“الصفقة الكبرى” بين واشنطن والرياض وتل أبيب …الأمن والدفاع والنووي..والتطبيع
ـ وحدة التحقيقات ـ مركز طوى للدراسات السعودية
ما إن تكاد أحجية الاتفاقية الدفاعية بين الرياض وواشنطن تصل الى خاتمة سعيدة بالنسبة إلى الجانب السعودي، حتى تغزل أحجية أخرى خيوطها، ولا يكاد يصل طرفان الى مخرج حتى يضع الطرف الثالث صخرة تغلقه. هو تجاذب بين حلفاء وليس بين خصوم، وإن ما يحاول كل طرف الحصول عليه من الآخر هو ما بعد مرحلة التحالف.
تضع السعودية عينها على الاتفاقية الدفاعية ومرفقاتها (الأمني والنووي والعسكري) مع الولايات المتحدة، وبكل الاستثناءات الممكنة فيها، بما في ذلك التخلي عن الإنتقال الديمقراطي. ومن حسن حظ حكام السعودية، أن الإدارات الأميركية الأخيرة لم تعد حريصة، كما سابقاتها، على تطبيق الشروط حرفيًا على الدول الحليفة في حال الرغبة في إبرام اتفاقيات نووية أو دفاعية تؤمّن خلالها الولايات المتحدة حماية الحلفاء في مقابل لبرلة الحياة الاجتماعية، ودمقرطة النظام السياسي، واعتماد مبدأ السوق اقتصاديًا. هذا كان حال دول حليفة في الشرق مثل اليابان، وكوريا الجنوبية، والفلبين، وسنغافورة..أما في منطقة غرب آسيا فالحال يختلف، وإن مرتع الديكتاتوريات الذي نشأ بدعم قوى الاستعمار القديم بقي كذلك حتى مع تحوّل موازين القوى بعد الحرب العالمية الثانية، وصعود الولايات المتحدة بصفتها القطب الأقوى في العالم.
كانت السعودية ومعها بقية دول مجلس التعاون الخليجي تسعى منذ عقود للحصول على “استثناء” أميركي لناحية إبرام الاتفاقيات الدفاعية التي تضمن حماية العروش مع شروط مخفّفة، لا تشمل التحوّل الديمقراطي. بكلمات أخرى، تريد دول الخليج معاهدة يعترف بموجبها كل طرف بأن أي هجوم مسلح على أي من الطرفين يكون هجومًا عليهما معًا، وسيكون خطرًا على سلامتهما معًا، وتاليًا التعهّد بالعمل على مواجهة الخطر المشترك.
في 14 مايو 2015 وعلى خلفية مخاوف دول مجلس التعاون الخليجي من تخلي الولايات المتحدة عنها بعد توقيع الإتفاق النووي في وقت سابق من ذلك العام، اجتمع الرئيس الأميركي باراك أوباما مع ممثلي دول الخليج في كامب ديفيد، المقر الرئاسي الصيفي على بعد مائة كيلو مترًا خارج واشنطن العاصمة. حضر اللقاء أمير الكويت صباح الأحمد وأمير قطر الشيخ تميم بن حمد، فيما غاب الملك سلمان، وتبعًا له ملك البحرين، وحضر محمد بن زايد نائبًا عن أخيه المريض، وممثل عن سلطنة عمان للسبب نفسه. وحضر محمد بن نايف، ولي العهد ووزير الداخلية ومحمد بن سلمان، ولي ولي العهد ووزير الدفاع.
وكان هدف اللقاء تهدئة مخاوف أنظمة الخليج من تنامي نفوذ ايران في المنطقة عقب الاتفاق النووي. وكانت دول مجلس التعاون تطالب بمعاملة استثنائية مقابل الاتفاق النووي بين واشنطن وطهران، والمطلب المشترك خليجيًا هو اتفاقية دفاعية مع الولايات المتحدة لضمان أمن أنظمة الخليج. ومع الأهمية الرمزية التي أريد للقاء الاميركي الخليجي أن يكتسبها فإن أوباما أكّد على “الصداقة الاستثنائية” التي تربط واشنطن والرياض، مستدعيًا بداية العلاقات التي أسس لها لقاء روزفلت وعبد العزيز على باخرة كوينسي في 1945. وكان القلق لدى دول الخليج ينصب حول احتمالية ميل الولايات المتحدة نحو عودة طهران إلى الساحة الإقليمية وتنامي علاقاتها مع واشنطن على حساب حلفائها الاقليميين التقليديين في المنطقة. ولذلك كان بعض مسؤولي الخليج يتطلع لعقد اتفاق مشترك شبيه بمعاهدة حلف شمال الأطلسي، ولكن مثل هذا الاتفاق يتطلب موافقة الكونغرس الأميركي.
موقف الكونغرس لم يكن متصالحًا مع مطلب دول الخليج، إذ كانت أصوات داخله تطالب إدارة إوباما بالضغط على دول الخليج من أجل تبني اصلاحات ديمقراطية. وفي رسالة بعث بها 45 عضوًا في الكونغرس الى أوباما في مايو 2014 طالبوا فيها بما نصّه: “التوصل الى حلول دائمة للتحديات التي تواجهها المنطقة وأن يحترم حلفاؤنا حقوق الإنسان الأساسية داخل حدودهم”[1].
لم يسفر اللقاء عن تلبية الطلب الخليجي بتوقيع اتفاقية دفاعية استثنائية ما خلا تطمينات بتوفير كل أشكال الدعم حيال التهديدات المنظورة من دول مجاورة. وعادت الوفود خالية الوفاض على أمل أن يتجدد الطلب في عهود لاحقة. ومع المعاملة الخاصة التي حصلت عليها السعودية والامارات في عهد دونالد ترامب في الفترة ما بين 2016 ـ 2020، فإنها لم تصل إلى مستوى توقيع اتفاقية دفاعية على النحو الذي يعفي السعودية من المندرجات في الاتفاقيات الدفاعية التقليدية، بين الولايات المتحدة وعدد كبير من الدول.
إن التغييرات البنيوية التي أحدثها الملك سلمان في الدولة السعودية، والتي أفضت الى تهميش دور أسرة آل سعود والمؤسسة الدينية الوهابية أنتجت فراغًا واسعًا ومخاطر غير منظورة تحدق بمستقبل العرش. إن مجرد إزاحة المنافسين المحتملين (أحمد بن عبد العزيز، ومحمد بن نايف، ومتعب بن عبد الله) وتهميش دور المؤسسة الدينية وتحييد التيار الصحوي باعتقال رموزه الكبار وفرض تدابير أمنية صارمة ضد الناشطين وطلاّب الإصلاح لم يصنع بيئة آمنة لانتقال السلطة في مرحلة ما بعد سلمان. ولذلك، فإن محمد بن سلمان، شأن باقي الأمراء السعوديين وحكام الخليج الآخرين، يرون بأن الضمانة الوحيدة لخلق بيئة آمنة هي عبر تعزيز العلاقات مع واشنطن وكب ثقة الادارة فيها وتاليًا إبرام اتفاقية دفاعية مع الولايات المتحدة.
ولأنه لا شيء يمكن الحصول عليه على نحو مجاني ومن دون ثمن، فإن الولايات المتحدة تدرك تمامَا احتياجات حلفائها، كما تدرك تمامًا نقاط ضعفهم، وهي أقدر على تثميرها في سياقات أخرى إقليمية ودولية.
إن ربط الاتفاقية الاستراتيجية بين الرياض وواشنطن بكامل حمولتها (الاتفاقية الأمنية، المشروع النووي، التسهيلات العسكرية) بمشروع التطبيع ينقل الاتفاقية من طابعها الثنائي، حيث تصبح اسرائيل طرفًا ثالثًا، لا من حيث الترتيب ولكن من حيث الشراكة، وإلا فإن الولايات المتحدة جعلت من موافقتها على الاتفاقيات الامنية والدفاعية مع الرياض شرطًا إلزاميًا يتوقف عليها إمضاء الاتفاقيات عامة.
ولذلك، ترفض الولايات المتحدة أي اعتراف بالدولة الفلسطينية من خارج “الصفقة الكبرى”، وقد عارضت التصويت على عضوية الدولة الفلسطينية في الامم المتحدة. وفي 18 أبريل 2024 إستخدمت حق النقض (الفيتو) ضد مشروع قرار جزائري يوصي الجمعية العامة بقبول دولة فلسطين عضوًا في الأمم المتحدة، مع أنّ 12 عضوًا من بين أعضاء المجلس الخمسة عشر صوتوا لمصلحة القرار، فيما عارضته الولايات المتحدة وامتنعت عن التصويت المملكة المتحدة وسويسرا، وكان التبرير الرسمي الأميركي كما أعلن عن ذلك في 22 مايو 2024 أن “الرئيس بايدن يعتقد بأن الدولة الفلسطينية يجب أن تتحقق من خلال المفاوضات وليس باعتراف من أطراف منفردة” وهذا التصريح يأتي بعد قرار كل من أسبانيا والنرويج وإيرلندا الاعتراف بالدولة الفلسطينية..
وقد كثر في السنة الأخيرة الكلام عن الاتفاقية الأمنية الدفاعية بين السعودية والولايات المتحدة، ولكن لم تذكر الاتفاقية تلك إلا ويذكر معها التطبيع مع الكيان الاسرائيلي. لا تمانع السعودية من الربط بين الاتفاقية الدفاعية والتطبيع، وهي التي تقدّمت بمبادرتين الأولى في نوفمبر عام 1981 وأطلق عليها حينذاك “مبادرة فهد”، نسبة إلى ولي العهد حينذاك فهد بن عبد العزيز، الملك لاحقًا، والثانية في قمة بيروت في مارس 2002 وأطلق عليها “مبادرة عبد الله” نسبة إلى ولي العهد حينذاك الأمير عبد الله، الملك لاحقًا، وتحولت كلا المبادرتين إلى “مبادرة عربية” بعد تبني الجامعة العربية لهما بصورة رسمية.
في الخطوط العريضة، بدا التطبيع مقابل الاتفاقية الدفاعية/الأمنية، وكأننا أمام مقايضة كبرى: أعطنا الإتفاقية الدفاعية أعطك التطبيع. فالتطبيع هو الباب الذي سوف تدخل منه عربة الاتفاقية الأمنية الدفاعية بملحقاتها، وما لم يفتح الاسرائيلي هذا الباب فلا إمكانية للدخول، هذا ما تشي به أحاديث وزير الخارجية الأميركي أنطوني بلينكن وكذلك نظيره السعودي فيصل بن فرحان، في 7 مايو 2024. ما قيل عن محاولات سعودية لفصل مسار الاتفاقية الدفاعية عن التطبيع ليس دقيقًا، وإن الجانب السعودي يدرك تمامًا بأن إدارة بايدن لن تدخل في أي اتفاق دفاعي قبل دخول السعودية في اتفاق تطبيعي مع الكيان الاسرائيلي. وهذا ما عبّر عنه مستشار الأمن القومي الأمريكي جيك سوليفان بصراحة واضحة في 7 مايو بأن إدارة بايدن لن تدخل في اتفاقية دفاع مع المملكة السعودية إلا إذا طبّعت المملكة علاقاتها مع إسرائيل. وفي مقابلة مع صحيفة (فايننشال تايمز) نفى سوليفان الاقتراحات القائلة بأنه يتم النظر في اتفاق ثنائي بين إدارة بايدن والمملكة إذا رفضت إسرائيل تقديم تنازلات للفلسطينيين. ولكن ثمة عمل دؤوب على كيفية اخراج الاتفاق، حيث تضغط إدارة بايدن من أجل التوصل إلى اتفاق ثلاثي لتشجيع الرياض على إضفاء الطابع الرسمي على العلاقات الدبلوماسية مع إسرائيل كجزء من خطط لضمان سلام مستدام في الشرق الأوسط بعد طوفان الاقصى في 7 أكتوبر. وما يراد من هذا الاتفاق أن يمهد لأن تتولى المملكة قيادة دول عربية وإسلامية أخرى نحو تطبيع العلاقات مع إسرائيل ربطًا بالموافقة على تنازلات للفلسطينيين
.
مستشار الأمن القومي الأميركي جاك سوليفان، عرّاب التطبيع بين السعودية والكيان الاسرائيلي، كان فصيحًا في تعبيره عن طبيعة الترتيبات الجارية بين واشنطن والرياض بقوله: “الرؤية المتكاملة هي تفاهم ثنائي بين الولايات المتحدة والمملكة العربية السعودية مصحوبًا بالتطبيع بين إسرائيل والمملكة العربية السعودية، بالإضافة إلى خطوات ذات معنى نيابة عن الشعب الفلسطيني“. “كل ذلك يجب أن يأتي معًا”…لا يمكنك فصل قطعة واحدة عن الأخرى[1].
وفي كل الأحوال، فإن الاتفاقية الأمنية الدفاعية بين امريكا والسعودية متوقفة، وسوف تبقى كذلك، على الموافقة الاسرائيلية، وبحسب صحيفة “وول ستريت جورنال” فإن أمريكا لا تخطط لإكمال اتفاقية الأمن مع السعودية ما لم توافق “إسرائيل” على مكونات الصفقة الأكبر. ونقلت عن مسؤولين في الإدارة الأمريكية إن اتفاق التطبيع بين اسرائيل والسعودية بوساطة أميركية أصبح في متناول اليد، لكن حكومة نتنياهو قد ترفض الاتفاق التاريخي بدلا من قبول مطالب الرياض بالتزام جديد تجاه إقامة دولة فلسطينية، مع أن اتفاقية التطبيع قد تكون “بطاقة خروج مجانية له من السجن” في ظل مطالبة المحكمة الجنائية الدولية بمحاكمته للاشتباه في ارتكابه جرائم حرب، بحسب هآرتس[2].
يبدو أن العرض السعودي لرئيس الحكومة الاسرائيلية نتنياهو كان قائمًا منذ أكثر من عام. وكان الصحافي الاسرائيلبي يوسي فيرتر قد كتب في 11 أغسطس 2023 في صحيفة (هآرتس) مقالاً تحت عنوان (الاتفاق السعودي وحده هو الذي يمكن أن ينقذ نتنياهو من الكارثة – وبايدن يحمل المفتاح)، وكتب: “ومن دون التوصل إلى اتفاق تطبيع مع السعودية، سيظل وضع رئيس الوزراء الإسرائيلي في صناديق الاقتراع سيئا وسيضعف الاقتصاد أكثر. وعلى بايدن أن يقول له: إذا كنت تريد الاتفاق مع الرياض، أوقف الانقلاب
كان ذلك قبل طوفان الأقصى بشهرين، حيث كان نتنياهو متورطًا في قضايا داخلية تتعلق بالفساد وتعطيل دور السلطة القضائية تفاديًا لملاحقات سوف تودي به الى السجن. بعد ضلوعه في جرائم حرب إبادة ضد سكان قطاع غزّة، ومحاكمته أمام محكمة الجنايات الدولية، يعد التطبيع السعودي مع نتنياهو بمثابة مكافأة وحبل انقاذ حتى لا يقع في الهاوية وحيدًا.
رفض نتنياهو للعرض السعودي يواجه انتقادات حادة من حلفاء الكيان الاسرائيلي، وهذا ما عبّر عنه مارتن اندك، السفير الاميركي السابق في تل أبيب، في حسابه على منصة (X) في 23 مايو 2024 بقوله:
“لم أعتقد مطلقًا أنني سأعيش لأرى هذا اليوم الذي رفضت فيه حكومة إسرائيل عرضًا كاملاً للسلام من المملكة العربية السعودية، زعيمة العالمين العربي والإسلامي. استيقظي يا إسرائيل! حكومتك تقودك إلى مزيد من العزلة والخراب. فيما كتب روبرت ساتلوف، المدير التنفيذي لمعهد واشنطن في حسابه على منصة (X) في 22 مايو 2024: “إذا لم يجد قادة إسرائيل طريقة لانتزاع الخاتم النحاسي لما سيكون أعظم انتصار للحركة الصهيونية منذ عام 1948 – مصادقة من خادم الحرمين الشريفين، والسلام والتطبيع مع المملكة السعودية،
ومن خلاله إنهاء الصراع مع الغالبية العظمى من الدول العربية والإسلامية وتحديد الحجم الصحيح للقضية الفلسطينية في السياسة/الإستراتيجية الإقليمية الأوسع – ستكون هذه فرصة ضائعة ذات أبعاد تاريخية”.
ويشرح ساتلوف أهمية المبادرة السعودية في الوقت الراهن بلحاظ ما كانت عليه المبادرة قبل أكثر من عشرين عامًا وما أصبحت عليه الآن. حينذاك، كانت مبادرة السلام السعودية تطلب من اسرائيل الانسحاب من جميع الأراضي المحتلة كشرط مسبق للسلام. أما الآن، فالرياض تطالب بمسار ذي مصداقية نحو إقامة الدولة الفلسطينية. وبحسب تفسير ساتلوف “على حد علمي، فإن هذا الطلب لا يتضمن القبول بحدود معينة، ولا يتضمن تفاهمًا مسبقًا بشأن تعريف السلطات السيادية، ولا يتضمن موعدًا محددًا للتنفيذ..في النتائج، فإن المبادرة السعودية بالتطبيع مع الكيان الاسرائيلي تنطوي على تنازل تاريخي عن القضية الفلسطينية، ومع ذلك، فإن قادة اسرائيل يرفضون المبادرة.
شروط السعودية للدخول في صفقة التطبيع مع اسرائيل ليست تعجيزية، وهي وإن تذرّعت بالغطاء العربي، فهي سوف تقود محورًا عربيًا وإقليميًا نحو التطبيع مع الكيان الاسرائيلي من خارج الاطار الرسمي العربي، الذي سوف يأتي لاحقًا وليس ابتداءً، كما حصل مع مبادرة فهد في فاس 1981 ومبادرة عبد الله في بيروت 2002 حيث تسبب تباين المواقف العربية في تجميد المبادرتين، فضلًا عن الرفض الاسرائيلي لها محمولًا على المقول المشهور لرئيس الحكومة السابق أرييل شارون “لا تساوي الحبر الذي كتبت به”.
لناحية الموقف السعودي، بدا أن وزير الخارجية السعودي فيصل بن فرحان متناغمًا مع سوليفان في الربط بين الاتفاق الثنائي بين السعودية والولايات المتحدة والتطبيع مع الكيان الاسرائيلي، مشفوعًا بطريق نحو دولة فلسطينية، ولكن من دون توضيح معالم هذا الطريق، وماهية هذه الدولة وحدودها.
على الضد من صورتها في الإعلام السعودي، تبدو صورة الدولة الفلسطينية الافتراضية أشد وضوحًا في الإعلام الأميركي والاسرائيلي، حيث ينظر إلى مطلب السعودية للتطبيع على أنه “طريق إلى دولة فلسطينية” وليس “إقامة دولة فلسطينية مستقلة”.. أكثر من ذلك، كان وزير الخارجية الأمريكي “بلينكين” واضحًا بأن “إسرائيل” قد لا ترغب حتى في قبول مثل هذا المطلب أيضًا. وقال بلينكن أمام لجنة العلاقات الخارجية بمجلس الشيوخ في 21 مايو 2024: “لقد كان السعوديون واضحين في أن [التطبيع] سيتطلب الهدوء في غزة وسيتطلب مسارًا موثوقًا به لإقامة دولة فلسطينية”. ثم استدرك “من المحتمل أن إسرائيل في هذه اللحظة غير قادرة أو راغبة في المضي قدمًا في هذا المسار”
في المقابل، يشعر نتنياهو بحرية مطلقة في الوقت والموقف، ولا يجد نفسه في عجلة من أمره حيال التطبيع الذي يتكفل الجانب الأميركي بفرضه على السعودي ومن دون أثمان. بالنسبة إلى الإسرائيلي، إن التطبيع شرط أميركي على السعودية من أجل توقيع إتفاقية أمنية دفاعية مع الولايات المتحدة، وهذا يجعله في موقع مريح، ولذلك يصرّ على عدم تقديم ما يحسبها تنازلات للفلسطينيين، المعبّر عنها في حل الدولتين. في الشكل والعلن، لدى السعودية شروط تتعلق بعملية التطبيع أبرزها قيام دولة فلسطينية على حدود الرابع من يونيو 1967 وعاصمتها القدس الشرقية، وعودة اللاجئين الفلسطينيين إلى أراضيهم. ومع أن هذه الشروط تكفّلت ضمنيًا وابتداءً بتأمين الإعتراف الأولي بالكيان الاسرائيلي، فإن من غير الممكن حمل تلك الشروط على المعاني الشائعة أو بالأحرى القديمة حين أطلقت المبادرة العربية بمصدرها السعودي. فثمة نقاش حول حدود الدولة وسيادتها وعاصمتها وماهيتها
من جهة أخرى، يعد هذا التصوّر للدولة الفلسطينية الإفتراضية مرفوضًا من الوجهة السياسية الاسرائيلية، ومن الوجهة الايديولوجية الليكودية، القائمة على أساس دولة يهودية من النهر إلى البحر.
إن ربط الإدارة الأميركية الاتفاقية الأمنية مع السعودية بالتطبيع مع الكيان الاسرائيلي، يعني أمرًا واحدًا، أن ثمة تنازلًا سعوديًا تمّ تقديمه في مقابل قبول الكيان الاسرائيلي لمشروع التطبيع، وقبول أميركي بالتنازل السعودي. السعودية أعلنت في 19 مايو بأنها وافقت على مسودة “شبه نهائية” لاتفاقية أمنية مع أمريكا تتضمن تطبيع العلاقات مع الكيان الاسرائيلي، ربطًا بإتفاق على “مسار موثوق به” لحل الدولتين عوضًا عن المطالبة بإقامة دولة فلسطينية مستقلة، بحسب صحيفة واشنطن بوست
في التجاذب السياسي والحزبي داخل الكيان الاسرائيلي، ثمة تفسير للتطبيع مع السعودية. زعيم المعارضة الاسرائيلي يائير لابيد عدّه بمنزلة بطاقة إنقاذ لرئيس الحكومة نتنياهو أمام محكمة العدل الدولية، إذ إنه لن يحاكم وسط “عملية سلام تاريخية”. ومن ثمار التطبيع أيضًا، بحسب لابيد، ممارسة السعوديين الضغط للإفراج عن الرهائن
الاتفاقية الدفاعية بين واشنطن والرياض
لا تفاصيل ملفتة في الشق الأمني والدفاعي في الاتفاقية الثنائية بين السعودية والولايات المتحدة، وإن كان مفتاحها السحري بات معروفًا وهو حماية النظام من أي تهديدات داخلية وخارجية. ولكن تركزّ الحديث في الصحافة الأميركية على اتفاقية التعاون النووي المدني. وبناء على المادة 123 من قانون الطاقة الذرية الأمريكي لعام 1954، يجوز للولايات المتحدة التفاوض على اتفاقيات للمشاركة في تعاون نووي مدني مع دول أخرى. وتحدد المادة 123 تسعة معايير لمنع الانتشار يجب أن تتضمنها الاتفاقيات من بينها اتفاقية لإلزام شركاء الولايات المتحدة قانونًا بمراعاة معايير محدّدة في العديد من المجالات بما في ذلك الاستخدامات السلمية؛ ضمانات الوكالة الدولية للطاقة الذرية (التدابير الفنية التي تسعى الوكالة من خلالها إلى التحقق من عدم تحويل المواد النووية عن الاستخدامات السلمية)؛ والأمن المادي للمواد النووية؛ وحظر إثراء وإعادة معالجة ونقل مواد ومعدات محددة دون موافقة الولايات المتحدة. وحتى الخامس من ديسمبر سنة 2022 وقّعت الولايات المتحدة 23 اتفاقية مع 48 دولة في أرجاء متفرقة من العالم
. وينص القانون على مراجعة الكونجرس لمثل هذه الاتفاقيات. ومع أن الولايات المتحدة هي أكبر دولة نووية في العالم بترسانة تصل، بحسب احصائيات نشرت في 10 أكتوبر 2023 ما مقداره 5244 قنبلة نووية
سعت السعودية على مدى عقود من أجل مشروع نووي مع الولايات المتحدة، ولكن ثمة مخاوف لدى الجانبين الأميركي والاسرائيلي تحول دون الموافقة على المشروع. ومما ينقل أن الملك فيصل طلب من وزير النفط الأسبق أحمد زكي يماني وضع خطة لبناء مفاعل نووي سلمي لانتاج الطاقة الكهربائية، وكان يريده في الرياض إلا أن المشروع ألغي بسبب غياب مقومات طبيعية للمشروع.
رسائل عديدة بعثت بها الرياض إلى واشنطن عبر التلويح بالاتفاق مع روسيا مرة والصين أخرى في مجال التعاون النووي، ولكن كانت واشنطن صارمة في منع حليفها السعودي من مجرد التفكير في اللجوء إلى خيارات أخرى لا تحظى بالموافقة الأميركية، بل وسوف تمنع أي مشروع لا تكون الولايات المتحدة مشرفة عليه. وقد جرت محاولة سابقة في إدارة جورج بوش الإبن سنة 2004 بتوقيع أربع اتفاقيات استراتيجية من بينها اتفاقية التعاون النووي، ولكن واجهت الأخيرة رفضًا من داخل الكونغرس بضغط من اللوبي الاسرائيلي في الولايات المتحدة. ومع التقارب السعودي الاسرائيلي في السنوات الأخيرة دخل الملف النووي ضمن “الصفقة الكبرى” يبن السعودية والكيان الاسرائيلي، وبات جزءًا من أجزاء الصفقة، والتي أمكن إدماجها في مشروع التطبيع. هناك سبب رئيسي وراء إصرار محمد بن سلمان على المشروع النووي ويتمثل في أن رؤية السعودية 2030، تتضمن هدفًا طموحًا بتوليد طاقة متجددة وخفض الانبعاثات، وأن الطاقة النووية سوف تغطي حاجة كبيرة في هذا المجال الحيوي والمستقبلي
ولكن هناك من وضع سببًا آخر وهو رغبة الرياض في تطوير أسلحة نووية في المستقبل، على الرغم من الضمانات المنصوص عليها في أي اتفاق مع واشنطن تحول دون انزلاق التعاون النووي المدني إلى أغراض عسكرية.
وفي حقيقة الأمر، أن هذا السبب عائد إلى حماقة ولي العهد السعودي الذي لوّح في لحظة توتر في العلاقة مع ايران فأطلق تصريحًا مفزعًا عبر برنامج 60 دقيقة لقناة سي بي إس الأميركية في 19مارس 2018: “السعودية لا تريد امتلاك أي قنبلة نووية، لكن من دون شك، إذا طورت إيران قنبلة نووية، فسنحذو حذوها في أقرب وقت ممكن” لم يدرك حينذاك أن مثل هذا التصريح سوف يكون مدوّيًا في واشنطن وتل أبيب أكثر منه في طهران. وفيما تجاهلت ايران تهديد إبن سلمان، فإن تصريحه خضع للفحص في الدوائر العليا داخل الولايات المتحدة، التي تعاملت مع تصريح ولي العهد على أنه تهديد خطير ونوايا مبيّتة للجنوح نحو امتلاك السلاح النووي.
وزير الخارجية السعودي فيصل بن فرحان أعاد التلويح بامتلاك السلاح النووي في مؤتمر السياسات العالمية في أبو ظبي في 11 ديسمبر سنة 2022 وقال: “إذا حصلت إيران على سلاح نووي فلا يمكن توقع ما قد يحدث، نحن في منطقة خطرة للغاية..” وأضاف: “دول المنطقة لن ترغب في أن تكون معرضة لمثل هذا التهديد دون رد فعل، لذلك يمكن توقع أن دول المنطقة ستسعى إلى كيفية ضمان أمنها.. وإذا حصلت إيران على قنبلة نووية، فكل شيء سيكون ممكناً”
على أية حال، فإن إدارة بايدن الغارقة في أزمات المنطقة بملء إرادتها، وخصوصًا بعد أن داهمها طوفان الأقصى في 7 أكتوبر 2023، وأفضى إلى تجميد مسار التطبيع، تتطلع لأن تستعيد المبادرة في التوسط بين تل أبيب والرياض ورسم مسار جديد لترتيب طويل الأمد في المنطقة يحقق رغبات الحليفين الاستراتجيين في المنطقة السعودي والاسرائيلي.
فثمة حاجة سعودية إلى النووي المدني وحاجة اسرائيلية إلى انقاذ الكيان باستدماجه في نظام اقليمي تكون السعودية على رأسه، على أن تضبط الولايات المتحدة إيقاع الحليفين لبناء تحالف أوسع ضد ايران ومحور المقاومة والصين ومشروعها الاقتصادي الكوني.
اقتصاديًا، ستنال الشركات التكنولوجية الأميركية حصة الأسد في بناء محطات الطاقة النووية السعودية في مقابل المنافسين الرئيسين الروسي والصيني. المشكلة التقنيّة بخلفية سياسية واستراتيجية في الصفقة النووية تتركّز حول مكان التخصيب، إذ كانت الإدارات الأميركية المتعاقبة تخوض سجالات مع الدول الحليفة التي أبرمتها اتفاقيات 123 معها حول مكان التخصيب، وهل يكون خارج الولايات المتحدة، وعلى أراضي الدول الحليفة، أم تحتكر هي عملية تخصيب اليورانيوم على الأقل لمرحلة زمنية قبل السماح للدول الحليفة بإقامة منشأة لتخصيب اليورانيوم على أراضيها، وحتى في حال السماح للدول الحليفة بإقامة منشأة تخصيب اليورانيوم على أراضيها هي ستسمح لها بإدارة المنشأة بكل تفاصيلها، أو سوف تدار من قبل موظفين أميركيين.
من غير المؤكّد قبول واشنطن السماح للسعودية بتخصيب اليورانيوم على أراضيها، وبات الخيار الراجح أن المشروع النووي سوف يدار من موظفين أميركيين. من جهة ثانية، لا يبدو ان سيناريو التأميم على غرار أرامكو سوف يكون واردًا، لأن الحديث هنا عن مادة كاسرة للتوازن وتهدد في حال سوء استغلالها بوقوع كارثة بشرية. وعليه، فإن فكرة التأميم لن تكون واردة وسوف يبقى المشروع النووي السعودي أميركي الإدارة والاشراف. فثمة مخاوف قديمة متجدّدة تصاعدت بعد سلسلة اخفاقات وقع فيها محمد بن سلمان وأشدها خطورة إقدامه على قتل الصحافي الحجازي جمال خاشقجي بطريقة سادية ووحشية تثير هواجس حول ما يضمره ولي العهد وما قد يقدم عليه في مرحلة ما في حال حصوله على كل المواد الضرورية لتنقية اليورانيوم وانتاج مواد انشطارية لصنع قنابل نووية
في كل الأحوال، أطلق وزير الخارجية الاميركي أنتوني بلينكن بشارة في 22 مايو 2024 بأن الاتفاقيات مع السعودية قد تتم “بعد أسابيع” وأن الولايات المتحدة والسعودية اقتربتا جداً من إبرام مجموعة اتفاقيات في مجالات الطاقة النووية والتعاون الأمني والدفاعي، ضمن اتفاق أوسع للتطبيع بين السعودية وإسرائيل. في الوقت نفسه، حذر بلينكن من أنه لا يمكن الشروع في عملية التطبيع على نطاق أوسع، ما لم يتحقّق هدوء في غزة وما لم يُعبَّد طريق لإقامة دولة فلسطينية.
ولكن في المشهد العام، ثمة ضباب كثيف يحيط بتفاصيل الإتفاقية الأمنية الدفاعية بين السعودية والولايات المتحدة، وثمة ملاحظات جوهرية تتعلق بأصل الاتفاقية وأبرزها:
ـ إن إبرام الاتفاقية يجري من خارج السياقات التقليدية للاتفاقيات الدفاعية والامنية، أي أنها تكتسب وضعًا استثنائيًا على مستوى طبيعة الاتفاق وبنوده وصلاحياته، وموضوعاتها. فهي ليست دفاعية بالمعنى الحرفي للكلمة، بل هناك أبعاد اقتصادية وتكنولوجية..
ـ لأول مرة يكون الاتفاق بين طرفين مشروطًا باتفاق مع طرف ثالث. وجرت العادة أن يكون شروط الاتفاق الثنائي ذات صلة بأوضاع خاصة لدى الطرفين، كما هي الاتفاقيات الدفاعية بين الولايات المتحدة والدول الحليفة لها، ولكن بخصوص الاتفاقية الدفاعية مع السعودية، فإن الشرط الرئيس هو خارجي، أي اسرائيلي، بل هو شرط يتوقف عليه إمضاء الاتفاق نفيًا أو إثباتًا.لناحية الاتفاقية،
وعلى الرغم من التغطيات الصحافية الواسعة والتصريحات المكثفة من مسؤولين كبار في الجانبين الاميركي والسعودي، فإن تفاصيلها بقيت مكتومة، باستثناء العناوين الكبرى المتعلقة بالاتفاق النووي والزيادة النوعية في التسليح. وقد نشرت صحيفة (فايننشال تايمز) في 22 مايو 2024 تقريرًا بعنوان (الولايات المتحدة والمملكة السعودية قريبتان من الاتفاق النووي الدفاعي والمدني)، ونقلت عن مسؤول أميركي كبير (لم تكشف عن هويته) قوله إن الولايات المتحدة حققّت تقدّمًا كبيرًا في المحادثات مع المملكة بشأن المساعدة الأمريكية في مجال الدفاع والبرنامج النووي المدني، وأن الدولتين لديها “مجموعة شبه نهائية” من الاتفاقيات الثنائية. ولكن لم يكشف عن تفاصيل تلك المجموعة من الاتفاقيات، ولكنها لفت إلى أن المناقشات حول تلك الاتفاقيات هي جزء من الجهود الأمريكية لتأمين صفقة كبيرة تشمل تطبيع السعودية وإسرائيل لعلاقاتهما الدبلوماسية – ولكنها تعتمد على استعداد إسرائيل لمنح تنازلات للفلسطينيين. وكشف عن “أن الصفقة السعودية موجودة إلى حد كبير”، و”لكن هناك عناصر منها، بما في ذلك مسار موثوق للفلسطينيين وأيضًا بعض العناصر الأخرى، التي لا يزال يتعين استكمالها”. وربط اتمام الصفقة بنهاية الحرب على غزة. وهذه التصريحات جاءت بعد أيام من محادثات مستشار الأمن القومي جاك سوليفان مع ولي العهد السعودي محمد بن سلمان في الرياض ورئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو في القدس
يبدو أن السعودية التي راهنت في الشهور التسعة من عام 2023 على نجاح صفقة الاتفاقية الدفاعية مع الولايات المتحدة ربطًا بمشروع التطبيع مع الكيان الاسرائيلي، وكانت على استعداد للقبول بالحد الأدنى من التنازلات الاسرائيلية (الشكلية) فيما يخص الدولة الفلسطينية، وجدت صعوبة بالغة بعد السابع من أكتوبر في المغامرة بمقايضة الاتفاقية الدفاعية بالتطبيع المتضمن تنازلًا كاملًا عن مبادرة السلام العربية/السعودية. فكان على الرياض كبح جماح اندفاعتها السابقة بعد أن تبدّل المناخ الاقليمي وحتى المحلي لمصلحة القضية الفلسطينية والمناهض لسياسة اسرائيل العدوانية على قطاع غزة.
فالسعودية استبدلت بشرط الدولة الفلسطينية ابتداءً بالأفق السياسي الذي يؤدي إلى إقامة دولة فلسطينية، بحسب تصريح لمسؤول سعودي كبير في العائلة المالكة لموقع i24 News الإسرائيلي. المسؤول السعودي قال حرفيًا: “إن السعودية لن تمضي قدمًا في أي عملية تطبيع حقيقية مع إسرائيل دون أفق سياسي يؤدي إلى إقامة دولة فلسطينية”وهذا ما عبّر عنه ولي العهد محمد بن سلمان بكلمات متطابقة بعد بحثه مع سوليفان سبل إيجاد “مسار موثوق به” نحو حل الدولتين
البيان السعودي حول مباحثات جاك سوليفان ـ محمد بن سلمان تحدث عن “مناقشة النسخة شبه النهائية من مسودة الاتفاقيات الاستراتيجية بين البلدين”، والتي بلغت مراحلها الأخيرة.
وبحسب تقرير عن المباحثات السعودية الاميركية أن إدارة بايدن تعرض على السعوديين صفقة استراتيجية بشأن الاتفاق النووي لمساعدة البرنامج النووي المدني السعودي. وخلال اللقاء الذي جمع الثنائي في مدينة الظهران السعودية، ناقش ولي العهد وسوليفان الصيغة “شبه النهائية” للاتفاقيات الاستراتيجية بين بلديهما، بحسب وسائل إعلام سعودية محلية. في المقابل، الاسرائيلي لديه موقف حاسم حيال الدولة الفلسطينية، وكان وزير الدفاع الإسرائيلي يوآف غالانت قد أكد في 20 مايو 2024، أنّه “لن تقام دولة فلسطينية لا في فترة حكومتنا هذه ولا في أي حكومة قادمة أخرى”. وأضاف غالانت خلال اجتماع لحزب الليكود، أن “أي دولة عربية قادمة ستقوم بالتطبيع مع إسرائيل، وتدّعي أن إسرائيل وعدتها بإقامة دولة فلسطينية، فاعلموا أنها تكذب على شعبها لتبرير التطبيع”. من جهته كرّر نتنياهو رفضه القاطع إقامة دولة فلسطينية، وقال إنه “لن يقبل بدولة فلسطينية، حتى تلك التي تأتي مع اتفاق التطبيع السعودي”.
.ولذلك وصفت نيويورك تايمز نتنياهو بأنه العائق الوحيد أمام التطبيع السعودي الإسرائيلي
الباحث في مجلة أولويات الدفاع وكاتب عمود في مجلة The Spectator دانييل ديبيتريس،طالب في 21 سبتمبر 2023، إدارة بايدن بالتريث وعدم الاندفاع نحو تحقيق طلبات السعودية مقابل موافقة الرياض على التطبيع مع تل أبيب، رغم أن الأمر لو حدث فسيكون زلزالًا دبلوماسيًا هائلًا بالمنطقة.
وفي تقرير نشرته مجلة “تايم” الأمريكية تحدث ديبيتريس عن الإتفاقية الدفاعية التي تريد السعودية الحصول عليها من الولايات المتحدة، ويقال إنها ستلزم واشنطن على الدفاع عن المملكة في حالة وقوع هجوم خارجي، مثل ذلك الذي حدث في سبتمبر/أيلول 2019، عندما ضرب وابل من صواريخ كروز والطائرات المسيرة منشأتين نفطيتين سعوديتين كبيرتين، وأعلن الحوثيون، آنذاك، عن المسؤولية عن الهجوم، لكن المسؤولون الأمريكيون والسعوديون أشاروا بأصابع الإتهام إلى إيران بوضوح. يقصد بذلك تعرّض مصفاة بقيق في المنطقة الشرقية لهجوم صاروخي أدى إلى إلحاق أضرار فادحة بالمنشأة.
لفت ديبيتريس الى أن محمد بن سلمان ليس لديه أي نية للتوقيع على الصفقة مجانًا، نظرًا لرد الفعل المحتمل (الداخلي والخارجي). ولهذا السبب، يستخدم محمد بن سلمان احتمال التوصل إلى اتفاق تطبيع من أجل انتزاع سلسلة من التنازلات الأمريكية للرياض. وعلى رأس القائمة الحصول على اتفاقية دفاعية واضحة ورسمية. ويطالب الكاتب الإدارة الأمريكية بأن تتمتع بالحس السليم وأن تخرج من غرفة هذا الاتفاق الآن، قبل فوات الأوان، وينبغي تجنب تقديم الضمانات الأمنية الأمريكية للسعودية بأي ثمن لأن سلبياتها كثيرة جدًا، كما يقول. ويعدد الكاتب ثلاثة مخاطر جليّة من انخراط امريكا في اتفاقية دفاعية مع السعودية، وهي:
أولا: أن الاتفاقية الأمريكية السعودية الدفاعية لن تجني منها واشنطن أي دور متبادل من الرياض، مضيفًا أن السعودية لم تظهر نفسها كشريك قوي خلال طلبات المساعدة الأمريكية السابقة.
وعلى سبيل المثال، عندما كان تنظيم “داعش” في ذروته في عامي 2014 و2015، حيث كان يسيطر على مساحات شاسعة من الأراضي في سوريا والعراق، كان السعوديون متفرجين نسبيًا في التحالف ضد التنظيم. وفي حين ساهمت الإمارات والأردن بطائرات مقاتلة في المهمة ونفذتا غارات جوية ضد التنظيم، تركزت المساهمة السعودية إلى حد كبير على السماح للولايات المتحدة باستخدام أراضيها لتدريب المقاتلين المناهضين لتنظيم “الدولة”.
ثانيًا: إن منح السعودية ضمانًا أمنيًا من شأنه تحويل الجنود والبحارة والطيارين المقاتلين ومشاة البحرية الأمريكيين إلى حراس أمن للعائلة المالكة التي تدير المملكة السعودية.
وفي حين أن الاتفاق من شأنه أن يسدي خدمة مؤكّدة لحكام آل سعود، الذين أثبتوا أنهم مقاتلون غير أكفاء في اليمن على الرغم من عشرات المليارات من الدولارات من مبيعات الدفاع الأمريكية، فإنه لن يكون في مصلحة الولايات المتحدة، التي هي بصدد تقليص وجودها العسكري في المنطقة من أجل تحسين موارد تحوّلها نحو آسيا، لمواجهة الخطر الصيني.
ثالثًا: ارتكب ولي العهد السعودي أخطاء خطيرة ومتهورة خلال السنوات الأخيرة، الذي يكشف عن أنه شريك غير موثوق وبإدارة سيئة.
ومع ان محمد بن سلمان قام باستدارة نحو الواقعية السياسية، وسعى إلى تصفير مشاكله في المنطقة ولا سيما مع قطر وإيران وتجميد حربه مع اليمن، إلا أن لا أحد يستطيع أن يقول بثقة أنّ هذا التحول دائم، وهناك خطر من أن الضمانات الأمنية الأمريكية قد تدفع محمد بن سلمان إلى العودة إلى أساليبه السابقة
الكلام عن التوقيع على الاتفاقية الامنية الدفاعية بين الرياض وواشنطن يتكرر باستمرار، ولكن يبدو أن الاحجية لا تزال غير قابلة للحل، وإن ثيمة الاتفاقية هي التطبيع. إدارة بايدن تردّد منذ مطلع مايو بانها تضع اللمسات النهائية على اتفاقية بشأن الضمانات الأمنية الأميركية والمساعدة النووية المدنية، وأن اتفاق التطبيع الاسرائيلي السعودي ليس مفصولًا عن الإتفاقية الدفاعية والأمنية بل جزء من “الصفقة الكبرى” في الشرق الأوسط، بحسب وصف المسؤولين الأميركيين. قد يكون تباين الرأي محصورًا في الأولويات أو أيها مقدّم على الآخر، هل الاتفاق الأمني الدفاعي أولًا ثم التطبيع ثانيًا أو بالعكس أو يكون التزامن هو الأساس. ولكن ما هو ثابت حتى الآن، أننا أمام حزمة متكاملة على قاعدة: “إما أن تؤخذ كلها أو تترك كلها”، وإن أي كلام عن فصل مسارات أو مراحل هو ليس سوى فصل فني. إن تصريح المتحدث باسم وزارة الخارجية الأمريكية ماثيو ميلر: “نحن قريبون جدًا من التوصل إلى اتفاق” بشأن الجزء الأمريكي السعودي من الحزمة، متوقعًا تسوية التفاصيل “في وقت قصير جدًا”، لا يمكن حمله على أساس أن هذا الجزء يمكن أن يستقل عن بقية الأجزاء، وعلى رأسها التطبيع مع الكيان الاسرائيلي. وفي الواقع، ليس المقصود بالتطبيع المعنى التقني والدبلوماسي، وإنما ادماج الكيان الإسرائيلي في الترتيبات الأمنية والدفاعية التي تشرف عليها الولايات المتحدة وتستدمج فيها السعودية ودول المنطقة عامة، أي أن يكون الكيان الاسرائيلي عضوًا في نظام إقليمي تديره الولايات المتحدة.
ما تتطلع اليه السعودية من الاتفاقية الأمنية الدفاعية هي ضمانات أميركية رسمية بالدفاع عن النظام السعودي، وحصوله على أسلحة أميركية متطوّرة، مقابل وقف مشتريات الأسلحة الصينية وتقييد استثمارات بكين في السعودية. وأن يتضمن الاتفاق تبادل التقنيات الناشئة، بما في ذلك الذكاء الاصطناعي.
بطبيعة الحال، فإن اتفاقًا استثنائيًا من هذا النوع قد لا يكون سهلًا، فليس من الممكن أن يصل الى مستوى اتفاقية كاملة على غرار الناتو، وإن تضمينها في معاهدة مستقلة يتطلب مصادقة الكونغرس، خصوصًا في الشق النووي منها. ولا ننسى أن كثيرًا من المشرّعين ليسوا على ود مع السعودية، خصوصًا في السنوات الأخيرة على خلفية ضلوع محمد بن سلمان وفريقه الأمني في اغتيال الصحافي الحجازي جمال خاشقجي وملاحقة الناشطين والمدافعين عن حقوق الإنسان. وتعكس رسالة السيناتور إدوارد جيه ماركي (ديمقراطي من ماساشوستس) الى الرئيس بايدن في الأول من مايو 2024 جزءًا من المناخ السائد داخل الكونغرس إزاء السعودية. حيث طالب السيناتور ماركي إدارة بايدن التأكد من أن أي اتفاق للتعاون النووي المدني (أو ما يسمى بـ “123”) مع المملكة السعودية كجزء من “صفقة ضخمة” للتطبيع السعودي الإسرائيلي يتضمن التزامًا بالتخلي عن التخصيب، وإعادة معالجة المواد النووية، المعروف أيضًا باسم المعيار الذهبي.
وحث السيناتور ماركي أيضًا ادارة بايدن قبل أن تدخل في أي اتفاقية رقم 123 مع المملكة السعودية، يجب عليها تنفيذ البروتوكول الإضافي للوكالة الدولية للطاقة الذرية، والذي سيطبق الضمانات النووية التي تشمل المراقبة والتفتيش وغيرها من الأنشطة للتحقق من الأسلحة النووية. وذكّر السيناتور ماركي بتصريح لولي العهد محمد بن سلمان علناً بأن المملكة العربية السعودية ستسعى إلى الحصول على أسلحة نووية إذا قامت إيران “بتطوير” قنبلة نووية. وشدّد السيناتور على أنه لا ينبغي للطريق نحو السلام في الشرق الأوسط أن يتضمن احتمال حصول المملكة العربية السعودية على أسلحة نووية، الأمر الذي من شأنه أن يقوض مصالح الولايات المتحدة وحلفائها وشركائها في جميع أنحاء المنطقة.
وعلى الرغم من تأييد السيناتور ماركي للتطبيع بين اسرائيل والدول العربية، بما في ذلك حل الدولتين، فإن لديه مخاوف عميقة بشأن الجوانب العسكرية والنووية المعلنة للصفقة الأمريكية السعودية. بل ذهب في مخاوفه الى عدم الوثوق في المملكة السعودية “وهي دولة ذات سجل رهيب في مجال حقوق الإنسان”. وكرر مخاوفه من انزلاق المشروع النووي السعودي إلى مستويات غير مدنية خصوصًا في حال توفر للمملكة السعودية القدرة على تخصيب اليورانيوم محليًا والذي قد يؤدي إلى إضعاف النظام العالمي الحالي للحد من الأسلحة، وتفاقم التوترات في جميع أنحاء الشرق الأوسط، وتقليل نفوذ الولايات المتحدة على المملكة لجهة تحسين سجلها في مجال حقوق الإنسان”.
وأثار المشرّعون في رسالة الى إدارة بايدين أسئلة تشمل: وضع المفاوضات نحو التطبيع الدبلوماسي بين السعودية وإسرائيل؟ ورد فعل الإدارة على تصريحات المسؤولين السعوديين العلنية حول رغبة حكومتهم في الحصول على سلاح نووي، وهل تسعى الإدارة إلى إبرام اتفاقية 123 مع ضمانات “المعيار الذهبي”؟ وما هي الضمانات أو الالتزامات الدفاعية الأمريكية التي يتم تقديمها مقابل تطبيع العلاقات الدبلوماسية مع إسرائيل؟
وهل تحسين سجل المملكة السعودية في مجال حقوق الإنسان هو أحد عناصر المفاوضات؟ هل سيتضمن أي اتفاق أحكامًا تتناول ممارسات حقوق الإنسان والحريات المدنية في المملكة السعودية وتسعى إلى تحسينها؟ وهل سيتضمن أي تدابير حمائية تحول دون توفير ضمانات الدفاع الأمريكية والتكنولوجيا تسهم بأي شكل من الأشكال في انتهاكات حقوق الإنسان في المملكة السعودية؟
ومن سوء حظ السعودية، أن الكونغرس يميل إلى دعم الموقف الاسرائيلي، وأن لا اتفاقية يمكن المصادقة عليها في حال وجد أعضاء المجلس ما يتعارض مع مصالح الكيان الاسرائيلي. في المقابل، يتطلع بايدن إلى أن يكون راعيًا لاتفاقية التطبيع بين السعودية والكيان الاسرائيلي لأغراض انتخايبة بدرجة أساسية، ولذلك تمثل الاتفاقية أولوية قصوى لبايدن، وهذا ما يدركه نتنياهو جيدًا، ولذلك اختار الحديث مع مجلس النواب مباشرة من أجل تحسين وضعه التفاوضي.
في النتائج، إننا أمام تحوّل فارق قد تشهده المنطقة في حال إتمام “الصفقة الكبرى”، باعلان التطبيع بين السعودية والكيان الاسرائيلي مقابل حصول الرياض على اتفاقية دفاعية بثلاثة أضلاع: أمني/حمائي، نووي، تسلحي. وفيما يبدي الطرفان الاميركي والسعودي جهوزية عالية بل وحماسة استثنائية، فإن الطرف الاسرائيلي، نتنياهو وحكومته اليمينية المتطرفة متمسّك برفض حل الدولتين، شكلًا ومضمونًا، وبأي صيغة كانت حتى وإن كانت الدولة الفلسطينية وهمية. فالاسرائيلي يريد تطبيعًا من دون ثمن، أي من دون تنازل، وكان للسعودية قبول ذلك لولا أن طوفان الأقصى فرضة معادلة تمنع أي مغامرة في تجاوز الواقع الذي فرضه الطوفان، كيف وأن اعداد الدول المؤيدة لدولة فلسطينية تتزايد يومًا بعد آخر…