مقالات أخرى
أخر الأخبار

بين التحديات البنيوية والفرص التاريخية ( مستقبل الإصلاح السياسي في الخليج )

سؤال الاصلاح السياسي كان الرفيق الدائم لشعوب منطقة الخليج منذ نشأت دولها الست، وقد سالت دماء عزيزة من أجل تحويل حلم الاصلاح إلى حقيقة، فيما ضمّت أقبية السجون والزنزانات الانفرادية الآلاف من النشطاء ودعاة الإصلاح على خلفية المجاهرة بطلب الاصلاح في أمة كان الاستبداد يحفر فيها عميقًا لترتسيخ أركانه وتثبيت وجوده الدائم..

في سردية الحركات الاصلاحية في الخليج، يمكن الإنطلاق من حقيقة أن النشاط الإصلاحي الأهلي اتخذ أشكالاً متنوعة يتراوح بين المبادرات المجتمعية، والمطالبات النخبوية، والحراك السياسي السلمي، وقد ارتبط بسياقات محلية خاصة بكل دولة، لكنها تشاركت في دوافعها العامة كالمطالبة بالحريات العامة، والمشاركة السياسية، والمساءلة.

التحركات العمالية في الخليج.. بداية الحراك المطلبي :

كان للتحرّكات العمالية في دول الخليج دور محوري في تغذية الحراك المطلبي والإصلاحي، لكن من المهم الإشارة إلى أن هذا الدور ظل محدودًا ومكبوتًا في أغلب الأحيان، بفعل:

ـ الطبيعة الديمغرافية الخاصة  للعمالة في الخليج، التي تعتمد بشكل كبير على العمالة الوافدة.

ـ القيود القانونية والسياسية التي تمنع تشكيل النقابات أو تحظر الإضرابات في كثير من دول الخليج.

ـ التركيبة الريعية للأنظمة، التي تحدّ من ظهور طبقات عاملة محلية ذات وعي نقابي وسياسي قوي.

ومع ذلك، شهدت منطقة الخليج منذ أوائل القرن العشرين تحرّكات عمالية مهمة، لعبت دورًا محوريًا في مقاومة الاستعمار الأجنبي ومواجهة الاستبداد الداخلي. تجلّت هذه التحركات في إضرابات ومطالبات بتحسين ظروف العمل، وتوسعت لتشمل مطالب سياسية واجتماعية أوسع. فيما يلي عرض لأبرز هذه التحركات في بعض دول الخليج:

ـ الكويت: من النضال العمالي إلى المطالب الوطنية

فقد شهدت الكويت في إضرابات عمالية في الأعوام 1943 و1946 و1949، خاصة في القطاع النفطي، احتجاجًا على ظروف العمل القاسية. نشير الى أن للعمال مساهمة فاعلة في دعم إنشاء المجلس التشريعي في نهاية الثلاثينيات، وكانوا جزءًا من الحراك الوطني المطالب بإنهاء الاستعمار البريطاني وإنشاء مؤسسات سياسية منتخبة.

وفي عام 1956،  انخرط العمال في الحراك القومي، حيث نظّموا إضرابًا عامًا احتجاجًا على العدوان الثلاثي على مصر، مطالبين بمقاطعة بريطانيا وفرنسا. كما شاركوا في احتجاجات عام 1967، مطالبين بمقاطعة حلفاء إسرائيل نفطيًا.

ـ السعودية: الحركة العمالية في المنطقة الشرقية

بدأ العمال في شركة أرامكو إضرابًا عامًا، مطالبين بتحسين الأجور وظروف العمل سنة 1945. وفي عام 1952 شكّل العمال لجنة عمالية في مدن رأس تنورة وبقيق والظهران، نظّمت صفوف العمال وقدمت مطالب للحكومة والشركة.

وفي عام 1953، شارك حوالي 20,000 عامل في إضراب كبير، أدى إلى تحقيق بعض المطالب مثل زيادة الأجور وتوفير وسائل النقل. ثم ما لبث ان طوّر العمّال مطالبهم لتأخذ بعدًا سياسيًا، إذ قدّم العمّال سنة 1956 عريضة للملك سعود تضمنت مطالب سياسية مثل سن دستور، وإجازة الأحزاب والتنظيمات الوطنية، مما أدى إلى قمع الحركة واعتقال قادتها.

ـ البحرين: الحراك العمالي والمطالب السياسية

شهدت البحرين سلسلة من الاضرابات العمالية في عامي 1938 و1943،  في القطاع النفطي على وجه الخصوص، احتجاجًا على ظروف العمل. ورفع العمال مطالب وطنية، وساهموا في دعم الحركات الوطنية المطالبة بإنهاء الاستعمار البريطاني وإنشاء مؤسسات سياسية منتخبة.

ـ عُمان: التحركات العمالية في ظل السلطنة

وعلى رغم الطبيعة الهادئة للحياة السياسية في عُمان، شهدت البلاد تحركات عمالية محدودة منذ التسعينيات، خاصة بين المثقفين. وتمثّلت المطالب بتوسيع صلاحيات مجلس الشورى المنتخب وتحسين مستوى الشفافية والإدارية.

ـ قطر والإمارات: التحركات العمالية في ظل القيود السياسية

غابت الحركات العمالية الصريحة في هاذين البلدين بسبب محدودية المشاركة السياسية ووجود عقد ريعي قوي. برغم ذلك، برزت أصوات عمالية من نخبة أكاديمية ودينية، مثل جماعة الإصلاح في الإمارات، والتي تم التضييق عليها لاحقًا.

استأنف النشاط النقابي في الخليج لاحقًا، وكانت البحرين من بين الدول الخليجية التي سمحت بتأسيس نقابات عمالية منذ أوائل 2000. و لعب “الاتحاد العام لنقابات عمال البحرين” دورًا مهمًا في دعم الحراك الشعبي عام 2011، ما جعله مستهدفًا من السلطات لاحقًا. وقد شارك عمال من القطاعين العام والخاص في إضرابات واسعة، ربطت بين المطالب المعيشية والسياسية.

في الكويت، تميزت المنظمات العمالية بكونها شبه مستقلة، وقد أضرب العمال الكويتيون مرارًا للمطالبة بتحسين الأجور والحقوق. برغم ذلك، لم يكن الحراك العمالي سياسيًا بالكامل، لكنه تماهى مع مطالب برلمانية بإصلاحات اقتصادية وهيكلية.

في  الإمارات وقطر والسعودية، كانت التحركات العمالية فيها من نصيب العمال الاجانب في الغالب وخاصًا من جنوب آسيا والقارة الهندية. في الإمارات، على سبيل المثال، وقعت إضرابات عمالية متفرقة (مثلاً في قطاع البناء) احتجاجًا على ظروف العمل القاسية وتأخر الأجور. كما شهدت السعودية بعض الإضرابات الصامتة، خصوصًا من قبل موظفين وافدين في القطاع الصحي أو البلدي، لكنها جوبهت بالتسفير أو القمع الإداري.

ويمكن القول، على نحو الإجمال، غلب على التحركات العمالية الطابع المطلبي والمعيشي، لكنها فتحت المجال لتسليط الضوء على قضايا العدالة الاجتماعية، الشفافية، الفساد الإداري. تحولت بعض المطالب العمالية إلى رافعة ضمن الحراك الإصلاحي الأوسع، كما في البحرين.

وهكذا، فإن التحركات العمالية في الخليج ساهمت، وإن بشكل غير مباشر، في إبراز المطالب الاجتماعية والاقتصادية، لكنها لم تتحول إلى حركة إصلاحية شاملة بسبب البنية السياسية المقيدة. يبقى تفعيل النقابات وحقوق العمال خطوة مهمة نحو تحريك الإصلاح في المنطقة.

يمهّد ما سبق للإضاءة على الخلفيات التاريخية والاجتماعية والسياسية للحركات الإصلاحية في الخليج. أولى الملاحظات: أن ثمة تفاوتات بين كل دولة خليجية وأخرى. في الكويت، على سبيل المثال، ثمة إرث دستوري وتجربة برلمانية فاعلة، وتُعد الكويت استثناءً خليجيًا من حيث وجود دستور (1962) وبرلمان منتخب منذ وقت مبكر. ومنذ السبعينيات، برزت قوى سياسية إصلاحية، منها ذات توجهات قومية ووطنية وإسلامية وليبرالية، وقد لعبت دورًا بارزًا في المطالبة بمزيد من التوازن بين السلطات. وعلى الرغم من محاولات الحكومة الكويتية إجهاض التجربة البرلمانية وتعطيل الدستور، فإنّ  حركات الاحتجاج نجحت في تعطيل مخططات حل البرلمان، إلى جانب الحراك الشعبي المطلبي لمكافحة الفساد، وتوسيع الحريات، وقد كانت تلك سمات بارزة للحراك الإصلاحي الكويتي.

في البحرين، تركّز الحراك السياسي في الفترة ما بين 1994 ـ 1999، وقد عرّفت في أدبيات المعارضة البحرينية بـ “انتفاضة التسعينيات”، وكانت ذات طابع شعبي شارك فيه طيف واسع ومتنوع من علماء الدين والنشطاء السياسيين والحقوقيين من السنة والشيعة، مطالبين بإعادة العمل ببرلمان ودستور 1971.

ومع اعتلاء حمد بن عيسى سدّة العرش خلفًا لوالده، أطلق مشروع “ميثاق العمل الوطني” سنة 2001 وجرت ما يشبه مصالحة وطنية توّجت بعودة المعارضين في الخارجين الى البحرين، وأعيدت الجنسية البحرينية لمن سحبت منهم، وأعيد العمل بالبرلمان ولكن بصلاحيات محدودة، ما دفع بعض قوى المعارضة إلى الاستمرار في الضغط من أجل تحصيل أكبر عدد من الحقوق السياسية والمدنية.

في السعودية، ظهرت أول حركتين احتجاجيتين في فترة متقاربة الأولى في مكة المكرمة، عرفت باعتصام الحرم المكي بقيادة “جماعة السلفية المحتسبة” وكان يرأسها جهيمان العتيبي بعد انتهاء موسم الحج سنة 1399هـ الموافق أكتوبر 1979، والثانية في المنطقة الشرقية ذات الغالبية الشيعية حيث اندلعت انتفاضة المحرم، إبان مناسبة إحيان شهادة الامام الحسين عليه السلام في العشر الأوائل من شهر محرم الحرام سنة 1400هـ الموافق لشهر نوفمبر 1979. وعلى الرغم من استعمال القسوة الشديدة لقمع الحركتين، فإنهما أسسا لنشاط إحتجاجي داخل المملكة وخارجها. وعلى مسار الحراك السلفي ظهرت بوادر حركة “الصحوة الاسلامية” في النصف الثاني من الثمانينات، التي تحوّلت في مرحلة لاحقة، وتحديدًا إبان أزمة الخليج الثانية بعد احتلال الكويت في أغسطس 1990 إلى حركة احتجاجية تطالب بإصلاحات راديكالية والعودة بالدولة الى نهجها السلفي الصارم، مع التشديد على المحاسبة والشفافية. وقد تبلورت هذه الحركة من خلال عريضة شاملة عرفت بإسم “مذكرة النصيحة” سنة 1992، وقّعها دعاة ومثقفون من التيار الصحوي طالبوا بعملية تطهر لمؤسسات الدولة من العناصر العلمانية في قطاعات التعليم والإعلام والإدارة، وطالبوا بإصلاح سياسي دستوري.

وفي خضم الحراك السياسي الشعبي الوطني والديني في المملكة السعودية، تأسّست “لجنة الدفاع عن الحقوق الشرعية”، وكانت من أولى المبادرات التي طالبت بعلنية النقاش السياسي والمشاركة، وتمّ اعتقال مؤسسيها وحظر عملها، واضطروا بعد الافراج عنهم الى اللجوء إلى المنفى البريطاني.

وتكررت لاحقًا مبادرات إصلاحية أخرى، خاصة بعد هجمات 11 سبتمبر 2001، حيث عرفت عريضة بعنوان “رؤية لحاضر الوطن ومستقبله” عام 2003، وقّعت من طيف واسع من الناشطين ودعاة الإصلاح من تيّارات سياسية وأيديولوجية متنوّعة، وبعد مرور عام على العريضة تم اعتقال رموز التيار الاصلاحي. وفي سنة 2009 أعلن عن جمعية الحقوق السياسية والمدنية (حسم) بمشاركة أحد عشر ناشطًا وأكاديميًا بقيادة عبد الله الحامد وزميله محمد القحطاني وسليمان الرشودي، ولكن ما لبث أن تعرّضوا للاعتقال وأمضوا سنوات طويلة في سجون المملكة.

أما في سلطنة عمان، فأخذ الحراك المدني طابعًا هادئًا كهدوء الحياة السياسية في السلطنة، وقد شهدت حراكًا مجتمعيًا محدودًا منذ التسعينيات، خاصة بين المثقفين. وتمثلت المطالب في توسيع صلاحيات مجلس الشورى المنتخب، وتحسين مستوى الشفافية الإدارية. استجابت الحكومة تدريجيًا بمنح صلاحيات رمزية للمجلس وتحسينات اقتصادية.

في الامارات وقطر، كانت التجارب الاصلاحية محدودة، بسبب محدودية المشاركة السياسية ووجود عقد ريعي قوي. مع ذلك، برزت أصوات إصلاحية من نخبة أكاديمية ودينية، مثل جماعة الإصلاح في الإمارات، والتي تم التضييق عليها لاحقًا. وكانت المطالب تنحصر في توسيع المشاركة والمساءلة، لكنها جوبهت بإجراءات أمنية حازمة.

ويمكن القول على  نحو العموم، بأن الحركات الاصلاحية في الخليج تأثرت ببيئات عربية مجاورة مثل الحراك السياسي في مصر وبلاد الشام. كما تأثرت بتطوّر الإعلام والإنترنت مع بداية الألفية الذي مكّن أصوات الإصلاح من التعبير والتواصل، خصوصًا من خلال المدونات والمنتديات الإلكترونية.

تقييم الحراك المطلبي منذ 2011

شهدت منطقة غرب آسيا وشمال إفريقيا مطلع 2011 موجة احتجاجات شعبية عرفت بالربيع العربي، أسقطت بعض الأنظمة الاستبدادية في تونس ومصر وليبيا واليمن، لكنها لم تؤدِ إلى الإطاحة بملوك الخليج بما في ذلك البحرين التي شهدت أكبر انتفاضة شعبية في تاريخ الخليج المعاصر. ولكن احتجاجات البحرين والسعودية والكويت وعُمان لم تحدث زعزعة في بنى النظم السياسية الشمولية، بل بقيت الملكيات الخليجية عمومًا صامدة. ويرجع ذلك جزئيًا إلى عدة عوامل داخلية: ترتكز سياسات هذه الدول على الثروة النفطية والريعية التي تسمح للسلطات بالحكم بأقل قدر من المحاسبة والاستجابة الشعبية، وتمويل أجهزة قمع قوية، دون تطوير قواعد اجتماعية وسياسية واسعة تدعم التحوّل الديمقراطي. كما دفع الاستقطاب الطائفي والقبلي دول الخليج إلى توظيف التمايزات الاجتماعية في الدفاع عن الأنظمة القائمة. فقد شنّت الحكومات حملات إعلامية تروّج لروايات طائفية أو تهم تتّصل بأمن الدولة لتشويه المطالب الإصلاحية، مما عمّق التصدّعات بين شرائح المجتمع، وهذا كان واضحًا بدرجة كبيرة في البحرين والسعودية حيث لجأ النظام الى توصيم الاحتجاجات بالطائفية.

أما العوامل الخارجية، فتشمل التحالفات الإقليمية والدولية: فالنفوذ المالي والعسكري السعودي والإماراتي والبحريني لعب دورًا فاعلًا في دعم الأنظمة المحافظة (باستمرار تقديم الدعم الاقتصادي والأمني لحلفاء النظام وتعزيز مقارعة الحراك الثوري). وقد تزامن ذلك مع صمت نسبي لحلفاء غربيين (مثل واشنطن ولندن) إزاء القمع الخليجي، فتكاملت الظروف إقليميًا ودوليًا لصالح استقرار النظم التقليدية وصدّ الإصلاحات العميقة .

في السعودية، تركز الحراك الشعبي عام 2011 في المنطقة الشرقية ذات الغالبية الشيعية، حيث نزل مئات آلاف المحتجين إلى الشوارع مطالبين بإطلاق سراح سجناء سياسيين، وإنهاء سياسة التمييز الطائفي، وتعزيز الحقوق العامة. استجابت السلطة الملكية لهذه الاحتجاجات عبر مزيج من الإجراءات المادية والخطابية والقمعية. بعد نشر الروايات المعادية للمتظاهرين باعتبارهم “عملاء لإيران” ومحرضين على الفوضى، عمدت الحكومة إلى تقديم دعم اقتصادي (إعانات مالية وزيادة وظائف القطاع العام) في محاولة لاحتواء الغضب الشعبي، بينما شنّت الأجهزة الأمنية حملة اعتقالات واسعة ضد ناشطي الحراك. وفي الوقت نفسه، أعلن الملك عبد الله عن حزمة تقديمات اجتماعية بقيمة 120 مليار ريال في هيئة راتب اضافي لموظفي القطاع العام والعسكريين والطلاب الجامعيين.

وفي محاولة لاحتواء أي تحرّكات شعبية في المستقبل، لجأ الملك سلمان بعد اعتلائه العرش في 23 يناير 2015 الى إجراء تغييرات اجتماعية تحت مظلة رؤية 2030. وشملت التغييرات توسيع مشاركة النساء في سوق العمل وفتح دور السينما وتقليص صلاحيات هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. غير أن هذه الإصلاحات ترافقت مع قمع مرير للنشطاء الحقوقيين: في سبتمبر 2017 قام النظام بحملة اعتقالات واسعة في صفوف أنصار التيار الصحوي ورموزه الكبار، وفي عام 2018 اعتقل النظام عددًا من أبرز ناشطات حقوق المرأة في السعودية بتهم أمنية بعد نضالهن للحصول على حق قيادة السيارة. هذا التناقض بين إصلاح شكلي وقمع الناشطين كشف عن حذر السلطة من منطق الإصلاح الشعبي، حيث تجاهلت المطالب المطروحة وسلّمت أشواطًا إضافية لقوى المحافظة (من ضمنها سجن الناشطات ووضعهن على قوائم الاتهام بتهم إساءة قادة الدولة) بينما كانت الحكومة تُعلن عن إنجازات اجتماعية وسياسية .

أما في البحرين (التي تحكمها أسرة آل خليفة)، فقد أثارت الاحتجاجات الكبرى عام 2011 مطالب شعبية واسعة تتضمّن إسقاط الحكومة إلى جانب المطالبة بحكومة منتخبة وإقرار التمثيل السياسي العادل وإنهاء التمييز الوظيفي بين المواطنين الشيعة والسنة. لكن الحكومة واجهت هذه الاحتجاجات بقمع مفرط، حيث فرضت حظر تجول واستعانت بقوات من السعودية والإمارات لقمع التجمعات السلمية في ميدان اللؤلؤة في العاصمة المنامة. وحُكم على زعماء المعارضة بالسجن لفترات طويلة بتهم “الخيانة” و”التخابر” مع جهات خارجية، وتم حظر أكبر الأحزاب الوطنية (مثل جمعية الوفاق وجمعية وعد) واغلاق جميع الصحف المعارضة. ونبّهت تقارير حقوقية إلى أن التطوّرات البنيوية منذ 2011 كانت للأسوأ في البحرين: “حيث أُلغيت الأحزاب المعارضة، وأُغلق آخر وسائل الإعلام المستقلة، وتمّ سن قوانين جديدة ضيّقت مساحة المشاركة السياسية”. وإنصافاً للنظام بحُكم تأثيره الإقليمي الواسع، فإن السلطات البحرينية اعتبرت أي تنازل للمعارضة خطراً وجوديًا، وقد ساهم التدخل العسكري الخليجي عبر “قوات درع الجزيرة” وسكوت القوى الكبرى عن هذا الانتهاك السافر في تأمين استمرار الحكم الحالي .

في الكويت، كان هناك برلمان منتخب ونظام سياسي أكثر انفتاحاً نسبيًا من جيرانها. وفي 2011 خرجت تظاهرت بأعداد كبيرة نسبيًا من الكويتيين للمطالبة بتغيير الحكومة ومحاربة الفساد، فعجّل الأمير باستقالة رئيس الوزراء آنذاك . إذ “استجابَ الأمير لمطالب المتظاهرين وقبل استقالة رئيس الوزراء”، مما أعاد التوازن بين أركان الحكم آنذاك. مع ذلك، استمر الصراع السياسي التقليدي بين البرلمان المنتخب والحكومة المعينة. وشهد العقد الأخير حُلولًا متكررة للبرلمان وانتخابات جديدة، وفي مايو 2024 علّق أمير الكويت مشعل الأحمد البرلمان إثر خلاف مع المجلس النيابي، وهو إجراء ليس الأول من نوعه في تاريخ البلاد. ويبرز ضعف التفاعل الشعبي مع هذه التطورات: فالكويتيون ـ على عكس جيرانهم ـ يشتهرون بقلة النزول إلى الشارع، وغالبًا ما يُنظر إليهم على أنهم “يعارضون السلطة بصمت”، إذا تدهورت الأوضاع الإقتصادية. وعلى الرغم من فرادة النموذج الكويتي في المجال الخليجي، لناحية السماح بنقاشات برلمانية حادة وفضاء صحفي أوسع نسبيًا، فإن السنتين الأخيرتين شهدتا انتكاسة ديمقراطية غير مسبوقة، حيث تقلّص الدور الاستراتيجي لمجلس الأمة وأدى ذلك إلى تحجيم آمال الإصلاح.

في عمان، شهدت السلطنة في بداية 2011 سلسلة احتجاجات سلمية طالبت بالإصلاحات الاقتصادية والسياسية. واشتكى متظاهرون في مدينة صحار وخارجها من ارتفاع البطالة والأسعار والفساد بين المسؤولين، وطالب مثقفوها بإصلاح الدستور ومنح المجلس الاستشاري (الشوري) صلاحيات تشريعية أكبر. استجاب النظام العُماني بقيادة السلطان قابوس – بشكل متدرج – عبر مزيج من الإجراءات الاحتوائية: إذ أجرى السلطان تعديلًا في الحكومة، وأقال بعض المسؤولين المتهمين بالفساد وأعلن عن إنشاء مناصب حكومية جديدة، وحزمة كبيرة من التعيينات العامة (50 ألف وظيفة جديدة، ورفع الرواتب والمعاشات، وزيادة بدلات التعليم والخدمات). كما قُدّمت تنازلات شكلية بإصلاح قانون القضاء وتأسيس هيئات استشارية جديدة، من دون المساس بالسلطة المطلقة للسلطان نفسه. ورغم ذلك، لجأت قوات الأمن إلى التدخل القمعي لتفريق التظاهرات؛ وقد أطلقت الذخيرة المطاطية والغاز المسيل للدموع في صحار، ما أسفر عن مقتل اثنين من المحتجين واعتقال العشرات. ويمكن القول، إن الحكومة العُمانية وظفت أدوات الشراء (توظيف وتقديم إعانات) مع بعض التحذير الأمني لتطويق الاحتجاجات الاقتصادية، فكانت الإصلاحات الاقتصادية حافزاً لتهدئة الشارع، بينما حافظت السلطات على حرية تعبير مقيدة ومكّنت نفسها من قمع أية احتجاجات لاحقة مطلوبة.

لناحية الامارات (ذات النظام الاتحادي) فلم تشهد احتجاجات شعبية مماثلة، ويرجع ذلك جزئيًا لسياسة الأمن الصارم والدخل المرتفع. في 2011 وقّع نحو 94 ناشطًا إماراتيًا (سياسيين ومثقفين) عريضة للمطالبة بإصلاحات دستورية وبرلمانية، فاعتقلتهم السلطات لاحقًا بتهم تتعلق بـ”الإضرار بالنظام”. إذ أحالت الحكومة خمسة منهم للمحاكمة بتهمة “إهانة” كبار المسؤولين بعد نشر العريضة التي دعت إلى انتخابات عامة حقيقية وتوسيع صلاحيات المجلس الوطني الاتحادي (الذي لا يمتلك صلاحيات تشريعية فعلية). باستثناء هذه الحالة، لم تنشأ حركات احتجاجية كبرى في الإمارات، واكتفت الدولة بشبكة أمان اقتصادي للضغط على مطالب المجتمع. من أبرز إجراءات السياسة الرسمية في ما بعد إطلاق المبادرات الاقتصادية والاجتماعية (مثل برامج “رؤية الإمارات 2021” وتنويع الاقتصاد)، مع الحفاظ على سلطات السلطات الحاكمة والتضييق على أي انتقاد. هكذا، بقيت القوانين مكبّلة بحرية التجمع والتعبير، ولم يتم السماح بوجود أحزاب سياسية أو نقابات مستقلة.

على نحو مماثل، لم تشهد قطر أي حراك شعبي ذي أثر منذ 2011. وقد أعلنت حكومة الدوحة عن نيتها إجراء انتخابات تشريعية للمجلس الاستشاري (الشورى)، إلا أنها أرجأتها مرارًا حتى نُفذت أول عملية اقتراع جزئية في أكتوبر 2021 لاختيار ثلثي أعضاء المجلس. وأثار قانون الانتخاب الجديد بعض الاحتجاجات القبلية، إذ وجد أفراد من قبيلة آل مرة أنهم محرومون من التسجيل ( بحسب قانون رقم  (38) لسنة 2005 الصادر عن وزارة العدل القطرية بشأن الجنسية القطرية: القطريون أساسًا هم: -1 المتوطنون في قطر قبل عام 1930 ميلادية وحافظوا على إقامتهم العادية فيها، واحتفظوا بجنسيتهم القطرية حتى تاريخ العمل بالقانون رقم (2) لسنة 1961)، فتجمعوا سلمياً للمطالبة بمراجعة القانون واحترام الحقوق الدستورية. باختصار، يركّز النظام القطري على تطوير البنى الاقتصادية والاجتماعية دون تفكيك الحصرية السياسية للحكم العائلي. ومهما بُذِل من جهود للإصلاح المؤسساتي، فإن النخبة القطرية الحاكمة تواصل التحكم في إيقاع التغيير السياسي وترى أنه لا يزال ثمّة حاجة للتدرج في أي انتقال، لا سيما بسبب موقعها الدقيق في محيط يشهد تنافسًا خليجيًا وإقليميًا شديدًا.

معوقات بنيوية وتحديات مؤسسية

تواجه دول الخليج عقبات هيكلية تعيق الانتقال الديمقراطي الفعلي. أولًا، تؤكّد النظرية الريعية أن ثروة النفط تمنح الأنظمة الخليجية مرونة ضخمة في تأمين الولاء الشعبي عبر توزيع الإعانات والوظائف الحكومية، مما يقلّص الضغوط على الحُكّام لتقديم المحاسبة والتمثيل السياسي. وثانيًا، تتسلط في هذه الأنظمة أجهزة أمنية قوية: إذ تُمنع التجمعات السلمية والحريات النقابية، ويقمع الحراك بشدة (على سبيل المثال، لا تسمح الأنظمة الخليجية بتكوين نقابات حرة أو أحزاب سياسية مستقلة، أو حتى صحف أهلية وغير خاضعة لسيطرة الدولة). وثالثًا، إنَّ الهُويةَ الوطنيةَ في بعض دول الخليج مجزّأة على أسس قبلية وطائفية؛ وقد وظفت الأنظمة هذا الإنقسام لكسب الدعم عن طريق خطاب يحذر من “الطائفية” أو الخارج الإقليمي، فتشتّت قدرات المعارضة. ورابعًا، غياب مؤسسات ديمقراطية حقيقية مما يعيق تطوير أبنية حكم تشاركية. كل هذه العوامل تجعل من أي دعوة ديمقراطية شاملة بمثابة تهديد جوهري لنظام السلطة، فالسلطات تستطيع بفعل مواردها توظيف الإصلاحات الشكلية وشراء الولاءات، وفي الوقت نفسه تجاهل أو قمع المطالب التي قد تزعزع استقرارها.

وهكذا، بعد أكثر من عقد على احتجاجات 2011، يمكن القول إن الحراك الإصلاحي في الخليج لم يتمكّن من اختراق الصلابة المؤسساتية للسُلطة الحاكمة. فحتى وإن اتّبعت بعض الحكومات إصلاحات سطحية أو اقتصادية، فإنها لم تستبدل منطق التعاطي الأمني ولم تمنح المعارضة أدوات حقيقية للسيطرة على السياسة. في المقابل، بقيت البيئات الإقليمية والدولية غير مواتية للتحوّل الديمقراطي: فقد التقى التدخل الإقليمي العدائي (بتوجيه وإغاثة سعودية إماراتية للأنظمة)، مع صمت المحافل العالمية بشأن القمع، فتوّج ذلك بتحطيم الأحلام الشعبية. ومن هذا المنطلق، تعكس تقييمات عديدة أن القوى الإصلاحية لم تُعدّل في كثير من الأحيان استراتيجياتها وفق المستجدّات الجيوستراتيجية؛ فبدلًا من استقطاب الشرائح المجتمعية المختلفة ببناء تحالفات أوسع، ظلت مقيدة ضمن أطر محلية ضيّقة. وفي نهاية المطاف، تبقى المعادلة الخليجية قائمة: “لقد سحقَ النظام الخليجي – مثل البحريني – آمال وتوقّعات احتجاجات 2011 بعقد من القمع الشديد”. وعلى ضوء ما سبق، يمكن الجزم بأن الحراك الإصلاحي واجه بيئة إقليمية ودولية لا تزال غير ملائمة لانتقال ديمقراطي حقيقي ، بغض النظر عمّا إذا وُجِد قصورٌ في فهم متغيّرات السياق من جانبه أم لا.

ولذلك، فإن المطلوب هو تفعيل ديناميات اجتماعية وثقافية وسياسية وحقوقية تجعل من “التغيير” سؤالًا مطروحًا على الدوام، وإن لم يتحوّل الى أحد الهموم الرئيسة والجمعية. لقد نجحت الانظمة في عزل سؤال التغيير والاصلاح على أساس أنه مطلب فئوي وليس وطنيًا، وبات المطلوب من القوى الاصلاحية أن تكثف جهودها لتحويل الاصلاح قلقًا عامًا يحرّك كل الفئات..

التطبيع بديلًا عن الإصلاح

رغم مضي قرابة ست سنوات على توقيع اتفاقيات التطبيع بين كل من الإمارات والبحرين مع الكيان الإسرائيلي، لا تزال الأهداف الحقيقية الكامنة خلف هذه الخطوة محل نقاش واسع في الأوساط الأكاديمية والسياسية فضلًا عن الشعبية. إذ تشير الوقائع إلى أن هذه الاتفاقيات لم تكن مجرد تعبير عن مصالح آنية بقدر ما مثّلت تحولات استراتيجية متعددة الأبعاد، تتداخل فيها الأبعاد الاقتصادية والسياسية والأمنية والدبلوماسية.

ومن أبرز ملامح التطبيع الاقتصادي، التوسّع الملحوظ في حجم التبادل التجاري بين الإمارات والكيان الإسرائيلي، إذ بلغ هذا التبادل 1.22 مليار دولار بحلول نهاية عام 2021، وقفز إلى نحو 2.5 مليار دولار في عام 2022، وفق ما أوردته وكالة أنباء الإمارات. كما أظهر تقرير صادر عن مكتب الإحصاء الإسرائيلي في أغسطس 2024 أن الإمارات تصدّرت الدول العربية في حجم التبادل التجاري مع إسرائيل خلال النصف الأول من العام نفسه، حتى في ظل العدوان المستمر على قطاع غزة. وقد بلغ حجم هذا التبادل في يونيو وحده نحو 272 مليون دولار، بنسبة زيادة بلغت 5% مقارنة بالفترة نفسها من العام السابق.

ويُضاف إلى ذلك اتفاقية التجارة الحرة الموقعة بين الطرفين، والتي نصّت على إلغاء الرسوم الجمركية على 96% من السلع المتبادلة، فضلًا عن إنشاء صندوق استثماري إماراتي بقيمة 10 مليارات دولار مخصص للاستثمار في قطاعات حيوية داخل الكيان الاسرائيلي، كالتكنولوجيا والطاقة والفضاء والصحة والزراعة.

ولا يمكن فصل الجانب الأمني عن دوافع التطبيع، لا سيما في ضوء صفقة بيع الولايات المتحدة طائرات مقاتلة من طراز “إف-35” للإمارات، وهي صفقة لطالما رُفضت سابقًا خشية تهديد التفوق العسكري الإسرائيلي. إلا أن الموافقة على الصفقة بعد الاعتراف الإماراتي بالكيان الاسرائيلي تثير تساؤلات حول إعادة تشكيل منظومة التحالفات الأمنية في المنطقة، بما يرسّخ التغلغل الإسرائيلي داخل الإقليم العربي تحت غطاء الشراكة الاستراتيجية.

أما في البحرين، فقد تجاوزت العلاقات التطبيعية حدود الاقتصاد إلى المجال الأمني والعسكري، لا سيما بعد الإعلان عن تعيين ملحق عسكري إسرائيلي في مقر الأسطول الخامس الأميركي في المنامة. وعلى الرغم من التواضع النسبي لحجم التبادل التجاري بين البحرين وإسرائيل ـ إذ لم يتجاوز 7.5 ملايين دولار في عام 2021 ـ فإن البعد الأمني يبدو أكثر تأثيرًا في القرار البحريني بالتطبيع، خاصة مع سعي النظام إلى تعزيز شراكته مع الولايات المتحدة والحصول على دعم أمني في مواجهة تهديدات إقليمية ـ في الغالب متخيلة ـ على رأسها إيران، فضلًا عن الداخل البحريني المعارض.

من جهة ثالثة، تلعب الديناميات الدولية والضغوط الأميركية دورًا محوريًا في دفع هذه الانظمة على الانخراط في مشروع التطبيع، لا سيما تلك الضغوط التي مارستها إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب، في ولايته الأولى، والتي قدمت حوافز سياسية وعسكرية واقتصادية مقابل توسعة دائرة التطبيع العربي. وقد مثّلت هذه الضغوط جزءًا من استراتيجية أوسع ضمن “صفقة القرن”، التي استهدفت إعادة ترتيب التحالفات في منطقة غرب آسيا بما يخدم الأجندة الأميركية والإسرائيلية، ويضعف أي محور مقاوم في الإقليم.

ويمكن القول إن اتفاقيات التطبيع مع الكيان الإسرائيلي جاءت كنتيجة لتقاطع مركب بين المصالح الاقتصادية والضغوط السياسية والاعتبارات الأمنية، أكثر مما كانت استجابة لمطالب داخلية أو نتيجة لتحولات اجتماعية. وقد وظّفت الأنظمة الموقعة هذه الاتفاقيات كوسيلة لتعزيز شرعيتها الدولية، وتوسيع دائرة التحالفات مع القوى الكبرى، وتأمين نظمها الداخلية في مواجهة التهديدات.

مع ذلك، فإن هذه الاتفاقيات، ورغم ما أحرزته من مكاسب محدودة، واجهت تحديات بنيوية في ظل تصاعد العدوان الإسرائيلي على غزة ولبنان وسوريا واليمن، فضلًا عن تنامي الغضب الشعبي الرافض للتطبيع في المجتمعات الخليجية. وعليه، فإن المضي قدمًا في هذا المسار سيبقى مرهونًا بقدرة هذه الأنظمة على موازنة مصالحها الخارجية مع استحقاقات الداخل، وبمدى استعدادها لتحمل التبعات السياسية والأخلاقية المترتبة على الشراكة مع كيان يُتهم بارتكاب انتهاكات جسيمة بحق الشعوب العربية.

وهذا يحيلنا إلى تقييم أداء الدول الخليجية المطبّعة مع الكيان الإسرائيلي منذ انطلاق معركة “طوفان الأقصى”، بصفته جزءًا من الحراك الشعبي الخليجي، كما يظهر في تفاعل مجاميع كبيرة مع مأساة غزة ومناهضة العدوان الصهيوني.

منذ اندلاع معركة “طوفان الأقصى” في السابع من أكتوبر 2023، وما تبعها من عدوان واسع النطاق شنه الكيان الإسرائيلي على قطاع غزة، خضعت مواقف الدول الخليجية المطبّعة، وتحديدًا الإمارات ومملكة البحرين، لاختبار حقيقي لقدرتها على موازنة علاقاتها مع تل أبيب من جهة، والتزاماتها الأخلاقية والسياسية تجاه القضية الفلسطينية من جهة أخرى. غير أن المعطيات المتوافرة حتى اليوم تُظهر أن هذه الدول لم تلعب أي دور يُعتد به في الضغط على الكيان الإسرائيلي لوقف العدوان أو التخفيف من تبعاته الإنسانية الكارثية.

على صعيد السلوك السياسي والدبلوماسي، ورغم التوقعات بأن تلجأ الدول الخليجية المطبّعة إلى توظيف علاقاتها الرسمية مع تل أبيب للضغط باتجاه وقف إطلاق النار أو الحد من الانتهاكات الإسرائيلية، فإن ردود أفعالها جاءت في أغلبها ضمن إطار الحياد الدبلوماسي أو بيانات الإدانة العامة، دون تحميل الكيان الإسرائيلي مسؤولية مباشرة عن الجرائم المرتكبة، بما في ذلك القصف العشوائي للمناطق السكنية، وسياسة الحصار والتجويع، والتهجير القسري، والتي ترقى في توصيف القانون الدولي إلى جرائم إبادة جماعية.

من جهة ثانية، غياب الإجراءات العقابية أو الرمزية، إذ لم تقدم الإمارات أو البحرين على اتخاذ أي خطوات دبلوماسية أو اقتصادية تصعيدية ضد الكيان الاسرائيلي، كاستدعاء السفراء، أو تعليق الاتفاقيات الثنائية، أو حتى التلويح بإمكانية مراجعة العلاقات. بل على العكس من ذلك، استمرت العلاقات التجارية والدبلوماسية كالمعتاد، بما في ذلك استمرار الرحلات الجوية والخطوط اللوجستية، بل وتجاوز الأمر ذلك إلى ما هو أبعد، إذ أُفيد بأن الدولتين ساهمتا في تأمين طرق بحرية بديلة لنقل البضائع إلى الكيان الاسرائيلي، بعد تعطيل المسارات البحرية التقليدية نتيجة العمليات التي نفذتها حكومة أنصار الله في اليمن.

ومن جهة ثالثة، هناك ثمن سياسي للتطبيع، ومن خلال التقييم الإجمالي للأداء السياسي لكل من الإمارات والبحرين، يظهر بوضوح أن اتفاقيات التطبيع لم تُبنَ على أسس استراتيجية متوازنة تتيح لهذه الدول هامشًا للمناورة في القضايا الإقليمية الكبرى، بل إنها جاءت في إطار اصطفاف واضح مع المحور الأميركي ـ الإسرائيلي. وتكشف طريقة تعامل هذه الأنظمة مع حرب غزة عن أولوية المصالح الاقتصادية والتحالفات الاستراتيجية على حساب الالتزامات القومية والإنسانية تجاه القضية الفلسطينية.

وعلى مستوى الانعكاسات الداخلية، فمن اللافت أن الموقف الرسمي في كلا البلدين، ولا سيما البحرين، أثار استياءً شعبيًا واسعًا، انعكس في مظاهر احتجاجية ومطالب بإلغاء اتفاقيات التطبيع. إذ بدت مواقف الحكومتين متعارضة بصورة حادة مع الرأي العام المحلي، الذي لا يزال يعبّر عن تضامن واسع مع الشعب الفلسطيني ورفض للعدوان الإسرائيلي. وهذا التباين بين الموقفين الشعبي والرسمي يسلّط الضوء على أزمة مشروعية سياسية، خاصة في ظل غياب قنوات تعبير فعالة عن الرأي العام في كلا النظامين.

وتكشف الأزمة الحالية، منذ انطلاق “طوفان الأقصى”، عن أن تطبيع العلاقات مع الكيان الإسرائيلي لم يؤسس لتوازن استراتيجي أو تأثير دبلوماسي فعال، بل جاء محكومًا بحسابات براغماتية مفرطة أضعفت من صدقية هذه الأنظمة أمام شعوبها وأمام القضايا القومية. إن استمرارية هذا النهج قد تؤدي إلى مزيد من التآكل في شرعية هذه السياسات الخارجية، فضلًا عن تعزيز الانقسام بين الشارع والنظام، لا سيما في ظل تنامي العدوان الإسرائيلي وفشل المسار التطبيعي في تحقيق أي اختراق لصالح الحقوق الفلسطينية أو الاستقرار الإقليمي.

في التداعيات، إن انزياح الانظمة الخليجية نحو التطبيع يتعارض بنيويًا مع الاصلاح السياسي، لما يتطلبه من هيكلية مؤاتية تنسجم مع مطالب الشعب، وتتعارض في الجوهر مع المطلب الخارجي الذي يراهن على استلاب هذه الانظمة لتكون قادرة على تلبية متطلبات الخارج. وسوف يبقى التطبيع متناقضًا بنيويًا مع الاتجاه الاصلاحي العام، فالتطبيع والاصلاح نقيضان لا يجتمعان وإن هذا يرسم خارطة طريق المستقبل.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى