واضحة.
تطبيقات الشراكة المستحيلة :
يمكن الإضاء على تجارب الشراكات السعودية مع الآخرين على نحو تفصيلي لفهم ديناميات الشراكة والخلاف:
في التجربة اليمنية: تحالفت السعودية والإمارات في الحرب على اليمن في مارس عام 2015 بهدف مشترك يتمثل في هزيمة حركة أنصار الله وتدمير قدراتها العسكرية (الصاروخية بدرجة أساسية) واستعادة حكومة عبد ربه منصور هادي. ومع ذلك، على مدار الحرب، أصبح من الواضح أن الإمارات لديها مجموعة متميزة من الأهداف، وعلى وجه التحديد، “تأمين النفوذ” في “جنوب اليمن”، بما في ذلك “دعم الحركات الانفصالية” مثل “المجلس الانتقالي الجنوبي”، وهو ما يتناقض بشكل مباشر مع هدف السعودية المتمثل في “دولة يمنية موحدة” تكون هي الدولة الراعية لها والنافذة فيها.
أدى هذا إلى “تفكّك التحالف السعودي الاماراتي” في اليمن، مع “تضارب المصالح” في جنوب اليمن والخلاف المتزايد حول الاستراتيجية العسكرية، وكيفية إدارة الحرب. أرادت السعودية استعادة “حكومة هادي” والحفاظ على الوحدة الجغرافية لليمن، بينما ركزت الإمارات بشكل أكبر على “تأمين النفوذ على المدى الطويل” وربما حتى “إنشاء جنوب اليمن المستقل”.
وعليه، فشلت السعودية في إدارة الشراكة مع الإمارات، حليفها الاستراتيجي في العدوان على اليمن منذ مارس 2015، حيث تصاعدت الخلافات بمرو السنين كما جاء في تصريحات أنور قرقاش وزير الدولة للشؤون الخارجية حينذاك، والمستشار الدبلوماسي لرئيس الدولة حاليًا، وتغريدات ضاحي خلفان، نائب رئيس شرطة دبي والمقرّب من النظام الاماراتي. تحدّث قرقاش وخلفان عن انتهاء جدوى الحرب، وطالبا بوقفها وسحب القوات الاماراتية، الذي تسبب في إرباك التحالف السعودي الاماراتي. لم يكن مجرد خروج على النص الرسمي. في الواقع، إن الخلاف السعودي الاماراتي حول النفوذ ومكاسب الحرب كان سمة عامة في الخلاف الثنائي طوال السنوات الفائتة، وبدأ بشكل واضح منذ إعلان الإمارات عام 2019 عن انتهاء مهمتها العسكرية ضمن التحالف العربي، وذلك بعد سيطرتها على موانىء بحرية وجزر يمنية، وتشكيل مجموعات مسلّحة تابعة لها، وكان ذلك بمثابة فك التحالف الثنائي.
في المقابل، تفرّدت السعودية بملف المفاوضات مع حكومة صنعاء حول وقف اطلاق النار، وكان محمد بن سلمان قد طالب الإمارات بالكف عن التدخل في المفاوضات التي تقودها الرياض، لما ينطوي عليه من إرباك لها وفشل في ضبط إيقاع التحالف مع الامارات. للأخيرة مبرراتها في التدخل، فهي تشعر بأن السعودية تحاول الاستئثار بالنفوذ في المناطق الجنوبية والشرقية من اليمن، وتجاهل مصالح الامارات. وإذ لايمكن اغفال الخصائص الشخصية لكل من محمد بن سلمان (مبس) ومحمد بن زايد (مبز)، فإن ثمة حسابًا لمنطلقات الطرفين، فالسعودية تنطلق من كونها قطب الرحى في هذه المنطقة، وإن مصالحها الجيوسياسية والاستراتيجية تعلو على أي مصلحة أخرى لأي طرف آخر في المنطقة، ولذلك فإن محمد بن سلمان يتصرف على أساس أنه زعيم المنطقة وأن السعودية هي الفيصل في شؤونها..
في الحالة المصرية: وعلى الرغم من أن التغير الانقلابي الذي حصل في يوليو 2012 كان بتنسيق سعودي إماراتي والذي جاء بوزير الدفاع حينذاك عبد الفتاح السيسي رئيساً لمصر، فإنّه ما لبث أن تحوّل إلى خلاف بين أبو ظبي والرياض على النفوذ سواء في مصر أو في المنطقة عمومًا.
وتبادلت السعودية ومصر مخاوفهما بشأن التحركات الإقليمية الأحادية للإماراتيين في السنوات الأخيرة، وكان أبرزها التطبيع الرسمي للعلاقات مع إسرائيل، وتسهيل انضمام العديد من الدول إلى ما يسمى بـ”اتفاقيات إبراهيم”. تنقل المصادر المصرية أن مخاوف القاهرة والرياض بشأن الخيارات السياسية لحاكم الامارات محمد بن زايد، ساعد في التقارب بين مصر والسعودية على الرغم من الخلافات العميقة بينهما.
المشكلة ذاتها كانت في السودان، حيث بدا الخلاف واضحًا بين الرياض وأبو ظبي، حيث دعمت الامارات قوات الدعم السريع، بقيادة حميدتي فيما دعمت السعودية عبد الفتاح البرهان، ريس مجلس السيادة السوداني. تجدر الإشارة إلى أن عناصر حميدتي كانوا يقاتلون في صفوف القوات الاماراتية في اليمن وكانوا يرتدون الزي العسكري الاماراتي، كما تحوّلت دبي إلى سوق الذهب الوحيد للسودان، منذ العقوبات المفروضة على الخرطوم وتاليًا تسهيل المعاملات المصرفية مع بنك أبو ظبي الاسلامي، فكان الذهب المستخرج من السودان يذهب الى الامارات عن طريق قوات الدعم السريع.
في المقابل، دعمت السعودية البرهان، إلى جانب مصر، وحاولت الرياض لعب دور الوسيط بين المتحاربين من خلال مبادرة جدة في مايو 2023، من دون ممارسة أي ضغط على الطرفين، وبدا أن السعودية أرادت بهذه الوساطة استعراض عضلاتها الدبلوماسية. وفي 8 يوليو 2024، التقى البرهان مع نائب وزير الخارجية السعودي وليد بن عبد الكريم الخريجي، الذي وصل مدينة بورتسودان شرق البلاد، وبحث معه استئناف مفاوضات جدّة لوقف الحرب بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع. وصرّح وكيل وزارة الخارجية السوداني حسين عوض أن اللقاء تطرّق إلى أهمية ضم المزيد من الوسطاء في مفاوضات جدة، ولكن البرهان أبدى تحفظه على وجود أي طرف داعم لقوات الدعم السريع.
ومع أن الخلاف بين الامارات والسعودية في السودان لم يكن جدّيًا، بمعنى أن الرياض لم تخصص له مساحة وازنة من الاهتمام، وعلى الرغم من دعمها للبرهان، فإنها لم تنخرط في الصراع العسكري حتى بعد تراجع مصر عن تقديم الدعم العسكري للجيش السوداني، وبقيت في موقع “الوسيط” بين المتحاربين والدولة الراعية للسلام، وتتصرف على قاعدة أنها أكبر من مجرد طرف في الصراع بل دولة محورية وقوة إقليمية كبرى.
إن الشراكة السعودية الإماراتية في اليمن والشراكة السعودية التركية القطرية في سوريا تسلط الضوء بالفعل على بعض التحديات المتكررة في السياسة الخارجية السعودية فيما يتعلق “بإدارة الشراكة”. وفي حين كانت للسعودية تحالفات طويلة الأمد مع كل من الإمارات وحتى تركيا/قطر، فقد واجهت صعوبات في إدارة هذه العلاقات بشكل فعال، وخاصة في حالات “الصراع الجيوسياسي المعقد”.
الشراكة “المتآمرة” في سوريا :شاركت السعودية أطرافًا عدّة (تركيا وقطر والاردن وفصائل مسلحة إسلامية وأحزاب سياسية سورية) في البداية في هدف مشترك يتمثل في “مواجهة النظام السوري” بقيادة بشار الأسد، المدعوم من روسيا وايران. ومع ذلك، أصبحت الديناميكيات في سوريا أكثر “تعقيدًا” بسبب تورّط جميع الأطراف في تحالفات وصراعات على الساحة السورية، فكانت تركيا تنخرط على نحو متزايد في شمال سوريا وفي الوقت نفسه توفر الدعم “لجماعات المعارضة السورية”. وفي الوقت نفسه، كانت قطر، التي تتحالف مع تركيا في العديد من القضايا الإقليمية، أكثر دعمًا وعلى نحو علني لفصائل المعارضة السلفية المسلحة والاخوانية، مما زاد من تعقيد الوضع.
كانت السعودية حذرة في نهجها، “توازن بين رغبتها” في “إضعاف الأسد” و”مواجهة النفوذ الإيراني” والمخاوف بشأن صعود تنظيمات السلفية المسلحة أو الجماعات ذات “الإيديولوجيات المتطرفة”. وفي الوقت نفسه، كان “تركيز تركيا” غالبًا على “تأمين حدودها” ضد “القوات الكردية”، مما أدى إلى توترات مع السعودية وقوى إقليمية أخرى.
ساهم الاختلاف في الأهداف والمصالح في سوريا بين السعودية وتركيا وقطر في الاحتكاك داخل الشراكة. لم يتماشى دعم السعودية لبعض فصائل المعارضة دائمًا مع “تفضيلات قطر” أو تركيا، مما أدى إلى “نقص التنسيق” و”الاستراتيجية المشتركة”.
وكنّا أمام مشهد مثير للإهتمام حول التجاذب السعودي التركي في الملف السوري، كما عكسته زيارة الرئيس الانتقالي أحمد الشرع إلى السعودية في 2 فبراير 2025 وزيارته التالية إلى تركيا بعد يومين. قد يبدو الترتيب موصولًا بمستوى العلاقة، ولكن في الحقيقة لا يعدو الأمر شكليًا، فالسعودية المسكونة بالهواجس إزاء أي طرف لا يمنحها الولاء المطلق، لديها تفسيرها الخاص بتقديم الشرع زيارته للسعودية على تركيا، فقد تجمعت لديها معطيات حول شخصية الشرع نفسه وأيضًا حول الدور التركي في المتغير السوري وماذا تخطط أنقرة لفعله في سوريا وماذا يمكن للسعودية أن تحصل عليه من الكعكة السورية.
أظهر جمهور من السوريين رغبة في التوجّه جنوبًا، أي إلى السعودية، لاعتبارات قومية واقتصادية واجتماعية، وربما دينية على أساس المشترك السلفي بين السعودية وسوريا الجديدة (أئمة المدرسة السلفية يتحدّرون في الغالب من سوريا مثل شيخ الإسلام ابن تيمية، وابن قيم الجوزية، وابن كثير الدمشقي، وابن الجوزي، والعز بن عبد السلام ….). وربما يجتمع القوميون السوريون وشركاؤهم السلفيون في الميول نحو السعودية ويفضّلونها على تركيا أيضًا لأسباب قومية ودينية (مذهبية) على أساس أن الحزب الحاكم في تركيا مصنّف على الاخوان المسلمين.
وعلى الرغم من أن القيادة السورية الجديدة قد أجرت تعديلًا شكليًا على توجّهاتها الإيديولوجية وأصبحت أقرب الى توجهات حزب العدالة والتنمية التركي، ولكن في العمق ثمة مكوّن سلفي فاعل يبقي على عناصر هيئة تحرير الشام في المربع السلفي ويشدّهم إلى الانتماء الأصلي للعقيدة السلفية. وهذا ما تراهن عليه السعودية في تأكيد مرجعيتها للطبقة الحاكمة في سوريا الجديدة، حيث تضطر، لزوم الحاجة، إلى تفعيل الخطاب الديني (على الأقل خارج الحدود) من أجل الاحتفاظ بالصيد الثمين في سوريا، لا سيما بعد الإشارات الايجابية التي وصلت من دمشق والتي تنبىء عن رغبة في بناء شراكة استراتيجية بين دمشق والرياض. بطبيعة الحال، لن يرضي ذلك أنقرة التي تحسب أنها صانعة المنجز في سوريا، وكما استأثر الشرع وهيئته بالسلطة فإن تركيا هي الأخرى ترى في نفسها الطرف الأكثر جدارة بنيل الحصة الأكبر في الكعكعة السورية لأنها هي من خطّطت ودعمت وقادت المجموعة إلى إسقاط النظام.
وفي ضوء تجارب سابقة في التاريخ السوري، يبدو أن كفة السعودية ترجح دائمًا حين يتعلق الأمر بخيارات المسؤولين السوريين في السياسة الخارجية. في التاريخ السياسي السوري، يقال أن شكري القوتلي (وزير المالية والدفاع ورئيس الجمهورية في سوريا لدورتين في 1943 و1955)، زار السعودية في 8 فبراير 1945 والتقى الملك عبد العزيز في جدة. صدر بلاغ رسمي عن الديوان الملكي السعودي عن الزيارة جاء فيه:”..ولا غرو أن يستقبل جلالته ضيفه الكريم بعاطفة مليئة بالتقدير والمحبة لأن الصلات بين جلالته وفخامة الرئيس قديمة العهد…”. البلاغ لفت إلى مظاهر الحفاوة بالضيف السوري والتي أراد عبد العزيز أن يبرزها في استقباله القوتلي بدءًا من استضافته في قصر خاص والموائد الفاخرة التي أعدّت له في القصر الملكي بحضور أبناء الملك والأمراء ورجال الحكومة وأعيان المسجد الحرام..
ما يلفت في البلاغ هو تأكيده على العلاقة القديمة بين عبد العزيز والقوتلي، وقد ورد في سيرة الأخير أنه أفاد من توتر علاقات عبد العزيز والبيت الهاشمي في الحصول على تمويل للثورة السورية الكبرى التي حصلت بين عامي 1925-1927. وكان نفور عبد العزيز من البيت الهاشمي الذي أريد له أن يحكم سوريا، المكوّن الرئيسي في علاقة ابن سعود والقوتلي الذي بادله الموقف نفسه من الهاشميين من خلفية قومية ونضالية، حيث كان القوتلي من الثوّار المعارضين للاستعمار الأوروبي وتبعًا له البيت الهاشمي في بلاد الشام المدعوم من بريطانيا وفرنسا. باختصار: كان عبد العزيز يخاصم البيت الهاشمي على قاعدة الحد من نفوذهم في بلاد الشام بما يهدد حكمه المستقبلي، بينما كان القوتلي يخاصم الهاشميين المدعومين من قوى الاستعمار البريطاني والفرنسي.
المثير في قصة القوتلي أن عائلته تتحدّر من الحجاز وقد درس العلوم السياسية في استانبول، وناضل ضد الانتداب الفرنسي، وكان يتلقى المساعدات المالية السعودية حتى وفاته سنة 1967. ومع ميوله القومية، حيث كان على علاقة وطيدة بالرئيس جمال عبد الناصر ولجأ إليه بعد مغادرته سوريا الى سويسرا فإنه أيضًا حافظ على علاقته الوثيقة بالملك سعود، ولاحقًا بالملك فيصل. وبعد اندلاع الخلاف بين عبد الناصر والسعودية اختار الأخيرة وبقي كذلك حتى رحيله. فهل يعيد التاريخ نفسه مع الشرع والتجاذب السعودي التركي، وهو من مواليد الرياض ودرس في مدارسها بعض الوقت، ولكنه جاء إلى الحكم برعاية تركية، وهو يحمل الجنسية التركية ويتقن لغتها أيضًا.
في ضوء ما سبق، يطرح سؤال كبير: هل تقبل السعودية بالشراكة مع تركيا في الملف السوري؟
من المنظور السوري، التعاون بين تركيا والسعودية خيار مثالي، لأنه يجمع كل الشركاء الذين يمكن الإفادة منهم لاعادة إعمار سوريا، وتحقيق الاستقرار الأمني والاقتصادي والسياسي فيها. وقد بذلت تركيا مجهودًا لافتًا من أجل استيعاب مصالح السعودية وحتى دول خليجية وعربية أخرى في سوريا الجديدة، من أجل طمأنة الأطراف العربية الى أنها لن تكون أنانية الى الحد الذي تغلق الأبواب أمام العرب جميعًا، والسعودية على وجه الخصوص. ساهم الجهد التركي ذاك في تخفيف حدة المواقف إزاء النظام السوري الجديد بهويته الإسلامية ـ السلفية. ومن نتائج ذلك، مسارعة السعودية ودول خليجية أخرى الى توفير البيئة الحاضنة للنظام السوري وإعادة تموضعه العربي.
ولكن هل يمكن القول بأن السعودية تجاوزت المعضلة العويصة التي تسبّبها أردوغان لمحمد بن سلمان بعد فضح دوره في مقتل الصحافي الحجازي جمال خاشقجي في نوفمبر 2018، وملفات أخرى مثل اشتراك السعودية والامارات أول مرة في في اسقاط حكومة محمد مرسي الحليف الايديولوجي لأردوغان في يوليو 2013، ومحاولة الإنقلاب عليه في يوليو 2016، والأزمة مع قطر في 2017، وكذلك الحرب في ليبيا. بالنسبة إلى تركيا، كل هذه الملفات قابلة للحذف من الإرشيف الدبلوماسي التركي، بشرط أن تكون هناك مرونة لدى السعودية في القبول بشراكة متعددة الأطراف، وأن تكون تركيا شريكًا مكتمل الأوصاف وبحصة الأسد في الملف السوري.
ولكن، وكما هو منطق الصراعات بين الدول، فإن تكتيكات الطمأنة والمرونة والمجاملات هي ذات مفعول نسبي ومؤقت، وإن التباعد وتاليًا الاحتكاك والتناقض سوف يفرض نفسه على سياسات السعودية بدرجة أساسية كما في كل جولة خاضتها في حلبات التنافس في الإقليم أو حتى خارجه. وإنّ المواقف التي كانت تطلقها السعودية ضد إيران من منطلق التنافس السياسي والتزاحم سوف توجّه إلى تركيا وللسبب ذاته، خصوصّا حين يبدأ السباق الحقيقي حول النفوذ الاقتصادي والسياسي، وتعارض الأولويات لدى كل طرف، وتدابر الاستراتيجيات والتحالفات الاقليمية والدولية، كما حصل في الماضي.
السعودية بحساسيتها العالية المعهودة، سوف تراقب عن كثب الدور التركي في سوريا الجديدة، ولن تقبل بأي محاولة لنقل التجربة الى خارج الحدود بمساعدة تركية، خصوصًا وأن سوريا باتت اليوم البيئة الحاضنة للسلفية في المنطقة، وسوف تكون المملكة السعودية المنطقة الأكثر ترشيحًا لاستقبال أول موجة سلفية يمكن أن تتسرب الى داخل حدودها من الشمال.
أي خطأ مقصودًا كان أم غير مقصود من جانب النظام السوري الجديد سوف تحمّل السعودية مسؤوليته لتركيا، بصفتها الراعي الفعلي للمتغيّر السوري. وهذا الهاجس هو ما يدفع السعودية الى سحب سوريا الجديدة بالكامل الى حضنها وإخراجها من الفلك التركي، وعدم تكرار التجربة السابقة حين كان النظام السوري حليفًا استراتيجيًا لايران.
في النتائج، ثمة تحديّات جدّية تواجه السعودية للقبول بمبدأ “الشراكة” و”تقاسم” المصالح، انطلاقًا من تصوّرها لمكانتها، وتاليًا لحصتها في النفوذ. وبصرف النظر عن دورها، فهي تفترض أن هناك مساحة محجوزة لها في المعادلات الجيوسياسية في المنطقة، وهذا يفرض على كل اللاعبين تقدير المساحة المحجوزة لها ودفع ثمنها مقدّمًا، لأنها حصلت عليها بالوراثة!