
يواجه الاقتصاد السعودي مجموعةً معقدةً من التحديات والمخاطر في أعقاب زيادة إنتاج النفط وتاليًا انخفاض الأسعار بصورة حادة، وكذلك تراجع الاستثمارات الأجنبية، مما قد يُقوّض أهداف ابن سلمان في تنويع الاقتصاد بموجب رؤية 2030.
وإذ تُعد السعودية أكبر مُصدر للنفط في العالم، حيث يمثّل 60% من الإيرادات الحكومية في عام 2024، فيما يشكّل النفط الخام والغاز الطبيعي أكثر من 20% من الناتج المحلي الإجمالي للبلاد خلال نفس الفترة، فإن موازنة الميزانية العامة يتطلب وصول سعر برميل النفط إلى 100 دولار، بحسب جيمس سوانستون، كبير الاقتصاديين في كابيتال إيكونوميكس. ويقدر تيم كالين، الرئيس السابق لصندوق النقد الدولي في السعودية، أنه مع وصول سعر برميل النفط إلى 60 دولارًا أمريكيًا، سيبلغ العجز المالي للمملكة السعودية 62 مليار دولار أمريكي، أي أكثر من ضعف 27 مليار دولار أمريكي المقدرة في ميزانيتها السنوية[1].
وعلى الرغم من محاولات تخفيض الاعتماد على النفط كمصدر دخل رئيس، لا يزال أسس اقتصادها على النحو الآتي: 45% من إجمالي الناتج المحلي و 80% من إيرادات الميزانية و90% من عائدات التصدير[2].
وكانت مجلة (The New Republic) قد نشرت تقريرًا في 28 أبريل 2025 بعنوان (أحلام السعودية باقتصاد مستدام تغرق في النفط)، ولفت الانتباه إلى التغيّر المفاجىء في خطّة ولي العهد محمد بن سلمان الاقتصادية، إذ أعيد تسمية استراتيجية التنوع الاقتصادي واستبدال رؤية 2030 برؤية 2034 ربطًا بالعام الذي سوف تستضيف فيه السعودية كأس العالم لكرة القدم. وتعلّق المجلة: “إن التضليل البيئي – وهو مصطلح يُطلق على الشركات أو المنظمات التي تُصوّر نفسها على أنها أكثر استدامة مما هي عليه في الواقع – في طريقه إلى الزوال، وحلّ محله التضليل الرياضي. مع انخفاض أسعار النفط وتكيّف المجتمع الدولي مع القيادة الأمريكية التي لا تُبالي بالمناخ أو البيئة، تبدو رؤية عام 2017 لسعودية جديدة واعية بيئيًا وكأنها حلم بعيد المنال”[3].
وفي توصيف تهكمي للمجلة أن السعودية وبدلًا من أن تحمل بشارة بالتحوّل الى مزيج بين وادي السيليكون ومحطة الفضاء الفاخرة، فإن هذه المملكة الصحراوية تتطلّع لأن توسّع إنتاج النفط والتحوّل الى البلاستيك في إشارة الى توجّه السعودية نحو تخصيص حصة وازنة من استثماراتها في الصناعات البلاستيكية.
وكما هي العادة دائمًا، فإن التبدّل الدراماتيكي في وجهة الاقتصاد السعودي وترحيل كثير من المشاريع الحيوية المرهقة ماليًا لن يتم بصورة علنية ورسمية بل سوف يتضح ذلك من خلال تقلّص الاهداف بصورة تدريجية. وقد لحظنا أولى الإشارات من تقليص مشروع ذا لاين الذي كان مقرّرًا له أن يمتد على مساحة تصل الى 170 كيلومترًا بكلفة نصف تريليون دولار، ولكنّ بعد سلسلة اخفاقات في توفير التمويل اللازم وتراجع جدوى المشروع، تقلّص الى 2.4 كيلومترا. وقد كشف تقرير صحيفة (وول ستريت جورنال) في 7 مايو 2024 بناء على وثائق خاصة بمشروع نيوم، أن المملكة “تهدر” الأموال على المشروع، كما كشف بعض العيوب الخطيرة في تصميم مدينة “ذا لاين”. وقالت الصحيفة إن المملكة لم تنفذ الكثير من خطط المرحلة الأولى “في مواجهة حقيقة التكاليف في وقت تنفق فيه البلاد أكثر بكثير مما تجنيه”. ويخطط المنظمون لبناء حوالي 2.4 كيلومتر من “ذا لاين” في المرحلة الأولى بحلول عام 2030. وتقول الصحيفة إن محمد بن سلمان “يخاطر بإهدار قدر كبير من أموال البلاد على تجربة غير مسبوقة في بناء المدن، قد يكون من الصعب للغاية تنفيذها”[4].
حين تكون الأحلام تتجاوز بمسافات ضوئية مصادر التمويل تقع الكارثة الاقتصادية، ومع تهاوي التوقعات حول الاستثمار الاجنبي ومصادر التنوّع الاقتصادي في مقابل تخفيض الاعتماد على النفط بات من الحتمي الهبول السريع إلى الأرض والتفكير بواقعية من أجل تفادي المزيد من الخسائر..
وكانت مجلة (ذا نيوريببلك) قد أعادت التذكير بالوعد الذي أطلقه محمد بن سلمان سنة 2016 في خضم إعلان رؤية 2030: “أعتقد أنه في عام 2020 يمكننا العيش بدون نفط”. الآن، نحن في عام 2025، والسعودية وأعضاء آخرون في أوبك+ بصدد إنهاء تخفيضات إنتاج النفط الطوعية التي كانت ساريةً منذ أكتوبر 2022، بإضافة 411 ألف برميل يوميًا مُخطط لها بدءًا من مايو.
وإذ لا تزال تمسك السعودية بورقة النفط، بصفتها الدولة الأكثر انتاجًا للنفط في منظمة أوبك، فإنها تستخدم هذه الورقة في غير مصلحتها أحيانًا لمجرد تلبية المطلب الأميركي. فمن المقرر أن يواصل إنتاج السعودية في 2026 الارتفاع، أي إلى نحو 9.534 مليون برميل يوميًا في يناير المقبل، مواصلًا ارتفاعه تدريجيًا حتى نهاية ذلك العام. وسيبلغ إنتاج السعودية من النفط نحو 9.978 برميل يوميًا خلال الربع الأخير من عام 2026، بدءًا من سبتمبر إلى ديسمبر. ووفقًا لبيانات حصص إنتاج النفط لدول تحالف أوبك+ يبلغ مستوى إنتاج السعودية من النفط في 2025 و2026 نحو 10.478 مليون برميل يوميًا، قبل أيّ تعديلات إضافية. وقد بلغ إنتاج السعودية من النفط الخام، في أكتوبر 2024، نحو 8.968 مليون برميل يوميًا[5].
ومن المعلوم، أن الاعتماد المفرط على تقلبات أسعار النفط سوف ينعكس حكمًا على الأداء الاقتصادي، حيث يُعرّض ارتفاع إنتاج النفط الاقتصاد لتقلبات الأسعار العالمية. وإذا ما انخفضت الأسعار بسبب فائض العرض، أو انخفاض الطلب (مثلاً، نتيجةً لتحولات الطاقة)، أو التحولات الجيوسياسية، فقد تتقلص الإيرادات، مما يُفاقم العجز المالي.
إن ثمة مخاطرة واضحة في التلاعب بديناميكات أوبك+، لناحية الموازنة بين زيادة الانتاج مع اتفاقيات المنظمة بتوترات داخلية والذي قد يُزعزع استقرار جهود إدارة السوق.
من جهة ثانية، إن التحولات العالمية نحو مصادر الطاقة المتجددة والمركبات الكهربائية يهدّد بتقويض هيمنة النفط، الذي يُشكّل تحدّيًا للنموذج الاقتصادي للمملكة السعودية.
ولناحية التداعيات أيضًا، نلحظ تراجعًا ملحوظًا في الاستثمار الأجنبي الذي يشي بعطب بنيوي في رؤية 2030، وتاليًا انعكاسه على خطة تنويع مصادر الدخل، حيث تعتمد الرؤية على رأسمال المال الأجنبي في قطاعات حيوية مثل السياحة والتكنولوجيا والبنية التحتية، ومن شأن انخفاض الاستثمار الأجنبي إبطاء وتيرة خلق فرص العمل والابتكار، الذي يديم الاعتماد على النفط.
وعلى الرغم من الجهود المبذولة لجذبه الى السوق المحلية، فقد توقف الاستثمار الأجنبي المباشر وفي الربع الثاني من عام 2024، ظل الاستثمار الأجنبي المباشر منخفضّا عند حوالي 5.2 مليار دولار، وهو نفس مستوى العام السابق، مما يُبرز التحديات التي تواجه تحقيق هدف رؤية 2030 المتمثل في جذب 100 مليار دولار من الاستثمار الأجنبي المباشر بحلول عام 2030.
ويؤشر هذا الانخفاض الى عدم ثقة المستثمرين الأجانب في قدرة السوق السعودية على توفير فرص ربحية للمستثمر الأجنبي، وحالة اللايقين التي تسود الاقتصاد السعودي وكذلك العالمي، وكذلك التغييرات التنظيمية، والمخاوف بشأن مناخ الاستثمار المحلي[6].
لا شك أن حالة اللايقين السياسي التي تعيشها المنطقة والمخاطر الجيوسياسية وعدم الاستقرار الإقليمي وكذلك التحوّلات في السياسية الاميركية السعودية سوف تؤدي إلى زعزعة ثقة التجارة والمستثمرين، وهو ما يشكل أساس القرار الذي يستند إليه المستثمرون. ومن سوء حظ إبن سلمان أن رؤيته ولدت في مرحلة تعد من أشد المراحل توترًا على المستويين الأمني والعسكري، وقد شارك إبن سلمان نفسه في صنع بعض حوادثها مثل الحرب على اليمن (مارس 2015)، والأزمة مع قطر (في يونيو 2017)، وحملة اعتقالات الريتز (أكتوبر 2017)، واختطاف رئيس حكومة لبنان سعد الحريري، وتاليًا اغتيال الصحافي الحجازي جمال خاشقجي وتقطيع أوصاله (نوفمبر 2018).
وكان موقع (Investment Monitor) قد نشر في 28 أبريل 2025 احصائية جديدة عن انخفاض الاستثمار الأجنبي المباشر في المملكة السعودية إلى أدنى مستوى له في ثلاث سنوات، وفقًا لتقرير حكومي سنوي، أي بنسبة 19% لتصل إلى 20.7 مليار دولار أمريكي (77.63 مليار ريال سعودي) في عام 2024، وهو أدنى مستوى لها منذ عام 2020. في عام 2021، جذبت المملكة السعودية 32.5 مليار دولار أمريكي من الاستثمار الأجنبي المباشر، تلتها 31.7 مليار دولار أمريكي في عام 2022 و25.6 مليار دولار أمريكي في عام 2023. تشير الأرقام المتناقصة إلى أن المملكة تواجه صعوبة في جذب رأس المال الأجنبي. ويشير التقرير إلى “انخفاض السيولة العالمية وتشديد الأوضاع النقدية” كأسباب للتباطؤ الاقتصادي. وينعكس هذا التشديد النقدي أيضًا في انخفاض الاستثمار الأجنبي المباشر الصادر من المملكة السعودية. فبينما كان الحصول على التمويل من صندوق الاستثمارات العامة السعودي محوريًا قبل بضع سنوات، أصبح هناك تحوّل نحو المشاريع المحلية، وعزّز هذا الخيار السياسة النفطية السعودية الجديدة التي أدّت إلى المزيد من التقشف المالي.
ومع ذلك، فقد أعلنت السعودية استعدادها لتحمل عجز في الميزانية للمضي قدمًا في مساعيها لتنويع اقتصادها الذي تبلغ قيمته تريليونات الدولارات[7]. إنه رهان غير مضمون دائمًا وينطوي على مغامرة خطرة، وهو بمثابة المشي على الحافة، مما يتطلب حذرًا شديدًا وحسابات دقيقة لأن تفاقم العجز يتطلب حكمًا اللجوء الى الاقتراض وتاليًا مراكمة المزيد من الديون وهذا يؤدي على المدى البعيد إلى إنضاب منابع الثروة وتكريس جزء أساسي منها في تمويل الدين العام بدلًا من تمويل المشاريع التنموية والانتاجية.
في أواخر عام 2024، صرّح وزير الاقتصاد السعودي، فيصل الإبراهيم، لتلفزيون بلومبيرغ بأنه بعد التركيز على الوصول إلى عجز صفري، “أدركنا أن العجز المُصمّم في منطقة مستقرة بين 2% و3% يُعدّ خيارًا جيدًا للاستثمار في القطاعات الاقتصادية المناسبة”[8].
اعتبارًا من عام 2024، يُدير صندوق الاستثمارات العامة أصولًا بقيمة 940 مليار دولار؛ ومع ذلك، تأمل السعودية في زيادة هذا الرقم إلى 2.67 تريليون دولار بحلول عام 2030. كما تستهدف المملكة تدفقات استثمار أجنبي مباشر سنوية بقيمة 100 مليار دولار بحلول بداية العقد المقبل. ولكن بات هذا السقف بعيد المنال، بالنظر إلى أن أسعار النفط قد لا تتعافى قريبًا. ووفقًا لصندوق النقد الدولي، تحتاج السعودية إلى أن يصل سعر برميل النفط إلى 90 دولارًا أمريكيًا لتحقيق التوازن في ميزانيتها[9].
وكانت أسواق النفط الخام قد شهدت تقلبات حادة في مطلع شهر مايو 2025، بعد قرار مفاجىء صادر عن منظمة أوبك+ والمتعاونون معها بإعلان عن زيادة في الإنتاج لشهر يونيو بكميات تجاوزت التوقعات بشكل ملحوظ. وفي اجتماع عقد افتراضيًا في 3 مايو 2025 بين كبار المنتجين، وعلى رأسهم السعودية وروسيا، تمّ الاتفاق على رفع سقف الإنتاج الجماعي بمقدار 411 ألف برميل يوميًا، أي ما يقارب ثلاثة أضعاف الزيادات التي كانت مقرّرة في السابق. أدّت هذه الخطوة غير المتوقعة إلى هبوط حاد في أسعار النفط، حيث هوت أسعار خام النفط إلى 56.54 دولار للبرميل، فيما هبطت أسعار خام برنت إلى 59.6 دولار للبرميل[10].
إن هذا الهبوط المفاجىء يكشف أولًا عن مستوى اعتماد الاقتصاد السعودي على مبيعات النفط، كما يبعث برسالة سلبية إلى المستثمرين الأجانب، الذين يراهنون على ملاءة مالية متينة ووضع اقتصادي مستقر.
لا ريب، إن ثمة أسبابًا رئيسة تحول دون اندفاع المستثمرين الأجانب إلى سوق يخضع تحت تأثير عدم الاستقرار الجيوسياسي ولا سيما الصراعات الاقليمية وتصاعد التوتّرات الأمنية في منطقة مرشّحة لأن تنزلق الى حرب مفتوحة محدودة أو واسعة، وكذلك العقبات التنظيمية، أو المخاطر المُتصوَّرة في القطاعات الناشئة (مثل نيوم).
وعلى الرغم من حجم صندوق الاستثمارات العامة الذي يناهز التريليون دولار، فإن ثمة ضغوطات كبيرة تواجه الصندوق لناحية التعويض، الذي يُرهق الموارد في حال شحّ السيولة العالمية.
ويبقى تحدي الاستدامة المالية شاخصًا على الدوام في ظل عجز متصاعد، مما يُجبر تراجع أسعار النفط على خفض الإنفاق أو زيادة الاقتراض، وهذا يُنذر بتداعيات تقشفية (مثل إصلاحات الدعم لعام 2016). وقد سجلّت ميزانية السعودية في الربع الأول من عام 2025 عجزًا قدره 58.7 مليار ريال (15.6 مليار دولار)، وهو عاشر عجز فصلي على التوالي، وفق بيانات وزارة المالية المعلنة في 5 مايو 2025.
وفيما ارتفع مستوى الانفاق العام بنسبة 5% على أساس سنوي، مدفوعاً بزيادة تعويضات العاملين، إلى جانب نمو مصروفات السلع والخدمات والمنافع الاجتماعية، تراجعت، في المقابل، الإيرادات الإجمالية بنسبة 10% إلى 263.6 مليار ريال، نتيجة انخفاض الإيرادات النفطية بنحو الخُمس. وهذا أدى إلى ارتفاع العجز في الموازنة وقدّر بنحو 60 مليار دولار لسنة 2025، فيما ارتفع الدين العام الى 1.3 تريليون ريال، أي بزيادة منذ بداية العام بنسبة 9%. وفي حين زاد الدين الداخلي بنسبة 8% إلى 797.1 مليار ريال، فقد ارتفع الدين الخارجي 11% إلى 531.7 مليار ريال.
وفق خطة الاقتراض السنوية التي اعتمدتها السعودية للعام 2025 يتوقع أن تبلغ الاحتياجات التمويلية نحو 139 مليار ريال سعودي (نحو 37 مليار دولار أميركي)، بارتفاع نسبته 61% عن خطة اقتراض عام 2024. وكانت السعودية قد اقترضت في الربع الأول نحو 83% (ما يعادل 114.8 مليار ريال) من احتياجاتها التمويلية لعام 2025 والبالغة 139 مليار ريال[11]. إن الزيادة في صافي الدين، تسبب في رفع نسبة الدين للناتج المحلي إلى 30.5 في المائة[12].
تحاول صحيفة (الرياض) تهدئة مخاوف المواطن والمستثمر المحلي والأجنبي من التداعيات الاقتصادية والمالية لهذه التطوّرات غير المسبوقة، بإشاعة أجواء تفاؤلية عن المستقبل ولكن غير واقعية. وتشير الى توقعات غير مبنية على معطيات رسمية أو حتى غير رسمية ولكن موثوقة تفيد بإمكانية “تقليص العجز خلال الأرباع القادمة، لا سيما مع تحسن أسعار النفط، واستمرار الأداء الإيجابي للإيرادات غير النفطية، وضبط المصروفات الحكومية”[13]. والحال أن أسعار النفط غير مرشّحة للتحسّن وكذلك العجز أو المصروفات الحكومية غير المنضبطة.
وكان “المركز الوطني لإدارة الدين” قد ذكر في بيان سابق أنه سيخصص 101 مليار ريال من القروض الجديدة لتغطية العجز السنوي المتوقع ، على أن يتم تخصيص 38 مليار ريال (10.1 مليار دولار) لسداد مستحقات أصل الدين[14].
وزير المالية السعودية محمد الجدعان حاول أيضًا أن يشيع أجواء إيجابية حول تداعيات ارتفاع الدين العام والعجز في الموازنة السنوية ربطًا بزيادة الإنفاق على المشاريع، وقال بأن هذه الزيادة سوف تحقق عائدًا اقتصاديًا يفوق تكلفة الاستدانة لتغطيته”. وعلى خلاف قوانين الاقتصاد يرى الجدعان إمكانية “التوسع في الإنفاق” مع أن هذا التوسّع زاد من مستوى العجز خلال السنوات السالفة، وإن العائد لم يكن على قدر كلفة الاستدانة، بحسب الارقام سالفة الذكر، وليس كما يدّعي الجدعان بأن “العائد على الاقتصاد أكبر من كلفة الاستدانة لتغطية هذا العجز”. ولذلك يخطط لمزيد من الاستدانة بناء على التبرير ذاته بأن العائد على الانفاق أعلى من كلفة الدين. وقد اختارت السعودية التوسع في الإنفاق خلال الربع الأول من عام 2025، حتى وإن تطلّب الأمر تحمّل عجز مالي هو الأعلى منذ أكثر من سنتين[15].
وفي حال تواصل تراجع أداء عائدات النفط أن يفاقم ارتفاع الدين العام (أكثر من 30% من الناتج المحلي الإجمالي في عام 2023)، والذي سوف ينعكس حكمًا على التصنيفات الائتمانية وتكاليف الاقتراض.
وعلى مستوى التداعيات، ثمة أنواع من الضغوط الاجتماعية والاقتصادية تفرض نفسها من بينها البطالة وسط الشباب، إذ مع وجود حوالي 58% من السكان دون سن الثلاثين، فإن تباطؤ نمو القطاع الخاص وتشبّع القطاع العام يُنذران باضطرابات اجتماعية. وعلى الرغم من تلاعب السلطات السعودية بالأرقام حول العدد الحقيقي للعاطلين عن العمل، حيث تتمسك الاحصاءات الرسمية بأن نسبة البطالة انخفضت من 11.7% في العام 2024 الى 7% في العام 2025، فيما تشي مقارنات بين نسبة المواطنين ذكورًا وإناثًا في قوة العمل المحلية الى فجوة تصل الى 37%، وإن نسبة البطالة بين الإناث تتجاوز 30%. وتؤشّر ردود فعل كثير من المواطنين على الاحصاءات الرسمية إلى أن الأرقام الرسمية غير واقعية إذ لا معطيات مادية تسندها، فضلًا عن إمكانية التلاعب والتضليل بحساب القناعة المبطنة، أو الموظفين بأجور متدنية للغاية لا تكفي لسداد أدنى الاحتياجات الأساسية على أنهم جزء من قوة العمل..إن تقديرات معتدلة تشير إلى أن البطالة بين المواطنين تتجاوز 20%، وإن اعداد العاطلين عن العمل بحسب مصادر محايدة بلغ في عام 2017 نحو 900 ألف مواطنًا نصفهم من حملة الشهادات الجامعية. وبحسب أحد المراقبين المحليين: ليس من بيت في مملكة النفط إلا وفيه عاطل عن العمل واحد على الأقل. ترد المواطنة مها بنت عبد الله على فهد الدغيثر، الكاتب في صحيفة (عكاظ) في 27 يونيو 2021 بأن نسبة البطالة أقل من 7%، بأن نسبة البطالة تجاوزت 30% وتقول”إن كل بيت فيه 2ـ3 عاطلين شباب وبنات منهم أخواتي 3 خريجات بكالوريوس تخصصات متنوعة عاطلات عن العمل”.
ما يثير السخرية، منذ اعلان محمد بن سلمان عن رؤية 2030 ومن بين أهدافها خفض البطالة الى 7% بحلول 2030، أصبحت الصحف تردد هذه النسبة حتى قبل الموعد المضروب.
وكانت مجلة (فوربس) في نسختها الفرنسية قد نبّهت إلى أن وضع المملكة السعودية أسوأ بكثير مما يظنه معظم الناس “فالسعودية موطنٌ لنسبةٍ كبيرة من الشباب، إذ أن نصف سكانها دون سن الخامسة والعشرين، و35% منهم عاطلون عن العمل. ومع انخفاض أسعار النفط إلى مستوياتٍ قياسية وتراجع الاحتياطيات النقدية، لا تستطيع الدولة السعودية تحمّل توسيع نطاق الحماية الاجتماعية لتلبية الاحتياجات الاقتصادية لشبابها. ويدرك جميع علماء السياسة أن تنامي أعداد الشباب هو عامل الخطر الرئيسي للثورة”[16].
لم تتبدّل الأرقام كثيرًا بمرور الوقت بل زادت تفاقمًا، وإن السلطات السعودية تحاول تحسين صورة اقتصادها من أجل جذب الاستثمارات الاجنبية والحصول على تصنيف ائتماني مرتفع، فيما الحقيقة على الأرض تقول غير ذلك. بحسب احصائية غير رسمية في مارس 2025 أن هناك 6 آلاف طبيب سعودي عاطلون عن العمل، وعشرات أضعاف هذا الرقم من حملة الشهادات الجامعية والفنية من لا يزالون يجوبون مؤسسات القطاعين العام والخاص للبحث عن فرص عمل.
ثمة مشكلة تقنية تضاعف من أعداد العاطلين عن العاملين وهي النقص الحاد في المهارات التقنية لدى العديد من الباحثين عن العمل مما يعقّد جهود التوطين، ولكن هذه المشكلة لا يتحمل المواطن مسؤوليتها وحده، بل على العكس إن الحكومة تتحمل القسط الأكبر من المسؤولية لأنها من تدير قطاعي التعليم والعمل، وهي قادرة على تحديد الحاجات، وتوزيع المخصصات المالية بحسب المهارات المطلوبة.
وما يضغط على الاقتصاد السعودي أيضًا، هو المنافسة المحتدمة في سوق النفط وسياسات الطاقة العالمية، وقد ازدادت حدّة المنافسة مع دخول النفط الصخري الأمريكي على خط المنافسة إلى جانب النفط الروسي مما زاد الضغط على الأسعار.
ثمة سباق مع الزمن لا بد للمملكة السعودية أن تخوضه للحفاظ على قيمة النفط كسلعة ليست ناضبة فحسب بل وأيضًا مضرة بالبيئة، وإن توسعها النفطي في ظل تعهدات عالمية بتحقيق صافي انبعاثات صفري سوف يُنفّر المستثمرين المهتمين بالحوكمة البيئية والاجتماعية والمؤسسية. في المقابل، إذا كانت السعودية مهمتمة بالتوازن الاقتصادي فإن جنوحها نحو الاستثمار في المجال النفطي سوف يكون على حساب استثمارات الطاقة المتجددة (مثل الطاقة الشمسية).
ولابد من إلفات الانتباه الى المشكلة القديمة، البيروقراطية والتشريعية التي كانت أحد الأسباب الرئيسية في عزوف المستثمرين ورجال الاعمال عن وضع أموالهم في السوق السعودية. فعلى الرغم من التغييرات التي قام بها ابن سلمان لتسهيل مشاريع رؤية 2030، فإن البيروقراطية وقوانين العمل الصارمة والحوكمة غير الشفافة لا تزال باقية، مما يُثني الشركات الأجنبية عن الدخول إلى السوق السعودية، وهذا يجعل اقتصادات أخرى مثل اقتصاد الامارات وقطر أكثر تنوّعًا وجاذبية للمستثمرين الأجانب.
وفي نهاية المطاف، يقف الإقتصاد السعودي عند مفترق طرق. ففي حين أن زيادة إنتاج النفط تُوفّر إيرادات قصيرة الأجل، إلا أنها تُخاطر بتعميق نقاط الضعف الهيكلية. إلى جانب تراجع الاستثمارات الأجنبية، تُهدد هذه التحديات نجاح رؤية 2030. ويتطلب التخفيف من هذه المخاطر تسريع الإصلاحات، وتعزيز ثقة المستثمرين من خلال الاستقرار، وتنويع مصادر الدخل بشكل كبير بعيدًا عن النفط. وستحدد قدرة المملكة على مواجهة هذه التحديات مرونتها الاقتصادية في ظل بيئة عالمية متغيرة.
[1] Oil prices might not recover soon. Here’s what that means for Saudi Arabia’s ambitious transformation plans, CNN, April 29, 2025; https://shorturl.at/PBwl7
[2] الاقتصاد الحضري والموارد المالية البلدية- السعودية، UNHABITAT.ORG الرابط:
[3]Saudi Arabia’s Dreams of a Sustainable Economy Are Now Drowning in Oil, The New Republic, 28 April, 2025; https://surl.li/yrlwmn
[4] World’s Biggest Construction Project Gets a Reality Check, Wall Street Journal, May 7, 2024; https://shorturl.at/pO10j
[5] إنتاج السعودية من النفط في 2025 و2026.. تفاصيل بالأرقام، الطاقة، 14 ديسمبر 2024، الرابط:
[6] https://finsworld.com/economy/saudi-arabia-faces-downward-trend-in-foreign-direct-investment?utm_source=chatgpt.com
[7] Saudi Arabia’s FDI drops to three-year low, Investment Monitor, 28 April 2025; https://rb.gy/xfehy9
[8] Saudi non-oil activities to keep growing, Bloomberg, 11 December 2024; https://rb.gy/ka4k8r
[9] Saudi Arabia’s 2025 budget balances spending with stability, Al-Majalla, 11 Dec 2024; https://rb.gy/3o9efl
[10] انهيار حاد يضرب أسعار النفط بعد قرار سعودي..وإنفيديا تحت الضغط، Investing.com 5 مايو 2025، الرابط:
https://sa.investing.com/news/commodities-news/article-2870961
[11] ميزانية السعودية تسجل عجزاً للفصل العاشر على التوالي عند 58.7 مليار ريال، صحيفة الشرق، 5 مايو 2025، الرابط:
[12] الدين السعودي ينمو بأعلى وتيرة في عامين مع زيادة الإنفاق رغم تراجع النفط، الاقتصادية، 5 مايو 2025، الرابط:
https://www.aleqt.com/2025/05/05/article_2760791.html
[13] الاقتصاد السعودي يتحدى الظروف العالمية ويسجل نموًا في الإيرادات، صحيفة الرياض، 5 مايو 2025، الرابط:
https://www.alriyadh.com/2130630
[14] خطة التمويل للعام المالي 2025، تقرير خطة الاقتراض السنوية للعام المالي 2025، المركز الوطني لإدارة الدين العام، ص 16 الرابط: https://www.ndmc.gov.sa/IssuancePrograms/Documents/AR_2025_ABP_final.pdf
[15] الجدعان لـ”الشرق”: أتوقع أخباراً إيجابية خلال أسابيع تحد من توترات الأسواق، صحيفة الشرق، 25 أبريل 2025، الرابط: https://surl.li/fqqfdi
[16] Basil Marin, Saudi Prince Mohammed bin Salman’s Entrepreneurial Strategy for Political Stability: NEOM, a $500 Billion Smart City, Forbes.fr, May 4, 2021; https://short-link.m`e/11IOh