مقالات أخرى
أخر الأخبار

من الهامش الى المركز ( فلسطين في السعودية.. قضية داخلية)

New

محاولات شتى جرت في السنوات الماضية من أجل إزالة القضية الفلسطينية من قائمة اهتمامات المواطنين في المملكة السعودية، أو على الأقل إزاحتها الى الهامش بعد أن كانت تتصدّر المشهد على مدى عقود.

في تآزر مع المحاولات تلك، كان التخطيط جاريًا، في الآونة الأخيرة، على تفويض الحاكم الفعلي في الرياض، ولي العهد محمد بن سلمان، مهمة وضع اليد على فلسطين وصولًا إلى إخراجها بصورة كاملة من المشهد اليومي، العربي والإسلامي. تعزّز ذلك بعد اغتيال الكيان الاسرائيلي قائد حركة حماس الشهيد يحيى السنوار حيث بدأت واشنطن تعمل على تسليم فلسطين للسعودية.

كان السيناتور ريتشارد بلومنثال، الحاكم الديمقراطي من ولاية كونتيكت، قد علّق في منشور على موقع X على استشهاد السنوار بالقول: “بعد محادثاتي الأخيرة مع قادة إسرائيل والمملكة السعودية والإمارات العربية المتحدة، يحدوني أمل حقيقي في أن يُتيح موت السنوار فرصًا تاريخية حقيقية لأمن إسرائيل، ووقف القتال، وتحقيق السلام والاستقرار الإقليميين من خلال تطبيع العلاقات. يجب اغتنام هذه الفرصة”.

إن ربط نتائج الحرب الاسرائيلية على قطاع غزة، كما على لبنان، بالتطبيع مع المملكة السعودية، وتخويل الأخيرة مهمّات تفضي في نهاية المطاف إلى تعزيز موقع الكيان الاسرائيلي وتصفية القضية الفلسطينية قد تحوّل الى قضية رأي عام محلي، وهاجسًا لدى ابن سلمان الذي يخشى من تكرار سيناريو نهاية أنور السادات. فقد دفع الأخير حياته ثمنًا لمغامرة التطبيع مع الكيان الاسرائيلي، ويخشى إبن سلمان أن يلاقي المصير ذاته، خصوصًّا وأنه يخوض مغامرة تبدو أشد خطرًا. فما لم يجرؤ السادات على القيام فإن هناك من يراهن على ابن سلمان أن يجرؤ على فعل ما هو أكبر منه وبذلك يلبي مطلب نتنياهو، أي أن يكون السلام مقابل السلام هو أساس التطبيع، وليس السلام مقابل الدولة الفلسطينية. باختصار: سوف يكون تطبيع ابن سلمان مع الكيان الاسرائيلي مجانيًا..

إن النقاشات السابقة حول دولة مستقلة ذات سيادة تدعى فلسطين يتولى محمد بن سلمان ومحمد بن زايد مهمة إعادة إعمارها قد تبدّلت بصورة جوهرية، وإن رئيس الحكومة الاسرائيلية نتنياهو يؤكّد في تصريحاته على أن فلسطين بالكامل باتت اسرائيلية ولا مكان فيها للتنازل، وإذا أراد العرب، والسعودية على وجه الخصوص، إقامة دولة للفلسطينيين فليقيموها على أراضيهم، أي على الأراضي السعودية.

محمد بن سلمان الباحث عن شراكة متميّزة مع الولايات المتحدة تضمن له الحماية إزاء أخطار داخلية بدرجة أساسية، سوف يقاتل من أجل تأمين شراكة تحول دون تهديد مصيره السياسي والبيولوجي أيضًا. فهو يريد اتفاقًا مع الولايات المتحدة يلزمها “بخوض حرب من أجل السعودية” بحسب عضو الكونغرس ليندسي جراغاهام.

وعلى الرغم من ادعاءات المطالبة بالعدالة للفلسطينيين أو دعم حل الدولتين، فإن المسؤولين الأمريكيين نادرًا ما يذكرون حق تقرير المصير الفلسطيني. لم تتضمن أي من خطط ما بعد الحرب المطروحة انتخابات أو عملية تتيح للفلسطينيين إبداء رأيهم في مستقبلهم بعد تحملهم للأزمة الإنسانية الطارئة التي سببتها الحرب الإسرائيلية ضدهم.

وكان واضحًا التركيز عل أمن الكيان الاسرائيلي وإعادة الأسرى الصهاينة، وإن الاتفاق الذي يريده الاميركيون هو تنازل سعودي وعربي للكيان الاسرائيلي والسماح له ليس بالوجود بل والتمدد في المنطقة، وهذا كله يجري أمام مرأى ومسمع شعب الجزيرة العربية بكل مكوّناته.

ولكن ثمة أمر مغفول عنه يضع إبن سلمان في مأزق أمام الشعب في الداخل وأمام شعوب الأمة العربية والاسلامية. فقد أثّرت الأحداث المأساوية والعدوان الإسرائيلي المتواصل على قطاع غزة بشكل كبير على ديناميكيات التطبيع السعودي الإسرائيلي، مما طرح تحديات ومعضلات استراتيجية لابن سلمان.

فمن جهة، أعادت الحرب العدوانية على قطاع غزة إحياء القضية الفلسطينية وإعادتها الى الواجهة وتاليًا تحفيز التضامن العربي والإسلامي مع الشعب الفلسطيني، الذي يجعل سعي المملكة السعودية للتطبيع دون تنازلات ملموسة من الجانب الاسرائيلي محفوفًا بالمخاطر السياسية. فشعب الجزيرة العربية، وإن كان مقيدًا بحدودية التعبير السياسي، إلا أنه يقف إلى جانب الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني، وإن عاطفته مع القضية الفلسطينية أصيلة وتاريخية. وقد يؤدي التطبيع في ظل الظروف الحالية إلى تآكل الشرعية المحلية والإقليمية، لا سيما وأن المملكة السعودية تصوّر نفسها في موقع قيادة العالم الإسلامي وراعيةً للأماكن المقدسة الإسلامية.

ومن جهة أخرى، هناك مبادرة سعودية في 1981 وفي 2002 حظيت باجماع عربي، على الأقل في طرحها الثاني إبان القمة العربية في بيروت في مارس 2002. ولطالما ربطت المملكة السعودية التطبيع بمبادرة السلام العربية، التي تطالب بانسحاب الكيان الاسرائيلي إلى حدود عام 1967 وإقامة دولة فلسطينية. إن المضي قدمًا دون إحراز تقدم على هذه الجبهات من شأنه أن يقوّض إجماعًا عربيًا قائمًا منذ عقود، ويؤدي إلى نفور الدول العربية الأخرى وإضعاف الدور القيادي الذي تحتجزه السعودية لنفسها. وقد أبرزت الحرب الغاشمة على غزة هذا الارتباط بشكل أكبر، حيث تواجه الحكومات العربية ضغوطًا شعبية متزايدة لدعم الحقوق الفلسطينية.

إن الذهاب الى التطبيع بالتنصّل من المبادرتين (مبادرة فهد 1981)، و(مبادرة عبد الله 2002) سوف يمثّل خيانة فرعية (كونها تنطوي على تخلي عن جزء من فلسطين) وسوف يكون قرار التخلي عن المبادرتين بمنزلة خيانة عظمى لأنه تنازل عن كل فلسطين، وهذا ما يعرّض إبن سلمان لخطر التصفية في أي مناسبة.

ومن جهة ثالثة، فثمة تنافسات إقليمية تفرض على النظام السعودي ضبط ايقاعها خشية استغلالها من دول منافسة مثل إيران وتركيا. فإيران تقف عمليًا الى جانب الشعب الفلسطيني وفصائل مقاومته، فيما تقف تركيا إعلاميًا وظاهريًا مع حقوق الشعب الفلسطيني وتقدّم نفسها كمدافعة عن سكّان قطاع غزة. إن التطبيع السعودي دون تنازلات من الجانب الاسرائيلي سوف يضعف، بلا شك، السلطة الأخلاقية للنظام السعودي، ويُضاعف الانتقادات الموجهة له بوصفه “خائنًا” ومتحالفًا مع الولايات المتحدة ضد حقوق العرب والفلسطينيين وتاليًا زعزعة نفوذه الإقليمي.

إن الضغوط الأميركية على النظام السعودي ودفعه نحو التطبيع مع الكيان الاسرائيلي تحت شعار التكامل الاقليمي، فيما تتعاظم الادانة العالمية لجرائم الكيان الاسرائيلي على قطاع غزة تجعل فكرة التكامل الإقليمي بين السعودية والكيان الاسرائيلي خطيرة جدًا، بل إن محمد بن سلمان يخاطر عبر تبنيه المقترح الاميركي بالتكامل مع الكيان الاسرائيلي بالظهور متواطئًا مع السياسات الإسرائيلية التي تُنتقد بكونها غير متناسبة، الذي يُلحق الضرر بسمعة المملكة السعودية على المستوى الدولي، وهي التي تحاول منذ سنوات “تبييض” صورتها وإعادة الاندماج في المجتمع الدولي.

هواجس التطبيع المجاني

إن خشية إبن سلمان من التطبيع المجاني تعود إلى جملة عوامل من بينها:

1 ـ الخوف على الاستقرار الداخلي: على الرغم من السيطرة المركزية الشديدة،  فإن المملكة السعودية ليست بمنأى عن سخط الشارع إزاء قضايا لا تزال تحظى بأهمية خاصة في الوعي الشعبي. فالتطبيع الذي يُنظر إليه على أنه تخلٍّ عن الفلسطينيين قد يُؤجج المعارضة، في الداخل والخارج، ما يشكّل تحديًا لمشروع محمد بن سلمان  ورؤية 2030 التي تعتمد على التماسك الاجتماعي.

2 ـ الموازنة في المساومة الاستراتيجية: فابن سلمان بقدر ما هو مرغم على تقديم تنازلات للكيان الاسرائيلي، ليس من بينها الاعتراف بالكيان، لأن قادة الأخير لم يعد يطلبوا من العرب الاعتراف بدولتهم، فقد تجاوزوا هذا الأمر وأن ما يطلبوه بلسان حالهم: “من أراد السلام معنا لا يناقشنا في دولة فلسطينية على جزء من أرض فلسطين، لأن هذه الأرض هي إسرائيلية من دون منازع، وإذا كان السلام متوقفًا على هذه الدولة الفلسطينية فنحن لا نريد السلام”.

في أغسطس 1981 قدّمت السعودية خطة السلام دون وعد صريح بالتطبيع مع الكيان الاسرائيلي. وكانت عبارة عن مقترح لولي العهد السعودي آنذاك، فهد بن عبد العزيز، وقد تمّ تقديمه رسميًا خلال قمة جامعة الدول العربية في مدينة فاس بالمغرب في نوفمبر من ذلك العام. وتضمنت الخطة عشر نقاط تنص على “انسحاب إسرائيل من “جميع الأراضي العربية المحتلة في عام 1967″، بما في ذلك القدس العربية، وتفكيك المستوطنات الإسرائيلية التي تم بناؤها على “أراض عربية” بعد عام 1967، وضمان “حرية العبادة لجميع الأديان في الأماكن المقدسة” مقابل اعتراف الدول العربية بالكيان الاسرائيلي بكونه دولة في المنطقة، كما جاء في المادة الثامنة بما نصّه: “يجب أن تكون جميع الدول في المنطقة قادرة على العيش في سلام في المنطقة”. كما نصّت المبادرة على “حق الشعب العربي الفلسطيني في العودة إلى منازلهم وتعويض أولئك الذين لا يرغبون في العودة”، وإنشاء “دولة فلسطينية مستقلة” مع القدس عاصمة لها ووضع الضفة الغربية وقطاع غزة تحت “رعاية الأمم المتحدة لمدة لا تتجاوز عدة أشهر”.

اعتمدت المبادرة في القمة العربية في فاس، ورفضها الكيان الاسرائيلي، كما رفضتها دول عربية تعارض التنازل عن أي شبر من فلسطين، ولكن المبادرة أصبحت من الوثائق السياسية السعودية.

وفي مارس 2002 تقدّمت السعودية بمبادرة أخرى  عرفت بـ “مبادرة عبد الله” طرحت في القمة العربية في بيروت، تطالب فيه “الانسحاب الكامل من الاراضي العربية المحتلة بما في ذلك الجولان السوري وحتى خط الرابع من يونيو (حزيران) 1967، والأراضي التي ما زالت محتلة في جنوب لبنان” وحل مشكلة اللاجئين الفلسطينيين وفقًا لقرار الجمعية العامة للأمم المتحدة رقم 194، و”قبول قيام دولة فلسطينية مستقلة ذات سيادة على الأراضي الفلسطينية المحتلة منذ الرابع من يونيو (حزيران) في الضفة الغربية وقطاع غزة وتكون عاصمتها القدس الشرقية”، بعد أن كانت مبادرة فهد تنص على القدس كاملة عاصمة للدولة الفلسطينية.

في مقابل ذلك، سوف تعتبر الدول العربية النزاع العربي الإسرائيلي في حكم المنتهي والدخول في اتفاقية سلام مع الكيان الاسرائيلي و”إنشاء علاقات طبيعية مع إسرائيل في إطار هذا السلام الشامل”.

كانت المبادرة السعودية الثانية بمنزلة مد اليد بشكل صريح لقادة الكيان من أجل التطبيع، وهذه المبادرة جاءت لتجسد رغبة عربية جماعية بالتطبيع مع الكيان الاسرائيلي، بخلاف معاهدة السلام الأحادية الجانب بين الكيان الاسرائيلي ومصر السادات. وبقدر ما خفّف طرح مبادرة سلام جماعية مع الجانب الاسرائيلي الضغوط علىى السعودية، فإنّه في الوقت نفسه ألزمها بالتمسّك بالمبادرة، ولا سيما بالبند المتعلّق بالدولة الفلسطينية المستقلة، وهو البند الذي يمثل اليوم تحديًّا جديًّا لمصداقية السعودية.

في ضوء التبني السعودي لمبادرة السلام لم يعد أمام محمد بن سلمان سوى أن يختار بين التمسّك بتركة أسلافه، أو الانقلاب عليها وتاليًا النظر اليه بكونه خائنًا وخارجًا على سيرة من كان قبله من ملوك آل سعود. ولهذا السبب يكون التطبيع قضية خلافية وقد تنطوي على تهديد للأمن القومي، وكذلك الشرعية الدينية والأخلاقية للمملكة السعودية عربيًا وإسلاميًا.

إن إعادة تبني “مبادرة السلام العربية” قد تهدىء من مخاوف الرأي العام المحلي بشأن التطبيع المجاني، وتمنح ابن سلمان فرصة المناورة بأنّه ملتزم بالاجماع العربي، ولكن مع إصرار الجانب الاسرائيلي على رفض أي مبادرة سلام تتضمن شرط الدولة الفلسطينية المستقلة وحق الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره يصبح أي كلام عن التطبيع إشعالًا لحريق داخلي. وإذا كان ابن سلمان قادرًا فيما مضى على التلاعب بمشاعر الرأي العام وتوجيّهه نحو اتفاق من دون شروط، فإن ما بعد طوفان الأقصى ليس كما قبله، وإن الرهانات باتت مطروحة إما تطبيع مشروط بدولة فلسطينية مستقلة أو تطبيع مجاني يفضي إلى التسليم للإسرائيلي بما تحت يده وما ليس تحت يده، أي القبول الأولي بضم الضفة الغربية وقطاع غزة للكيان.

من جهة ثانية، إن التطبيع بالقفز على المبادرة العربية (سعودية الأصل) يُفقدها نفوذها  الإقليمي وأيضًا قدرتها على انتزاع تنازلات إسرائيلية أو أمريكية، مثل الضمانات الأمنية أو المعاهدة الدفاعية، والتكنولوجيا النووية. ويسعى إبن سلمان إلى “صفقة كبرى” تُعزز المصالح السعودية، لا التنازلات أحادية الجانب.

وتبقى عين ابن سلمان على مشروعه الاقتصادي ومفاعيله القيادية محليًا وإقليميًا. يهدف إبن سلمان إلى ترسيخ مكانة السعودية كمركز اقتصادي عالمي، الأمر الذي يتطلب استقرارًا إقليميًا. إن إثارة ردود فعل على موقفه السلبي من القضية الفلسطينية وحقوق الشعب الفلسطيني سوف يُقوّض مشروعه الاقتصادي بتأجيج الاضطرابات الداخلية والخارجية، أو تشجيع الجماعات المسلحة المتحدّرة من السلفية الجهادية، التي عملت السعودية على تهميشها في سنوات لاحقة سواء عبر اعتقال عدد من قياداتها أو إجبارها على نقل عملياتها الى خارج الحدود.

وثمة عامل وإن بدا هامشيًا ولكنّه يحظى بأهمية ما وهو خشية ابن سلمان من “الوصمة” التي سوف تلحق به إذا ما أقدم على التنازل عن فلسطين والقبول بتطبيع مجاني مع الكيان الاسرائيل. إن التطبيع من دون الحصول على مكاسب للجانب الفلسطيني سوف يُشوّه إرث إبن سلمان، ويُصوّره كقائد تخلى عن القضايا العربية من أجل مكاسب قصيرة الأجل. وهذا يتناقض مع تصوير نفسه كشخصية مُحدّثة تُحافظ على مكانة السعودية.

يبدو أن ابن سلمان على مستوى الخطاب واللهجة السياسية مدرك لمآلات التطبيع المجاني وانعكاساته المحلية، ولذلك يحاول الإبقاء على مستوى مرتفع من الخطاب للحفاظ على مكانته وضبط الايقاع الداخلي. ولا غرابة في أن يصف إبن سلمان الهجمات الإسرائيلية على قطاع غزة بأنّها “إبادة جماعية”، مشفوعًا بدعوة إلى وقف العدوان الصهيوني فورًا وإقامة دولة فلسطينية مستقلة. ومع غياب مصادر أخرى مستقلة، فإن ثمة من يتحدث عن تعليق المحادثات الجارية بين الكيان الاسرائيلي والسعودية والهادفة إلى التوصّل الى اتفاق التطبيع بينهما والذي كان مقرّرًا أن يتم في آواخر عام 2023 لولا طوفان الاقصى والمجازر الصهيونية التي ارتكبها قادة العدو الاسرائيلي في قطاع غزة.

فرضت تداعيات طوفان الاقصى على خطاب السعودية وموقفها من القضية الفلسطينية، وبعد أن كانت ترسل إشارات توحي بأنها بصدد التخلي عن فكرة الدولة الفلسطينية أو في الحد الأقصى تأجيل البحث فيها إلى أجل غير مسمى، فإنها عادت لتؤكد بأن أي تقدّم في مسار التطبيع وتاليًا في العلاقات السعودية الاسرائيلية مرهون بإقامة دولة فلسطينية مستقلة.

وهكذا، فقد ارتدّت مفاعيل طوفان الاقصى على الداخل السعودي، وفرضت نفسها على صانع القرار الذي تغافل عن أي دور يمكن أن يلعبه الرأي العام المحلي في تحديد توجّه المملكة السعودية إزاء التطبيع مع الكيان الاسرائيلي. كان الاعتقاد السائد لدى فريق إبن سلمان أنه قادر على توجيه الرأي العام المحلي نحو التطبيع من دون عوائق، ربطًا بمؤشرات مشجّعة من بينها استطلاعات الرأي العام التي تفيد بقبول مريح للتطبيع مع الكيان الاسرائيلي. ولكن هذا الاعتقاد تبدّل جوهريًا بعد طوفان الاقصى الذي أرغم ابن سلمان على إعادة النظر في التفاؤل غير الحذر الذي اعتمد عليه ودفع به الى بلوغ الحافة النهائية لإعلان الاتفاق مع الكيان الصهيوني.

وفي الواقع، كلما أوغل الجيش الاسرائيلي في عدوانيته وحملاته العسكرية الوحشية كلما وجدت القيادة السعودية نفسها عالقة في طريق يزداد وعورة، وكلما تآكل خطابها التطبيعي. وبدت لافتة اللهجة التصعيدية في بيانات وزارة الخارجية السعودية حول الاعتداءات الاسرائيلية على قطاع غزة والمتناقضة مع أدبيات التطبيع في السنوات الماضية.

بيانات بلهجة تصعيدية لافتة حول اعتداءات إسرائيلية متكررة ومتنوّعة مثل اقتحام وزير الامن القومي بن غفير المسجد الاقصى في 2 إبريل 2025، والاعتداءات على المدنيين في المدارس ومراكز الايواء في قطاع غزة في 4 أبريل، إذ علّق بيان الخارجية السعودية عليها بأنها ناجمة عن “غياب آليات المحاسبة الدولية  الرادعة للعنف والدمار الاسرائيلي”. وفي 11 إبريل أصدرت الخارجية بيانًا أدانت فيه أوامر الكيان الاسرائيلي بإغلاق ستّ مدارس تابعة لوكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (الأونروا) في القدس الشرقية. وجدد البيان رفض المملكة السعودية القاطع “لمواصلة سلطات الاحتلال الإسرائيلي تعنتها واستهدافها الممنهج لوكالة (الأونروا) والعمل الإغاثي والإنساني، وسط صمت المجتمع الدولي”. وفي 13 إبريل 2025 أصدرت الخارجية السعودية بيانًا شديد اللهجة ضد العدوان الاسرائيلي على مستشفى المعمداني في قطاع غزة، ووصفته بـ” الجريمة الشنيعة”.

وبعد مرور بضع ساعات على استئناف الجيش الاسرائيلي عدوانها على قطاع غزة في 18 مارس 2025 أصدرت الخارجية السعودية بيانًا تستنكر فيه عودة قوات الاحتلال الاسرائيلية لعدوانها على قطاع غزة “وقصفها المباشر على مناطق مأهولة بالمدنيين العزّل، دون أدنى اعتبار للقانون الدولي الإنساني”. وشدّد البيان على “أهمية الوقف الفوري للقتل والعنف والدمار الإسرائيلي، وحماية المدنيين الفلسطينيين من آلة الحرب الإسرائيلية الجائرة” مع التأكيد على “أهمية اضطلاع المجتمع الدولي بمسؤولياته بالتدخل الفوري لوضع حد لهذه الجرائم، وإنهاء المعاناة الإنسانية القاسية التي يتعرض لها الشعب الفلسطيني الشقيق”.

وبصرف النظر عن تأثير هذه البيانات على الموقف الاسرائيلي أو حتى المجتمع الدولي، فإنها تعكس المزاج العام الداخلي الرافض لمواصلة الجيش الاسرائيلي عدوانه على الشعب الفلسطيني، وعلى سكّان قطاع غزة. وبعد أن كان محمد بن سلمان وفريقه يقود الرأي العام المحلي نحو التطبيع بات ملزمًا بمراعاة توجهات الشعب وتعاطفه مع الشعب الفلسطيني، وأن يعيد تقييم مواقفه إزاء التطبيع. فالغضب الذي تظهره بيانات الخارجية السعودية يعكس منسوب الغضب الشعبي أكثر منه الرسمي، وهذا في حد ذاته مؤشر على أن ابن سلمان ليس مطلق اليد دائمًا في تقرير السياسة التي يريد أو المواقف إزاء قضايا تلامس العصب الحساس لشعب الجزيرة العربية.

وفيما كانت السياسة الاعلامية السعودية تركز على تحميل المقاومة الفلسطينية مسؤولية ما جرى على قطاع غزة بعد طوفان الأقصى وتوفير المبرّرات للعدوان الاسرائيلي بكونه رد فعل على أخطاء من الجانب الفلسطيني، والترويج لصفقة التطبيع بما يحسبه المخرج الأمثل للأزمة الراهنة، بدا وكأن انحرافًا فجائيًا طرأ في السياسة مع تصاعد الغضب في الداخل والخارج على وقع تمادي العدوان الاسرائيلي على قطاع غزة.

وبعد أن كانت التقارير الاخبارية ومقالات الصحف الرئيسية تشيع أجواءً موجّهة عن قرب التطبيع بين السعودية والكيان الاسرائيلي، والذي استمر إلى ما بعد طوفان الاقصى بعدّة أشهر، تبدّلت اللهجة الرسمية وأصبح الحديث يدور حول عدوان اسرائيلي موصوف مع التمسّك بخيار حل الدولتين، وقد أعلنت السعودية في 28 سبتمبر 2024 عن إنشاء تحالف عالمي لتنفيذ حل الدولتين. كما عقدت قمة عربية إسلامية مشتركة في الرياض في 10 نوفمبر 2024 وطالب ولي العهد محمد بن سلمان بإنهاء الاحتلال الإسرائيلي، داعيًا إلى “ضرورة مواصلة الجهود المشتركة لإقامة دولة فلسطينية على حدود 67 وعاصمتها القدس الشرقية”. كما طالب بوقف “الإبادة الجماعية التي ترتكبها إسرائيل ضد الشعب الفلسطيني”[1].

أن تعقد السعودية قمة عربية إسلامية عنوانها الرئيس هو “حل الدولتين” على الرغم من معارضة دول مشاركة في القمة لهذا الحل مثل ايران التي تتبنى عقيدة أن فلسطين من البحر إلى النهر هي أرض فلسطينية خالصة ولا تفريط في ذرة شبر منها، في وقت يتمسّك قادة الكيان من التيار اليميني المتطرّف بمشروع إسرائيل الكبرى، يعني أن ثمة استجابة سعودية لمطلب داخلي بدرجة أساسية ومطلب عربي وإسلامي بدرجة ثانية.

قد يكون أحد التفسيرات حول تصعيد اللهجة السعودية ضد الكيان الاسرائيلي هو تحسين الشروط مع واشنطن، إذ تطالب الرياض باتفاقية دفاعية مع الولايات المتحدة مقابل تطبيع العلاقات مع الكيان الاسرائيلي. وقد أعلنت الادارة الاميركية بأن الاتفاقية في مراحلها النهائية. ولكن، ثمة ما يجعل السعودية قلقة من مغامرات ترامب ونتنياهو، لا سيما حول مشروع ترمب في قطاع غزة وتهجير أهلها للخارج، ومشروع نتنياهو حول دولة فلسطينية في شمال السعودية. فالانزلاق في المواقف الأميركية والاسرائيلية يفرض على السعودية التعامل بحذر شديد مع تقلبات المزاج الاميركي، وكذلك الاطماع الاسرائيلية المتجددة حول اسرائيل الكبرى، والأهم من ذلك الحذر إزاء رد الفعل الشعبي على أي خطوة غير محسوبة بدقة.

وفي تفسير آخر، فإن السعودية بتمسّكها بموقف ثابت إزاء ما يجري على قطاع غزة وربط أي انفراجة بحل الدولتين، وإن كان مرفوضًا من الجانب الاسرائيلي، يمنحها هامشًا تفاوضيًا واسعًا، وكبح الجموح الجيوسياسي الاسرائيلي الذي يصرّ على تجاوز المطلب الفلسطيني والعربي. رئيس حكومة الكيان نتنياهو بات ينظر الى الدولة الفلسطينية بأنها “فكرة مجنونة”، في رسالة واضحة الى العرب جميعًا حول رفض التطبيع القائم على حل الدولتين.

وبعد ان كان هناك رهان على تعايش مجتمعين متجانسين، مجتمع الجزيرة العربية والمجتمع الاسرائيلي، على قاعدة أن التطبيع سوف يكون في متناول اليد ولا عائق يحول دون إتمامه، بتنا أمام مشهد مختلف تمامًا. فهذا الرهان سقط بعد طوفان الأقصى، وأصبح مجتمع الجزيرة العربية يراقب ما يجري من حوله والاسفاف الذي بلغه انفتاح بعض العرب على الكيان الاسرائيلي، حيث أبدوا استعدادًا للتنازل عن الحقوق الثابتة للشعب الفلسطينية والتفريط في سيادة بلدانهم كما يحصل الآن في سورية ولبنان..

لقد نام فريق ابن سلمان على وهم بأن شباب المملكة السعودية أقلّ تعلّقًا بالقضية الفلسطينية، وكان استطلاع للرأي العام أجري مع مواطنين سعوديين في الفترة ما بين مارس ـ أبريل 2023 بتكليف من معهد واشنطن ونشرت النتائج في مايو من العام نفسه قد كشف عن آراء يتماشى بعضها مع سياسات ابن سلمان، إذ عارض 76 في المئة من السعوديين اطلاق الصواريخ على الكيان الاسرائيلي من قطاع غزة وأن لذلك “تداعيات سلبية على منطقتنا”. وأظهرت استطلاعات رأي سابقة منذ نوفمبر 2020، بأن نسبة 40 في المئة من السعوديين تقبل بالروابط الاقتصادية مع إسرائيل. وفي هذا الاستطلاع أيضًا، وافقت نسبة 38 في المئة على هذا القول معتبرةً أن “الروابط ستساعد اقتصادنا، ومن المقبول إبرام بعض الصفقات التجارية مع شركات إسرائيلية”.

في المقارنة مع مصر والاردن، اللذين تربطهما اتفاقيات سلام مع الكيان الاسرائيلي منذ عقود، كانت نسبة الموافقين على هذه الآراء لا تتجاوز 10 في المئة في كل استطلاع أجرى في تلك الآونة، وهذا في حد ذاته مؤشر خطير على أن البيئة التي ينوي ابن سلمان الاعتماد عليها في حال التطبيع مع الكيان الاسرائيلي سوف تكون مثالية من وجهة نظره. استطلاعات الرأي تلك تكشف الضخ الاعلامي الكثيف والتوجيهات المقصودة في السنوات الأخيرة، ولكن بعد طوفان الأقصى تبدّل المزاج الشعبي على نحو دراماتيكي. في استطلاع للرأي أجراه معهد واشنطن في الفترة ما بين 14 نوفمبر ـ 6 ديسمبر 2023 مع عيّنة تمثيلية وطنية من ألف مواطن، كانت الاجابات صادمة حيث وافقت الأغلبية الساحقة (91%) على أن “الحرب في غزة هي انتصار للفلسطينيين والعرب والمسلمين، على الرغم من الدمار والخسائر في الأرواح”. أما بالنسبة إلى دور العالم العربي ككل، فقد وافق الجميع تقريبًا (96%) على أنه “يجب على الدول العربية أن تقطع فورًا جميع الاتصالات الدبلوماسية والسياسية والاقتصادية وأي اتصالات أخرى مع إسرائيل، احتجاجًا على عملها العسكري في غزة”. وحول السؤال حول استهداف المدنيين الاسرائيليين أجابت الأغلبية العظمى من السعوديين (95%) بأن “حماس” لم تقتل فعليًا المدنيين.

وتظهر هذه النتائج ليس فقط مفاعيل طوفان الأقصى ولكن أيضًا الثقافة المتجذرة في المجتمع والداعمة للقضية الفلسطينية بعد أن كان يروّج ابن سلمان وفريقه بأن هذه القضية لم تعد ضمن أولويات شباب المملكة، مع أن استطلاع جرى في 2023 أظهر أن 2% فقط من الشباب في المملكة السعودية يؤيد التطبيع مع الكيان الاسرائيلي.

لقد عمل فريق محمد بن سلمان على تغيير صورة الكيان الاسرائيلي في المناهج الدراسية الرسمية، ووضعت استراتيجية تعليمية لتنشئة جيل من الشباب يؤمن بالتطبيع مع الكيان الاسرائيلي على أساس أنه شريك مستقبلي. وقد راجعت منظمة IMPACT-se الاسرائيلية المناهج الدراسية السعودية منذ أوائل الألفية الثانية، ووراجعت الكتب المدرسية للعام الدراسي 2023-2024 لرصد التغييرات في المناهج الدراسية، وأولت اهتمامًا خاصًا لمحتوى المناهج في السنوات السابقة بما يشمل تحليل ومراجعة شاملة لـ 371 كتابًا مدرسيًا من المنهج الوطني السعودي، نُشرت بين عامي 2019 و2024. وتركزت الدراسة على مواد اللغة العربية، والدراسات الإسلامية والاجتماعية، ومهارات الحياة والأسرة، والتفكير النقدي، والجغرافيا، والتاريخ، والأدب.

وكان من بين الخلاصات التي توصلت إليها المنظمة الاسرائيلية من خلال استعراض الكتب المدرسية السعودية بحسب استعراض محدّث صادر في مايو 2024)[2]:

ـ في عام 2023 تمّ إلغاء إطار دراسة “نظام المقررات الدراسية”، الذي تضمنت كتبه المدرسية العديد من الأمثلة التحريضية، بما في ذلك ما يتعلق بالصراع الإسرائيلي الفلسطيني. أُزيلت جميع الأمثلة التي تصفها المنظمة بـ “البغيضة” لا سيما فيما يتعلق باليهود والمسيحيين تقريبًا. وخُففت الصور السلبية للكفار والمشركين وانخفض عددها، وكذلك النهج المتبع تجاه الممارسات التي يُزعم أنها هرطقية والمرتبطة بالشيعة والصوفية (عبادة الأولياء وزيارة القبور).. واستمر حذف الأمثلة الإشكالية التي تروج للجهاد والاستشهاد. وفي هذا العام، 2023، أُزيلت جميع الأمثلة الإشكالية أو عُدِّلت؛ ويشمل ذلك حذف تفسير الجهاد على أنه عمل عنيف مسيء، والتركيز بدلاً من ذلك على التفسيرات غير العنيفة للجهاد (أي جهاد “الذات”).

ـ انتقاد الأيديولوجيات الدينية المتطرفة، وتشمل هذه الجماعات الدينية، وفي مقدمتها جماعة الإخوان المسلمين، التي تُوصف بأنها منظمة إرهابية مُحرِّضة. كما يُندَّد بحزب الله وداعش والقاعدة وميليشيات الحوثي. وتُدرَّس قوانين مكافحة الإرهاب في كتاب “تطبيقات القانون” الذي أُدخِل حديثًا.

ـ يكشف المنهج الدراسي عن التزام المملكة السعودية الراسخ بالقضية الفلسطينية. ومن الجدير بالذكر الإشارة إلى “القدس الشرقية المحتلة” كعاصمة لفلسطين – وهو أمر نادر في مناهج الدول العربية أو الإسلامية التي تشير بأغلبية ساحقة إلى “القدس” كعاصمة لفلسطين.

أظهرت صور “إسرائيل” والصهيونية مزيدًا من التقدم، وحُذفت أمثلة تشهيرية، لا سيما تلك التي تصف الصهيونية بأنّها “حركة أوروبية عنصرية”؛ واتهام الصهاينة بإحراق المسجد الأقصى عام 1969؛ وتصوير النوايا التوسعية لإسرائيل والاستيلاء على المواقع الدينية على أنّها الدافع لحرب الأيام الستة. لا تزال إسرائيل غير معترف بها على الخرائط، ولكن في بعض الحالات حُذف اسم “فلسطين” أيضًا، كما يوضح ذلك منهج الدراسات الاجتماعية للصف الثاني الابتدائي والدراسات الاجتماعية للصف السادس الابتدائي لسنة 1445هـ حيث تبدو خارطة فلسطين خالية من إسم الدولة ـ فلسطين. وفي الدراسات الاجتماعية للصف أول متوسط وفي غزوة الخندق حذف اليهود من كونهم إحدى القبائل التي شاركت في حصار وقتال المسلمين، وقدة كان ذكر اليهود موجودًا قبل ذلك بعام للصف الثاني الابتدائي.

وقد رصدت المنظمة الاسرائيلية سالفة الذكر جملة تغييرات في المناهج الدراسية من بينها على النحو الآتي:

ـ في الدراسات الاجتماعية، الصف أول متوسط، المجلد  للسنة الدراسية 2023 ـ 2024 ص 24 (سابقًا – الدراسات الاجتماعية، الصف أول متوسط ، 2022، ص 26)، وبعد أن كانت الخريطة تُحذف منها “إسرائيل”، وتُشير إلى كامل أراضيها باسم “فلسطين”، حذف الآن إسم فلسطين، بالإضافة إلى جميع الدول غير المجاورة للمملكة السعودية، تاركةً المنطقة دون أي تسمية.

ـ الدراسات الإسلامية – الفقه (1)، الصفوف من أول ثانوي الى ثالث ثانوني (نظام المقررات)، 2022، ص 13 (سابقًا – الفقه (1)، الصفوف من أول ثانوي الى ثالث ثانوي (مسار مشترك)، 2021، ص 13. وقد حُذفت أمثلة تضمنت خرائط تُشير إلى منطقة إسرائيل نفسها باسم “فلسطين” من طبعات 2022/2023 من كتب الفقه الإسلامي والجغرافيا. كما حُذفت خريطة للعالم العربي تُشير إلى منطقة “إسرائيل” نفسها باسم “فلسطين”.

ـ الجغرافيا – الصفوف من أول ثانوي إلى ثالث ثانوي (نظام المقررات – العلوم الإنسانية)، 2022، ص 198 (سابقًا – الجغرافيا، الصفوف من أول ثانوي إلى ثالث ثانوي (العلوم الإنسانية)، 2021 ص 198. تمت إزالة خريطة للعالم تُسمّي أراضي إسرائيل نفسها “فلسطين”.

ـ الجغرافيا، الصفوف من أول ثانوي الى ثالث ثانوي (نظام المقررات)، 2022، ص 204. (سابقًا – الجغرافيا، الصفوف من أول ثانوي إلى ثالث ثانوي (العلوم الإنسانية)،2021، ص 204). أشارت خريطة لغات عالمية إلى أن اللغة العربية هي اللغة الوحيدة المُتحدث بها في منطقتي الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، متجاهلةً العبرية والتركية والفارسية والكردية والأمازيغية ولغات أخرى. حُذفت هذه الخريطة في طبعة 2023 كجزء من وحدة دراسية حُذفت بالكامل.

ـ الجغرافيا، الصفوف من أول ثانوي إلى ثالث ثانوي (نظام المقررات)، 2022، ص 198، 221. في بعض الحالات، حدّدت الخرائط الخط الأخضر (أو خطوط ترسيم هدنة 1949)، مُقرةً ضمنيًا بوجود كيانين سياسيين منفصلين (أحدهما إسرائيل). مع ذلك، لا تذكر هذه الخرائط إسرائيل بالاسم. ويبدو أن ترسيم الخط الأخضر غير مقصود، إذ لا تُظهره معظم الخرائط، حتى في الصفحات المجاورة أحيانًا. حُذفت هذه الخريطة من طبعة 2023 كجزء من وحدة أُزيلت بالكامل.

في التقييم، تعكس التغييرات في المناهج الدراسية رغبة سعودية جديّة نحو التطبيع مع الكيان الاسرائيلي وتنفيذ ما هو مطلوب منها تمهيدًا للبدء من نقطة متقدمة في العلاقات مع الكيان الاسرائيلي وتهيئة أجيال من الشباب يشكّلون حاضنة لمشروع التطبيع.

إلى جانب التغييرات الجوهرية في مناهج التعليم الرسمي، كان لوسائل الإعلام الممولة من الدولة مثل قناتي (العربية) و(الحدث) وصحف يومية مثل (الشرق الأوسط) و(عكاظ) دور محوري في الترويج لخطاب التطبيع، ولفكرة أن الاتفاق الابراهيمي هو السبيل لتحقيق السلام. وقد أشادت صحيفة (عكاظ) في 2 مارس 2021 بعد وصول السفير الاماراتي الى تل أبيب بعد توقيع اتفاقية التطبيع بين الامارات والكيان الاسرائيلي، بما وصفته “إقامة علاقات دبلوماسية كاملة بين البلدين”[3]. استخدام مصطلح “بلدين” يبطن اعترافًا سعوديًا صريحًا بالكيان الاسرائيلي، على الرغم من غياب أي اتفاق بينهما. من جهة ثانية، عملت صحيفة (الشرق الأوسط) على الترويج لتصريحات عربية وأممية تشيد بالاتفاقيات الابراهيمية بكونها الطرق الممهدّة “لتسريع مسار المفاوضات الفلسطينية – الإسرائيلية ودفعها لتناول النقاط والقضايا المهمة”، أو بحسب تعبير أمين عام الأمم المتحدة السابق بان كي مون  خلال لقاء افتراضي نظمته “جمعية الصداقة الإماراتية – البريطانية” في 19 نوفمبر 2020 تحت عنوان: “الاتفاق الإبراهيمي للسلام – تعزيز أواصر التعاون” أن “الاتفاق الإبراهيمي للسلام يعدّ “تغيرًا كبيرًا وجذريًا، من شأنه أن يؤثر بالإيجاب على منطقة الشرق الأوسط والعالم بأسره، لأنه يشكل فضاءً واسعًا يحمل كثيرًا من فرص التعاون بين القادة والشعوب على حد سواء..”[4].

في الواقع، كانت مهمة تغيير اتجاهات الرأي العام وصوغ خطاب جديد حول فلسطين من جهة والكيان الاسرائيلي من جهة أخرى تتجاوز التعليم والاعلام وتكاد تستوعب أغلب المؤسسات الرسمية ذات الصلة، بما في ذلك المؤسسة الدينية والسياحة والهجرة والجوازات والنقل، بل حتى أركان الدولة شاركت في إعادة تشكيل الخطاب السعودي حول القضية الفلسطينية، وقد لحظنا تأثير بندر بن سلطان، السفير السابق في واشنطن ومستشار مجلس الأمن الوطني والمدير العام للمخابرات العامة سابقًا في مقابلة مع قناة (العربية) في 6 أكتوبر 2020 التي جرى الترويج لها على نطاق واسع[5]. وقد اختارت “سكاي نيوز عربية” الاماراتية عنوانًا لافتًا ومقصودًا وهو “بندر بن سلطان ينتقد موقف السلطة الفلسطينية من معاهدات السلام”. وجاء نقد إبن سلطان على خلفية اتفاقية التطبيع التي أبرمتها الامارات والبحرين والكيان الاسرائيلي، وقال بأن “القيادة الفلسطينية تراهن دائما على الطرف الخاسر “وهذا له ثمن”. ووصف انتقادات السلطات الفلسطينية للاتفاق بأنه “تجرؤ بالكلام الهجين” وهو غير مقبول[6].

بدا من تصريحات بندر بن سلطان أن السعودية تتبنى وبصورة كاملة الاتفاق الابراهيمي بين الامارات والبحرين من جهة والكيان الاسرائيلي من جهة  أخرى، وأنها تصدّت على نحو مقصود للدفاع عنهما أمام الانتقادات التي وجّهها الفلسطينيون، وهو في ذلك لا يكتفي بالرد على الانتقادات الفلسطينية بل يدافع عن الاتفاق الابراهمي وكأن بلاده جزء منه. في الواقع، يشي دفاع السعودية عن الامارات والبحرين بإجراء استباقي حمائي تقوم به استعدادًا لمرحلة تعتقد الرياض بأنها سوف تتعرض لانتقادات مماثلة، ولذلك هي تقوم بما عليه الآن على أمل تخفيف حدّة حملة الانتقادات القادمة.

على أية حال، بدا الجهد الكثيف والمتواصل على مدى سنوات من أجل “شيطنة” الفلسطينيين، ولا سيما فصائل المقاومة منها، وتظهير الاسرائيلي في صورة “الشريك” في السلام، وقد تبخر على نحو دراماتيكي بعد طوفان الأقصى . وكان في طليعة أهداف مهندسي الطوفان وقف مسار التطبيع الذي سوف يفضي في حال استمراره الى تصفية القضية الفلسطينية إلى الأبد. شعر الحكام السعوديون بالحرج في مواصلة استراتيجية التنشئة السياسية الموجّهة للشباب والتي ازدادت وتيرتها منذ بداية عام 2023 وحتى نهاية سبتمبر 2023 حين أعلن ولي محمد بن سلمان في مقابلة تلفزيونية في 21 سبتمبر 2023  بأن “المملكة تقترب كل يوم من التطبيع مع اسرائيل “. فقد عاد خطاب النضال ضد الاحتلال الاسرائيلي والتأكيد على حق المقاومة من أجل استعادة الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني، فيما أعيد تصنيف التطبيع بكونه “خيانة”، بخلاف منطق بندر بن سلطان التهكمي ضد القيادات الفلسطينية.

وقد لحظنا كيف أن تاقات على منصة x مثل سعوديون ضد التطبيع والذي أطلق منذ سنوات كيف تحول الى مركز استقطاب لكثير من المعارضين، فيما أطلق ناشطون حملات متواصلة تندد بالتطبيع وتدعم الحق الفلسطيني وتطالب بوقف العدوان الصهيوني على قطاع غزة. في المقابل، بدأ بعض الكتّاب والأكاديميين من ذوي التوجهات القومية بالتعبير عن تضامنهم مع فلسطين وانتقاد الأعمال الوحشية الاسرائيلية ضد قطاع غزة..

في النتائج، إن فلسطين الذي أريد إزالتها من خارطة تفكير المواطنين أو إزاحتها إلى الهامش باتت قضية داخلية، وبعد طوفان الأقصى أصبح من الصعب قبول منطق التسوية والمساومة لأن الجرائم الوحشية التي يرتكبها الصهاينة في قطاع غزة لا تسقط بالتقادم، تمامًا كما هي فلسطين في الوعي الشعبي في الجزيرة العربية.


[1]  القمة العربية الإسلامية تدعو لوقف إطلاق النار وحل الدولتين، المدن، 11 نوفمبر 2024، الرابط:

https://shorturl.at/ynYXN

[2] https://www.impact-se.org/wp-content/uploads/Updated-Review-Saudi-Textbooks-2023-24.pdf

[3] https://www.okaz.com.sa/news/politics/2059903

[4] https://shorturl.at/MyzOh

[5]  بندر بن سلطان: قضية فلسطين عادلة لكن محاميها فاشلون، قناة (العربية) 6 أكتوبر 2020، الرابط:

https://shorturl.at/OCJzA

[6]  بندر بن سلطان ينتقد موقف السلطة الفلسطينية من معاهدات السلام، عربيةSkynews، 7 أكتوبر 2020، الرابط:

https://shorturl.at/pQYDX

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى