مقالات أخرى
أخر الأخبار

دعوة ملغومة لعودة المعارضة

في 2 مارس 2025 أطلق رئيس جهاز أمن الدولة عبد العزيز الهويريني ما وصفها “دعوة” لمن هم في الخارج “الذين يصفون أنفسهم بالمعارضة”، بحسب قوله، للمبادرة الى التواصل مع أي سفارة سعودية في الخارج لإجراء ترتيبات العودة الى الديار. وأوضح في حديث عبر برنامج “حكاية وعد” على قناة إم بي سي السعودية بأن هذه الدعوة هي بتوجيه مباشر من ولي العهد محمد بن سلمان. وأشار إلى أن “باب العودة إلى البلاد مفتوح أمام المغرر بهم في الخارج ممن استغلتهم جهات أو كيانات وقدّمت لهم مبالغ مالية في مراحل سابقة للقيام بأعمال مغرضة، شريطة عدم تورطهم بجرائم خاصة، مشدداً على أن الدولة تعالج ولا تعاقب، ولن تشهر بهم”.

نص كثيف يؤسس لقراءة الخلفية التي ينطلق منها الهويريني، الذي يقارب “المعارضة” بخلفية أمنية وجنائية. فهو يضع الدعوة في سياق “مكافحة التطرّف” والإرهاب. وهذا يؤكد على أن التعامل يجري ليس مع معارضة لها مطالب مشروعة أو حتى مطالب قابلة لنقاش، فهذا الأمر غائب تمامًا في كلام الهويريني بل وفي خطاب النظام السعودي على نحو العموم، وإنما الحديث هو عن “عفو”، وإن لم يشأ الهويريني استعمال الكلمة، وإنما تسهيل عودة الى البلاد من دون قيد أو شرط. وإن استخدام عبارة “أن الدولة…تعالج ولا تعاقب” تشي بالتصوّر القبلي لتجريم فعل المعارضة، ونفي أي إنتهاك لحقوق الإنسان، وإسباغ صفة “المعالجة” وليس “العقاب” على أساس أن “الدولة تحمي أبناءها من استغلال المتطرفين لهم”.

في التحليل العام، وفي الشكل أيضًا للدعوة، يجري التعامل مع “مذنب” اقترف جرمًا، في مقابل من أحسن إليه وأجاد فعفى عنه، أي تنازل عن حقه في العقوبة. في الواقع، الدعوة ذهبت إلى أبعد من مجرد توصيف فعل المعارضة بالذنب، وإنما جعلت المعارضين في هيئة “عملاء” و”مرتزقة” يعملون مقابل أموال يتلقونها من جهات معادية.

ومن أجل تفكيك الدعوة ووضعها في سياقها المنهجي الصحيح، لا بد من الإضاءة على ثوابت قديمة وراسخة لدى النظام السعودي في التعامل مع ملف المعارضين:

1ـ عدم الاعتراف بمعارضة منظمة تحت أي ظرف أو عنوان، لأن الاعتراف ينطوي على التنازل عن احتكار “السياسة”، التي تنظر اليها باعتبارها شأنًا عائليًا، وأن من سواهم هم مجرد رعية تابعة للدولة. فالسياسة، بصفتها شأنًا عامًا تصبح جريمة حين تنتقل من القصر الى الشارع. وهنا لفتة جوهرية الى رؤية أهل الحكم إلى الدولة نفسها بصفتها امتيازًا حصريًا لهم دون سواهم، وإنهم مالكو الملك يهبون من يشاؤون بعض نعيمهم ويحرمون من يشاؤون بموجب حقهم الحصري. 

2ـ الاصرار على إسباغ الطابع الفردي في مقاربة ملف المعارضين، أي التعامل مع “حالات فردية”، وليس مع جماعة مهما كان لونها وهويتها الايديولوجية والاجتماعية/الاثنية. الفردية تنفي الصفة السياسية وتحصرها في البعد الأمني، ولا غرابة، والحال هذه، أن تصدر الدعوة ـ المبادرة من شخصية أمنية وليست سياسية، وهذا يعني أيضًا أن كل الترتيبات سوف تكون ذات طبيعة أمنية وليست سياسية وحقوقية، وعليه فهي عودة غير مشروطة من جانب “من يصفون أنفسهم بالمعارضة” حسب قوله.

من جهة أخرى، إن الإصرار على الطابع الفردي ينطوي على نيّة “تفتيت” المعارضات المنظمة في الخارج، إذ المطلوب منها أن تعود الى الديار أشتاتًا وليس في هيئتها المنظمة، وهذا ما كان يجري في كل تجارب “العفو” السابقة، حيث كان الإصرار على التعامل الأمني أولًا والفردي ثانيًا، ولم يكن يسمح لأحد بالحديث عن أي حقوق عامة جزئية أو كليًة.

3ـ الانطلاق من “تجريم” من يعارض النظام السياسي القائم، أولًا بهدف نزع مشروعية أي عمل معارض وثانيًا لأضفاء صفة “المكرمة” على أي دعوة للمعارضة. وهناك يصبح التعامل مع مجرم هو المعارض وجريمة وهي أصل فعل المعارضة وهناك “ولي الأمر” الرحيم الذي يعفو عن السيئات في إيحاء بتعصيم السلطة وتجريم المعارضة. فالقسمة بين جبهة الخير هي الدولة وأهلها وجبهة الشر وهي المعارضة وأهلها، وأن الدولة من موقع الخير تعفو عن المسيئين والأشرار، وحين تعفو تسقط حقها الشرعي والقانوني وتنفي عن المعارضة أي حق شرعي، إذ كيف يرجو المذنب حقًا، فجزاؤه العقوبة وأن الدولة قد صفحت عنها فهي محسنة!

من جهة ثانية، وعلى الرغم من أن الدعوة صادرة من النظام نفسه، فإن الهويريني لم يرد أن يوحي بأي شكل من الأشكال بأن هذه الدعوة تأتي من موقع الضعف والوهن، وإنما أريد وضعها في سياق “توجيه من جهة عليا” وكأن هناك من “تلطّف” ونظر بعين “الرحمة والعفو” وقرّر تقديم دعوة لفئة من “المغرّر بهم” و”العملاء” الضالين والمرتزقة الذين يتلقون أموالًا من الخارج ـ العدو،وأن العفو يفترض أن المعارضة قبلت الإنابة والتوبة والعودة غير المشروطة الى حياض الوطن.

لا تفاصيل حول ما سوف يجري لاحقًا على الأشخاص الراغبين في العودة، ما خلا تسهيل إجراءات عودتهم إلى الديار، أي أنها عودة بلا ضمانات ولا حقوق، وهذا ما يجعلها مجرد عفو عن مجرمين.

4 ـ التصوّر العقيم لدى السلطة بأن المعارضين أشخاص مأزومون معيشيًا وقانونيًا، وأنهم في حالة حيرة وضياع وعاجزون عن تدبير أمور معاشهم. وقد تعزّز هذا التصوّر في الآونة الأخيرة، خصوصًا إزاء المعارضة الشيعية، إذ يعتقد رجال “أمن الدولة” بأنّ محور المقاومة قد ضعف بعد الضربات التي تلقاها في لبنان وفلسطين وسورية، ولم تعد إيران قادرة على “تمويل” حلفائها وتحمّل أعباء معاشهم ومعادهم، نتيجة الحصار وتقطّع السبل. وقد قيل ذلك حرفيًا مؤخرًا لأحد الذين عرض عليهم أحد رجال “أمن الدولة” العودة الى البلاد.

السياق الزمني

قد لا يكون هناك سؤال أشد إلحاحًا في هذه الدعوة من توقيتها. فلماذا أطلق الهويريني مبادرة بتوجيه من ابن سلمان الآن على وجه التحديد؟ وجواب ذلك على أوجه:

ـ في الشكل والبعد التقني يبرز:

أولًا: معطيات متعددة تفيد بأن ثمة تحركات من سفارات سعودية متفرقة سبقت دعوة الهويريني الأمر الذي يشي بأن “خطة الهجوم” كانت معدّة سلفًا، وإن الهويريني جاء ليضفي الطابع العلني والرسمي على المبادرة، وحتى تؤخذ على نحو جدّي وأنّها صادرة من أعلى المستويات..وهذا مؤشر على أن المرحلة الأولى لم تحقق نتائجها المرجوة، أي أن تتولى السفارات الاتصالات بالمعارضين وتقديم “عرض” العودة الى الديار، فجاء عرض “الهويريني” ليكون واضحًا وعلنيًا، مع أنه أشار في “عرضه” أن كل ترتيبات العودة مع كل شخص في الخارج يرغب في العودة ستكون محفوفة بـ “السرية”.

تجدر الإشارة إلى أن هناك أفرادًا من المحسوبين على المعارضة (وليسوا بالضرورة معارضين) قد تواصلوا مع سفارة سعودية في الخارج لأنهم شعروا بعدم جدوى البقاء في الخارج، فهم وجدوا أنفسهم في لحظة ما ناقمين على الأوضاع الداخلية (الشخصية أو العائلية أو حتى المجتمعية والسياسية)، وفضّلوا العيش في الخارج على أمل العثور على فرصة أفضل على المستوى الشخصي، وأن الفرصة باتت الآن سانحة لهم لتصحيح أوضاعهم بالعودة. وهذا ينطبق على مجموعة ضئيلة لا تشكل وزنًا في المعارضة السياسية.

ثانيًا: اتصالات متعددة جرت بين شخصيّات مقرّبة من السلطة ومن “أمن الدولة” على وجه الخصوص ومعارضين في الخارج، بل وجرت لقاءات مباشرة في بعض الدول من أجل إقناعهم بقبول دعوة العودة الى الديار. جرى ذلك إما عبر كتّاب وصحافيين يعملون في صحف رسمية ومواقع رسمية أو عبر رجال أعمال أو وجهاء وزعماء قبائل..

حتى الآن، لا مؤشرات على قبول شخصيات معارضة وازنة بهذه الدعوة، لأسباب عديدة في طليعتها أنها دعوة تنطوي على عدم تقدير واحترام وتجريم للمعارضة ولا تحمل بوادر خطة إصلاحية عامة.

 ـ في الخلفيات السياسية يبرز:

1ـ استعجال قطف الثمار: تعتقد السعودية بأن محور المقاومة تلقى ضربة قاصمة في مرحلة “طوفان الأقصى” ويمكن استثمار ذلك في “استدراج” المعارضين ـ الشيعة بدرجة أساسية ـ للقبول بالعودة من موقع الهزيمة.

2 ـ هناك استحقاقات مقبلة تتطلب أجواء مستقرة وهادئة:

أ ـ التطبيع مع الكيان الاسرائيلي: ويمثل هذا الحدث انقلابًا جيوسياسيًا فارقًا في تاريخ المنطقة، وسوف تكون له تداعيات هائلة شعبية وسياسية وأمنية واقتصادية. ولا يزال ولي العهد السعودي محمد بن سلمان متردّدًا في المضي نحو التطبيع خشية ردود فعل غير متوقعة داخلية وخارجية (إقليمية عربية وإسلامية).

ب ـ  تقلبات جيوسياسية إقليمية وحالة لايقين سياسي تشهدها المنطقة والعالم وتنذر بعواقب وخيمة. فالمنطقة في حالة سيولة وإن موازين القوى الاقليمية والدولية مرشّحة للتبدّل الدراماتيكي، في ظل أحاديث عن خرائط جديدة ومشاريع حروب بخلفيات استعمارية واحتلالية يقودها اليمين المتطرّف في الولايات المتحدة والكيان الاسرائيلي. ومع أن النظام السعودي يحسب نفسه على التحالف الصهيوأميركي ولكنّه غير مطمئن لما يبيّته هذا التحالف له في المستقبل، والذي قد يكون على حساب الخارطة الجيوسياسية التي يتموضع فيها النظام السعودي.

وهناك أحاديث عن حرب كبرى في المنطقة، وأكثر من سيناريو لحروب متنقلة، وقد تشتعل ابتداءً في اليمن وتمتد إلى العراق وصولًا إلى ايران. لن يحتمل النظام السعودي تبعات هذه الحرب وإن اختار الانخراط فيها، خصوصًا إذا ما أصبحت الجبهة الداخلية واحدة من جبهات المواجهة. لم يعد خافيًا أن اليمن يتحضّر لمعركة مفتوحة مع النظام السعودي، وأنّه يعد نفسه لنقل المعركة الى داخل الأراضي السعودية، وهذا قد يشجّع المعارضة على الانخراط في المعركة من أجل إسقاط النظام. ولذلك، فإنّ من مصلحة النظام تحييد المعارضة للحؤول دون مضاعفة الأعباء المطلوب تحمّلها في حال وقوع الحرب.

ج ـ المزيد من الانخراط في المجال الدولي: استثماريًا، ورياضيًا، وسياسيًا. هناك توجّه لدى النظام السعودي من أجل مضاعفة حضوره في المسرح الدولي،  وهذا يجعله مكشوفًا إعلاميًا وقانونيًا وحقوقيًا، وأن وجود معارضة فاعلة في الخارج، وخصوصًا في الدول التي تشكّل الفضاء المفضّل لعمل السعودية ما قد يعرّضها لضغوط وملاحقات قضائية في حال ارتكاب انتهاكات جسيمة تتسبب في إلحاق حرج أو حتى ضرر بالشركات والحكومات والمنظمات الدولية (الفيفا وصندوق النقد الدولي والبنك الدولي ومنظمة العمل الدولية..) التي تتعامل معها أو لديها مصالح مشتركة معها.

في التقييم النهائي لمبادرة “العفو” أو بالأحرى “الدعوة” لعودة المعارضين الى الديار أنها تفتقر الى الأساس الصحيح لفهم طبيعة المعارضة  مشروطًا بالتحرر من سوابق التقييم العقيم الذي يبنى عليه قرار التعامل مع المعارضة بكونها “جريمة” و”ذنبًا” وليست رد فعل على سياسات خاطئة انتهجها النظام وهي مؤسسة على انتهاك لحقوق مشروعة. وسوف تبقى كل دعوة عقيمة طالما بقي التصوّر الرسمي عن المعارضة على حاله، فالمعارضة هي رد فعل وليست فعلًا ابتدائيًا، وإن التصحيح يبدأ من نهج الدولة وسياساتها في التعامل مع الشعب على أساس مبدأ المواطنة المكتملة الأركان، بما يكفل الحقوق السياسية والإجتماعية والإقتصادية والثقافية المتساوية لكل مواطن. أما إذا جرى التعامل مع المعارضين على أساس “مغرّر بهم” و”استغلتهم” جهات خارجية مقابل أموال للقيام “بأعمال مغرضة”، فهذا ينفي صفة الشرعية عن المعارضة كحق مشروع ورد فعل على فعل غير قانوني وغير شرعي، ويجعل من المعارضين في نظر هذا النظام مجرد “عملاء” و”مرتزقة”، وفي نهاية المطاف، تبقى الحلقة المفرغة قائمة إلى ما لانهاية. 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى