تأهيل المسرح للصفقة الكبرى

عملية “تعويم” ممنهجة تقودها واشنطن لولي العهد السعودي محمد بن سلمان في سياق إعادته الى المسرح الدولي بعد عزلة دامت أعوامًا على خلفية ضلوعه في اغتيال الصحافي الحجازي جمال خاشقجي في نوفمبر 2018. يستغل الرئيس الأميركي ترمب حاجة ابن سلمان إلى الغطاء الأميركي لاجبار الغرب على استقباله من دون هواجس، أو ملاحقات قضائية، ولذلك جعل من الرياض أشبه بـ “صالة أفراح” لاستقبال الضيوف، وتقديم واجب الضيافة لهم، ولكن من دون ممارسة أي دور في التأثير على ما يدور بين الضيوف داخل الصالة.
يبتهج الكتّاب السعوديون بأن بلادهم أصبحت “مركز العالم”، وأنها القبلة التي يحجّ اليها المتنازعون من أجل وضع نهاية لنزاعاتهم وتوقيع اتفاقيات وقف اطلاق النار أو تسوية خلافاتهم الحدودية والسياسياسية وآخر الوافدين كان وزيرا الدفاع السوري واللبناني الذين وصلا الى جدة في 27 مارس 2024 لمناقشة الأوضاع المتوترة على الحدود بين البلدين…ولكن ما لا يشأ هؤلاء الكتّاب فضلًا عن المسؤولين وعلى رأسهم ولي العهد محمد بن سلمان البوح به هو أن السعودية أصبحت مركزًا ليس بملء إرادتها، بل هو أشبه بأمر عمليات أميركي بأن تضطلع الرياض بدور “المضيف” في القضايا الدولية و نصف “الوسيط” في القضايا الإقليمية، بناء على اتفاق مسبق مع الولايات المتحدة.
في الواقع، إنها قضية أبعد من مجرد استضافة محادثات بين روسيا وأوكرانيا أو تسويات بين سوريا ولبنان بطلب من واشنطن. فما يراد من السعودية القيام به يتجاوز إلى ملفات ساخنة جميعها مرتبط بالتطبيع مع الكيان الاسرائيلي الذي ينتظر اللحظة مناسبة ليكون علنيًا واحتفاليًا. من ملء الفراغ في لبنان وسوريا الى غزة، هكذا يتطلع ابن سلمان أن يقتطف ثمار العدوان الصهيوني والتغييرات الجيوسياسية في بلاد الشام، إلى حرب اليمن التي يتحضّر للانخراط فيها على نحو واسع الى جانب الولايات المتحدة وبريطانيا والكيان الاسرائيلي.
بينما تزاول اسرائيل دور الذراع الضاربة الطويلة والمتفلتة في الحرب على لبنان وفلسطين وسوريا وربما اليمن والعراق وصولًا الى ايران يتم تفويض السعودية دور جني الثمار وحصد الأرباح. يتصرف السعودي كشريك فعلي مع الاسرائيلي، فما لا يستطيع الأخير الوصول اليه بنفسه يتولى السعودي إتمام المهمة، فيقطف ما لم تصل اليه ذراع الصهاينة..
تتكثف لقاءات محمد بن سلمان مع المسؤولين الأميركيين لتنشيط الحملة الدبلوماسية إقليميًا ودوليًا، بدءًا من استضافة محادثات بين واشنطن وكييف حول الحرب في أوكرانيا، وصولًا إلى وضع المملكة في مركز خطط “اليوم التالي” لقطاع غزة بعد الحرب، وعرض المساعدة في تخفيف التوترات بين الولايات المتحدة وإيران. ما يراد قوله من كل هذه التحرّكات أن الرياض تملء كل مكان، وأن العالم بحاجة إليها لأنها قادرة على فعل ما يعجز الآخرون عنه. هذا الدور الذي يضفى عليها طابع السلام يرتبط عمليًا وجوهريًا بجهود ابن سلمان لتحسين صورته، بموضعة السعودية في صدارة المشهد الجيوسياسي في الشرق الأوسط، وإظهارها كلاعب بنّاء على الساحة الدولية.
لا فصل بين حراك ابن سلمان الدبلوماسي خارجيًا وتعزيز سلطته الداخلية. في الواقع، وفي صميم التحرك الدبلوماسي السعودي، ثمة ارتباط وثيق بالسياسة الداخلية، ولا سيما جهود إبن سلمان للحفاظ على سلطته وتوسيعها. يقود محمد بن سلمان مشروعًا جديدًا يهدف إلى إعادة هيكلة “الصفقة الحاكمة” المحلية للبلاد، وتغيير صورة الرياض العالمية. تُعدّ كل سياسة سعودية تقريبًا، في الداخل والخارج، نتاجًا ثانويًا لهذا المشروع الجديد، بالإضافة إلى ضرورات إبن سلمان النهائية المتمثلة في الحفاظ على النظام وبسط النفوذ. ومن الأمور الحاسمة في هذا الجهد إعادة هيكلة الاقتصاد السعودي نحو موطئ قدم مستدام تحسبًا لمستقبل يشهد انخفاضًا في عائدات النفط. وتُشكّل رؤية 2030، الخطة الاقتصادية الطموحة لمحمد بن سلمان، الأساس الاقتصادي لمشروعه اليوتيبي الجديد، الهادف إلى ترسيخ مكانة السعودية كمركز اقتصادي رئيسي في الشرق الأوسط، وسوق مربحة لرأس المال الدولي في مقابل منافسه اللدود دبي وحاكم الإمارات محمد بن زايد.
يُعدّ نجاح مشروع إبن سلمان الاقتصادي ـ السياسي أمرًا وجوديًا. فهو الأساس الاستبدادي الجديد الذي يأمل ولي العهد – الحاكم الفعلي للمملكة، والذي اكتسب بالفعل نفوذًا يفوق أي فرد في تاريخ الدولة السعودية – أن يبني عليه سلطته. لكن نجاح هذه الرؤية المحلية لا يعتمد فقط على السيطرة المطلقة على الداخل، بل إنها متشابكة مع الأهداف الإقليمية والدولية، مما يجعلها أيضًا محركًا للسياسة الخارجية السعودية.
فقد استضافت السعودية الرئيس الأوكراني زيلينسكي في جدة، ولقاءات أخرى ثنائية وثلاثية ضمّت وفودًا روسية وأوكرنية وأميركية، ويأمل ابن سلمان تتويج هذه اللقاءات بلقاء تاريخي يجمع الزعيمين الأمريكي والروسي في الرياض (استدراك: أعلن الكرملين في 3 إبريل أن لا لقاء قريب مرتقب بين بوتين وترامب في الرياض)، مما يسلّط الضوء على الاستراتيجية الدبلوماسية. ولا تزال الرياض تحلم بأن تكون المحور الرئيسي للدبلوماسية العالمية وتحولات القوى.
في فبراير 2025 التقى وزير الخارجية الاميركي بنظيرة السعودي في الرياض قبل أن يلتقي بولي العهد محمد بن سلمان في أول زيارة للوزير الاميركي للسعودية منذ تسلمه منصبه في 21 يناير 2025. في بيان الخارجية السعودية أن اللقاء استعرض “العلاقات الثنائية وسبل تعزيزها بما يخدم مصالح البلدين، والمستجدات الإقليمية والدولية والجهود المبذولة بشأنها”. وكما هي العادة فنحن أمام كلام عام لا قيمة له ولا يقدّم أي معطى جديدًا. ولكن الحقيقة أن الوزير روبيو لم يأت في مهمة عادية، بل كان الملف الأبرز هو مستقبل قطاع غزة، وقد اصطحب معه مستشار الأمن القومي مايك والتز ومبعوث ترمب الى الشرق الأوسط ستيف ويتكوف، صديق نتنياهو ومن أنصار ضم الضفة الغربية الى الكيان الصهيوني. فالزيارة جاءت لمناقشة مقترح ترمب الداعي الى تهجير سكان قطاع غزة البالغ عددهم 2.4 مليون نسمة. وجاءت زيارة روبيو الى الرياض بعد زيارته الى الكيان الصهيوني، وقد أكّد دعم بلاده لرئيس الوزراء الاسرائيلي بنيامين نتنياهو، الذي يجعله في موقعه المفوّض المطلق الصلاحية في ملف قطاع غزة ومستقبلها.
إذًا ما يراد من ابن سلمان ليس مجرد استضافة محادثات دولية وإقليمية، بل التمهيد لأن تكون السعودية قطب الرحى في مرحلة التطبيع وتصفية القضية الفلسطينية. وليس مصادفة أن يصرّح مبعوث ترمب لشؤون الأسرى آدم بولر “يمكن انضمام سوريا ولبنان لاتفاقيات السلام إذا سمحت الظروف” في وقت اجتماع وزيري الدفاع السوري واللبناني في جدة. باختصار: عبر سلسلة استضافات لمباحثات إقليمية ودولية يجري تأهيل المسرح السعودي للصفقة الكبرى، أي التطبيع مع الكيان الاسرائيلي. في جدول أعمال زيارة ترمب الى الرياض في مايو المقبل لقاء مع الرئيس السوري الانتقالي أحمد الشرع، ولن يكون مجرد لقاء عادي بل يأتي في سياق دبلوماسية التطبيع التي تقودها السعودية كما كشف عن ذلك أكثر من مصدر.
في التفاصيل ثمة أسرار تخفيه تحرّكات الدبلوماسية الأميركية والغربية والإقليمية والتي تتخذ من القضية الفلسطينية ومن غزّة منصّة اإطلاق للصفقة. في تصريح للمتحدثة باسم وزارة الخارجية الأميركية تامي بروس في بيان حول لقاء وزير الخارجية الأميركي ماركو روبيرو مع ابن سلمان في 17 فبراير 2025 وتأكيده على “أهمية التوصل إلى ترتيبات بشأن غزة تسهم في الأمن الإقليمي”. ولا شيء يهم الأميركي غير أمن الكيان الاسرائيلي، وهذا ما كان واضحًا في بيان الخارجية الأميركية بأن روبيو وابن سلمان “أكدا مجددًا التزامهما بتنفيذ وقف إطلاق النار في غزة وضمان إطلاق حماس سراح جميع الرهائن، بما في ذلك المواطنون الأميركيون”، ولم يأت أي منهما على ذكر حقوق الشعب الفلسطيني ولا اطلاق سراح الاسرى الفلسطينيين في السجون الاسرائيلية.
جاء اللقاء بين روبيو وابن سلمان بعد إعلان الرئيس الأميركي دونالد ترامب خطة للسيطرة على قطاع غزة وتهجير سكّانه إلى مصر والأردن على وجه الخصوص، وهو ما رفضته الدول العربية.
في السياق نفسه، استقبل إبن سلمان في 10 مارس 2025 وزير الخارجية الأمريكي روبيو والرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي بصورة منفصلة. وفي بيان لوزارة الخارجية الأميركية أن روبيو وولي العهد السعودي ناقشا “وضع اليمن والتهديدات للملاحة من حركة أنصار الله والوضع في سوريا وسبل تعزيز حكومة مستقرة..كما بحثا إعادة الإعمار في غزة، حيث أكد روبيو التزام الولايات المتحدة الراسخ بضرورة عدم لعب حماس أي دور في أي حل للوضع في غزة”.
ما يعنيه بيان الخارجية الأميركية أن ثمة تنسيقًا سعوديًا أميركيًا في الحرب على اليمن، كما في تنسيق المواقف إزاء سوريا والإدارة الجديدة بقيادة أحمد الشرع (أبو محمد الجولاني) وهيئة تحرير الشام الحاكمة، والرعاية المشتركة لها من جانب امريكا والسعودية، وكذلك مستقبل غزة وسيناريو الحكم فيها بتجاوز الواقع القائم فيها حيث تتولى حركة حماس إدارة شؤون القطاع جنبًا إلى جنب حركات المقاومة الأخرى مثل حركة الجهاد الإسلامي..
من جانبه، كان الشغل الشاغل لدى زيلينسكي هو الحصول على دعم السعودية في حربها ضد روسيا ومناقشة الشروط اللازمة لانهاء الحرب الروسية الأوكرانية، حيث من المقرر أن تدخل السعودية كشريك في مشاريع إعادة الاعمار.
بيان البيت الأبيض كان لافتًا في تخصيص الإشادة والامتنان لشخص ابن سلمان “على قيادته ورعايته المحادثات الثنائية مع الوفود الروسية والأوكرانية في الرياض”. حيث وصفت المحادثات في الفترة م بين 23و25 مارس 2025 بأنها جرت “في جو من التعاون البناء والاحترام المتبادل، وأثمرت عن مجموعة من الاتفاقات التي تسهم في تعزيز الاستقرار والأمن الإقليمي والدولي”. وقال بيان البيت الأبيض: “إن المحادثات أثبتت مرة أخرى دور المملكة السعودية كوسيط رئيس يسهم في تعزيز السلام والاستقرار في المنطقة”. الإشادة الأميركية بالرعاية السعودية، وبشخص ابن سلمان، للمحادثات الروسية الأوكرانية تأتي في سياق تصعيد دوره الإقليمي وتأهيله للعب دور في التطبيع وفي ملفات الإقليم في المرحلة المقبلة، فما هو مطلوب من ابن سلمان وبالسعودية كبير جدًا. ولذلك، إن تحويل ابن سلمان إلى ما يشبه “أبو ملحم” كما في التراث اللبناني، الذي يتولى دور المصلح بين المتنازعين ليس بلا ثمن، بل هو اصطياد أكثر من عصفور بحجر واحد: إعادة ابن سلمان الى المسرح الدولي، وتعزيز دور السعودية كدولة وظيفية تضطلع بمهام أميركية في المنطقة، وصولًا إلى الصفقة الكبرى التي تجعل منها بوابة عبور بقية الدول العربية الى التطبيع مع الكيان الصهيوني.
ولا يغفل الأميركي موقع السعودية في البيت الخليجي، فالمطلوب منها أن تحقق قدرًا عاليًا من الانسجام والتنسيق مع الشقيقات الأخريات، على قاعدة أن المصالح تحمى بالاتحاد. فإذا كان يراد لابن سلمان أن يصنع تاريخه من خلال التقارب الأميركي الروسي، فإنه لن يستطيع أن يبنى مجده فيما بيته الخليجي منقسمًا. ولكن يبدو ان إعادة التموضع السعودي تبدأ من الخارج إلى الداخل. في 18 فبراير 2025 التقى وزيرا خارجية روسيا سيرجي لافروف ونظيره الأميركي ماركو روبيو في قصر الدرعية، في لقاء وصف بالتاريخي “بهدف إرساء أسس عالم أحادي القطب جديد وأكثر تحصينًا”، كما وصفه الاعلام. في المقابل، وفي الوقت ذاته كان حاكم الإمارات يستضيف الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي في دبي، حيث أطلق وابلًا من التصريحات الناقدة لاجتماع اميركي روسي حول الشأن الاوكراني ولكن من دون حضور ممثل عن أوكرانيا.
وفي 19 فبراير 2025 انتقد زيلينسكي الاجتماع الأمريكي الروسي في الرياض، معلنا تأجيل زيارة له كانت مقررة، في 20 فبراير من العام نفسه، إلى السعودية. وقال زيلينكسي خلال زيارة رسمية إلى تركيا إنّ المحادثات “تجري بين ممثلين لروسيا وممثلين للولايات المتحدة بشأن أوكرانيا مجددًا، ومن دون أوكرانيا”. وكرر أنه لم يتلقَّ أي إشعار بشأن هذه المباحثات ولم يُدعَ للمشاركة فيها. وقال زيلينسكي من تركيا: “نحن صادقون ومنفتحون، ولا أريد أي مصادفات. ولهذا السبب لن أذهب إلى السعودية”. على أية حال، فإن هذا الموقف الأواكراني لا يغيّر من جوهر الدور السعودي في استضافة محادثات متعددة الأقطاب تندرج في سياق تأهيل المسرح السعودي والإقليمي لما هو قادم، والقادم خطير للغاية على مستقبل الجيوسياسيا العربية والإسلامية.
ومع أن أوروبا تشعر بأنها تفقد موقعها في أي ترتيبات إقليمية ودولية لأن الولايات المتحدة ترسم مسارها بصورة مستقلة، وتنسج اتفاقيات وروابط مع خصومها، ولا سيما مع روسيا، في ملف الحرب مع أوكرانيا على وجه الخصوص. ولكن في المقابل، لن يكون أمام أوروبا خيار التناقض مع موقف الولايات المتحدة، وسوف يقتصر رد فعلها على مجرد الثرثرة، وفي نهاية المطاف سوف تسير خلف واشنطن، لأنها مضطرة الى الالتزام بما تمليه عليها. في موضوع استبعاد زيلينكسي من المباحثات الأميركية الروسية في السعودية، اكتفت اوروبا بمجرد المناشدة، أي مناشدة ابن سلمان (نيابة عن ترمب) بإشراك زيلينسكي في محادثات السلام مع روسيا، وجاءت الموافقة الأميركية على لسان الملك الفعلي للسعودية، أي ابن سلمان.
تشعر أوروبا، وتحديدًا الإتحاد الأوروبي وبريطانيا، بالغبن وهي التي كان لها تاريخ طويل في العلاقات مع دول الخليج فقد وقفت مع هذه الدول منذ نشأتها، بل وكان الاتحاد الأوروبي النموذج الذي شجّع دول الخليج على تطبيقه بتشكيل مجلس التعاون الخليجي، وحتى الذهاب في تفاصيل مثل العملة الموحدة، وإن لم تتحقق، وكذلك البنك المركزي الخليجي، والتسهيل الجمركي، والبطاقة الموحدة..
ولكن أوروبا هي الأخرى لن يكون في مقدورها الخروج عن السياق الأميركي، وسوف تخضع كما خضعت دول مجلس التعاون، وسيكون الجميع شركاء في إعادة تأهيل السعودية لتكون مركز التطبيع مع الكيان الصهيوني في المرحلة المقبلة. في الخلاصة، إن دور “المصلح” الذي تقوم به السعودية ليس أصيلًا، ولم يكون بناء على مبادرة وطنية مستقلة، ولكنّه مخطط أميركي لنقل ثقل اهتمام العالم في المرحلة المقبلة الى السعودية، وإن زيارة ترمب الخارجية في مايو المقبل الى السعودية تأتي في السياق ذاته، وليس بعيدًا أن تختتم بإعلان ما فارق بخصوص التطبيع، قد يطرح خلاله مشروع مرتبط بمصير القضية الفلسطينية وبالوضع الإداري والديمغرافي في قطاع غزة.