متابعات

لا يبدو أن حلم نيوم الذي عاشه محمد بن سلمان سوف يطول قبل أن ينقلب الى كابوس خطير. فكل تقديرات الكلفة التي وضعها فرق العمل وحتى الشركات الاستشارية الاجنبية، والأميركية بدرجة أساسية، كانت إما خاطئة أو أن “مستجد” الفساد الذي دخل على المشروع في السنوات الماضية قد ضاعف الكلفة. فبينما كان الحديث عن تريليون ونصف تريليون دولار، فإن تقديرًا جديدًا أميط اللثام عنه مؤخرًا بلغ نحو 8.8 تريليون دولار أي ما يعادل أكثر من 25 ضعف الميزانية السعودية السنوية.
وتفيد التوقعات أن المرحلة الأولى (2035) سوف تتطلب وحدها 370 مليار دولار. وحتى هذا العام، 2025، أنفقت السعودية 140 مليارريال (أي ما يعادل 37.3 مليار دولار)، ولكن التقدّم لايزال بطيئَا.
وفي مقالة لصحيفة (وول ستريت جورناك) نشر في 11 مارس 2025 بعنوان: “نيوم السعودية في مواجهة دبي: كيف تتلاشى مدينة الأمير محمد بن سلمان المستقبلية، البالغة قيمتها 8.8 تريليون دولار، في الرمال” جاء فيه:
صُممت نيوم لتكون تحفة من تحف الحضارة الحديثة، مدينة مستدامة فائقة التقنية، تنبثق من قلب الصحراء. مع خطط لبناء ناطحة سحاب بطول 106 أميال، ومنتجع تزلج اصطناعي، ومنطقة أعمال عائمة، تصور ولي العهد محمد بن سلمان نيوم كقفزة ثورية نحو المستقبل. إلا أن الواقع لم يكن مُرضيًا. فقد ارتفعت التكاليف بشكل كبير، وتمّ تأجيل المواعيد النهائية، وكشفت مراجعة داخلية عن سوء إدارة مالية خطير.
وفقًا لتقرير نشرته صحيفة (وول ستريت جورنال)، تضخمت التكلفة التقديرية لمشروع نيوم إلى 8.8 تريليون دولار، أي أكثر من 25 ضعف الميزانية السنوية للمملكة السعودية. ومن المتوقع أن تتطلب المرحلة الأولى وحدها لمقرر تنفيذها في عام 2035، ما مقداره 370 مليار دولار. وقد ضخت المملكة حتى الآن 50 مليار دولار، لكن التقدم كان بطيئًا.
وكشف المدققون عن “أدلة على تلاعب متعمّد” بالأرقام المالية من قبل الإدارة العليا، مما أثار مخاوف بشأن المساءلة. في إحدى الحالات، تم تضخيم أسعار الفنادق المتوقعة بشكل مصطنع لتبرير الأهداف المالية – قفزت أسعار النزل المرتفعة من 489 دولارًا إلى 1866 دولارًا لليلة الواحدة، بينما ارتفعت أسعار مواقع التخييم الفاخر من 216 دولارًا إلى 794 دولارًا.
وكان من المخطط في الأصل أن تكون مدينة (ذا لاين) – وهي محور مشروع نيوم – بطول 106 أميال تضم ناطحات سحاب بارتفاع 1600 قدم. الآن، تمّ تقليص مرحلة البناء الأولية بشكل كبير إلى 1.5 ميل فقط، ومن المتوقع اكتمالها بحلول عام 2034. حتى أن محمد بن سلمان رفض التوصيات بخفض ارتفاع ناطحات السحاب إلى 1000 قدم لخفض التكاليف.
يقول دينيس هيكي، رئيس قسم التطوير في شركة ذا لاين، في المنتدى الاقتصادي العالمي: “سنبدأ في البناء العمودي – نأمل ذلك – بنهاية هذا العام”.
ولناحية مشروع سندالة، فوصفت الصحيفة الحفل الافتتاحي “حفل بتكلفة 45 مليون دولار، لكن بدون ضيوف”. وقالت: استضاف حفل إطلاق نيوم في سندالة، وهو منتجع ساحلي فاخر، في أكتوبر 2024 مشاهير مثل ويل سميث وتوم برادي، مع غناء أليشيا كيز أمام نخبة رجال الأعمال العالميين. بلغت تكلفة الحدث وحده 45 مليون دولار. ومع ذلك، لا يزال سندالة غير مكتمل إلى حد كبير – ففنادقه وملعب الجولف لم يُفتتحا بعد، مما يترك موظفي المطاعم بلا عمل.
وعن دور شركة الاستشارات الاميركية ماكينزي، فتقول الصحيفة: في حين تواجه نيوم حالة من عدم اليقين، برزت شركة ماكينزي وشركاه الاستشارية العملاقة كمستفيد رئيسي، حسبما ورد. تُحقق نيوم أرباحًا تتجاوز 130 مليون دولار سنويًا من مشاركتها. ورغم اتهامات تضارب المصالح، تنفي ماكينزي أي دور لها في التلاعب المالي، مُؤكدةً أنها تتبع “بروتوكولات صارمة لمنع تضارب المصالح”.
وقد أجرت إدارة نيوم تغييرات مفاجئة في الهيئة القيادية للمشروع. في نوفمبر 2024، استقال الرئيس التنفيذي لنيوم، نظمي النصر، بعد أسابيع قليلة من ظهور مزاعم بوفاة عشرات الآلاف من العمال المهاجرين أثناء البناء. وقد سلّط رحيله الضوء على تنامي عدم الاستقرار داخل المشروع. ومنذ ذلك الحين، تم تعيين فريق قيادة جديد لاستعادة مصداقية نيوم وتوجهها.
ولا تزال نيوم ركيزةً أساسيةً في استراتيجية رؤية المملكة السعودية 2030. وبينما شهدت جوانب أخرى، مثل زيادة مشاركة المرأة في القوى العاملة ونمو القطاع الخاص، تقدمًا ملحوظًا، لا يزال مستقبل نيوم غامضًا. وقد غيّرت المملكة رسالتها بشكل طفيف، حيث وصفت نيوم الآن بأنها “استثمارٌ للأجيال” بدلًا من أن تكون محركًا اقتصاديًا قصير الأجل.
مع ذلك، ومع استمرار تحديات البنية التحتية، وارتفاع التكاليف، وتراجع ثقة المستثمرين، تقف نيوم عند مفترق طرق. فهل تستطيع رؤية محمد بن سلمان الكبرى التغلب على مشاكلها المتزايدة، أم أن مدينة المملكة السعودية المستقبلية ستتحول إلى سراب باهظ الثمن؟
ومن المعلوم أن مشروع نيوم يمثل حجر الزاوية في رؤية 2030، ولكنه اليوم يواجه تحديات كبيرة مرتبطة بالتمويل والجدوى الاقتصادية، خاصة في ظل تراجع الاهتمام العالمي بالمشاريع “الضخمة” ذات المخاطر العالية، وارتفاع تكاليف الاقتراض عالميًّا، إضافة إلى الشكوك حول الجدوى الفنية لبعض مكوناته (مثل مدينة ذا لاين). ومع ذلك، تبقى آفاق المشروع مرتبطة بقدرة السعودية على التكيُّف مع التحديات عبر آليات تمويل بديلة، وإعادة هيكلة الأولويات، واستغلال المزايا الجيوسياسية.
على مستوى التحدي التمويلي، فإن الكلفة التقديرية للمرحلة الأولى كانت نحو 500 مليار دولار وهو رقم يفوق إجمالي احتياطيات السعودية من النقد الأجنبي (حوالي 400 مليار دولار نهاية 2023).
في حقيقة الأمر، يُعد مشروع نيوم من أكثر المشاريع تكلفة في العالم، وهذا يشمل البنية التحتية المتطورة والتكنولوجيا العالية التي يُتوقع أن يتضمنها المشروع. الأمر الذي يُصعب على المستثمرين الأجانب أخذ القرار بدخول المشروع دون وضوح كامل حول الجدوى الاقتصادية والوقت الذي سيستغرقه المشروع ليحقق العوائد المالية.
يضاف الى ذلك، فإن انعدام الشفافية حول الجدوى المالية يزيد في تردد المستثمرين الادجانب، إذ يفتقر المشروع إلى تفاصيل محدّدة حول كيف يمكن للمستثمرين أن يحققوا عوائد على استثماراتهم في ظل تحديات “الاستدامة المالية”.
من أسباب عزوف المستثمرين الأجانب أيضًا:
-المخاطر السياسية (مثل التوترات الإقليمية مع إيران).
-عدم وضوح العائد الاستثماري على المدى المتوسط، خاصة في ظل غياب بنية تحتية مكتملة.
ـ المنافسة العالمية على الاستثمارات الخضراء والذكية.
وعلى مستوى الجدوى الاقتصادية والفنية، فإن مشاريع مثل “ذا لاين” أو المدينة الخطية بطول 170كم، واجهت شكوكًا حول:
-إمكانية تنفيذها بتقنيات غير مُجرَّبة (مثل البنية التحتية الذكية المتكاملة تحت الأرض).
-القدرة على جذب سكان دائمين في منطقة نائية.
فثمة توقعات غير واضحة بشأن العوائد المزعومة، وعلى الرغم من التركيز على التحول إلى اقتصاد غير نفطي، إلا أن هناك تساؤلات حول مدى قدرة المشروع على تحقيق الربحية. نشير الى أن تأثيرات جائجة كورونا (2020 ـ2021) على الخطط الاقتصادية دفعت الى تباطؤ بعض المشاريع الكبرى وفي طليعتها مشروع نيوم.
يضاف الى ذلك، أن الموقع الجغرافي للمشروع يشكل تحديًّا جدّيًا، حيث يتطلب مشروع نيوم بناء بنية تحتية متطورة في منطقة “نائية” تتضمن بيئات صحراوية وجبلية، وهو ما يجعل التنفيذ المعماري والتكنولوجي أكثر صعوبة. كما أن إنشاء هذه البنية في منطقة بعيدة قد يتطلب المزيد من الموارد لتوفير الخدمات الأساسية. وهناك عنصر الاعتراضات الاجتماعية التي وان بدت مهملة فإنها فرضت نفسها لبعض الوقت حيث صادرت حكومة ابن سلمان الأراضي من قبائل تقطن المناطق التي يقام عليها مشروع نيوم مثل قبيلة الحويطات التي خسرت بعض أبنائها برصاص القوات السعودية ولا يزال العشرات قيد الاعتقال على خلفية رفضهم التخلي عن أراضي تابعة لهم والنزوح الى مناطق أخرى.
أما حول توقيت المشروع، وهو أيضًا من المسائل المثيرة للجدل، فإنه التقديرات تفيد بأن نيوم تحتاج إلى سنوات طويلة لتحقيق عوائد مالية، بينما السعودية تحتاج إلى إيرادات سريعة لتمويل الرؤية.
وحين يوضع المشروع في سياق عالمي شديد التعقيد، فإننا نواجه حقائق مقلقة:
– ارتفاع أسعار الفائدة عالميًّا بما يُصعِّب من فرصة الحصول على تمويل خارجي.
– تراجع اهتمام الشركات العالمية بمشاريع “المجاورة” (مثل شراكة “لوسيد موتورز” التي أُرجئت).
في الحديث عن البدائل وآليات التكيف مع التحديات في السياق الدولي’ن تضطر السعودية إلى:
ـ التحوُّل إلى التمويل المحلي والإقليمي مثل:
1- الاعتماد على “صندوق الاستثمارات العامة (PIF) الذي يملك أصولًا تصل إلى 700 مليار دولار، مع تحفيز البنوك المحلية لتقديم قروض ميسَّرة.
2- جذب استثمارات من دول خليجية (مثل الإمارات وقطر والكويت) عبر شراكات استراتيجية.
3 ـ إعادة هيكلة الأولويات:
– التركيز على مشاريع “قابلة للتنفيذ” (ولكن من دون ضمانات الربحية) خلال 5-10 سنوات، مثل:
ـ أوكساجون (المدينة الصناعية العائمة) التي تستهدف جذب شركات التصنيع والتكنولوجيا.
ـ سنداله (منتجعات السياحة البيئية) لتعزيز السياحة الفاخرة.
– تأجيل أو تقليص نطاق المشاريع الأكثر تعقيدًا (مثل توسعات “ذا لاين”).
4 ـ الاستفادة من المزايا التنافسية:
-الطاقة الرخيصة: استخدام الكهرباء من مشاريع الطاقة المتجددة (مثل “نيوم للهيدروجين الأخضر”) لجذب الصناعات كثيفة الاستهلاك للطاقة.
– الحوافز الضريبية: إعفاءات ضريبية لمدة 50 عامًا للمستثمرين في نيوم.
-الموقع الاستراتيجي: نيوم قريبة من قناة السويس وممرات التجارة العالمية.
5 ـ التحالفات الدولية:
– تعزيز الشراكات مع شركات التكنولوجيا العالمية (مثل “ديزني” في قطاع الترفيه، و”إيرباص” في النقل الذكي).
– التعاون مع دول آسيوية (مثل الصين وكوريا الجنوبية) لتنفيذ البنية التحتية التكنولوجية.
الآفاق المحتملة للمشروع:
ثمة سيناريوهات متعددة تواجه مشروع نيوم تتفاوت في منطلقاتها ونتائجها المأمولة.
1ـ سيناريو التفاؤل الحذر:
– تحقيق أجزاء من نيوم كـ “منطقة اقتصادية خاصة” تجذب استثمارات في الطاقة النظيفة والسياحة الفاخرة، مع تحوُّلها إلى مركز إقليمي للتكنولوجيا بحلول 2030.
– قد يُحقِّق المشروع عوائد غير مباشرة عبر تعزيز صورة السعودية كوجهة للاستثمار، حتى لو تأخرت العوائد المالية المباشرة.
2 ـ سيناريو التعديل الجذري:
– تحوُّل نيوم إلى مشروع “رمز سياسي” أكثر منه اقتصادي، مع تقليص أهدافه ليتناسب مع التحديات المالية، والتركيز على مشاريع محدودة تُظهر التقدُّم الرمزي (مثل افتتاح منتجعات فاخرة أو مصانع هيدروجين أخضر).
3 ـ سيناريو الفشل الجزئي:
ـ تعثُّر المشاريع الأكثر طموحًا (مثل “ذا لاين”) بسبب تعقيداتها التقنية، مع نجاح جزئي للمشاريع الفرعية القائمة على موارد موجودة (مثل السياحة).
خطة الإنقاذ:
هناك مجموعة عوامل تلجأ اليها الحكومة السعودية من أجل إنقاذ المشروع وهي:
ـ النفط كشبكة أمان: إن ارتفاع أسعار النفط فوق 80 دولارًا للبرميل قد يُوفِّر تمويلًا إضافيًّا عبر إيرادات أرامكو.
ـ الدعم السياسي المطلق: التزام محمد بن سلمان الشخصي بالمشروع يجعل الأولوية لاستكماله، حتى لو تطلَّب ذلك استخدام الاحتياطيات السيادية.
ـ التكنولوجيا كحلّ: تطوّر تقنيات البناء الذكية أو انخفاض تكاليف الطاقة المتجددة قد يُقلِّل التكاليف.
ولأنه مشروع اقتصادي غير تقليدي، بل هو يتجاوز الاقتصاد ويمتد إلى أفق التطلع الجيوسياسي لدى القيادة السعودية، أي أن ابن سلمان يريده أداة جيوسياسية لتعزيز مكانة السعودية الاقليمية والعالمية، وتجسيد رؤية محمد بن سلمان لـ “السعودية الجديدة”. رغم التحديات، فإن الآفاق تعتمد على:
– قدرة الرياض على تحويل نيوم إلى “منصة جذب للشركات العالمية” عبر حوافز غير مسبوقة، وهنا يمكنه ازاحة دبي من عرش قيادة الاستثمار السياحي في المنطقة.
– نجاح التحالفات مع لاعبين تكنولوجيين كبار لتجاوز العقبات الفنية.
– توظيف العائدات النفطية المرتفعة كـ “وقود مرحلي” لتمويل المراحل الأولى.
إذا نجحت السعودية في إثبات جدوى جزء من المشروع (مثل أوكساجون أو مشاريع الهيدروجين)، فقد يُعيد ذلك ثقة المستثمرين، لكن الفشل في ذلك قد يُحوِّل نيوم إلى “مدينة أشباح” تستهلك الموارد دون عوائد ملموسة. القرار النهائي سيكون مرتبطًا بمدى مرونة الرؤية السعودية في موازنة “الطموح” مع “الواقع الاقتصادي”.
إن التعويل على دور نيوم في التنويع الاقتصادي يشكل تحديًّا وجوديًا للاقتصاد السعودي بل ولمستقبل المملكة واستقرارها. فمشروع نيوم يرمز الى تحرير الاقتصاد السعودي من الاعتماد على النفط. فحتى إذا كانت التحديات كبيرة على المدى القصير، فإن إصرار ابن سلمان على تحقيق هذا الهدف، من خلال تحفيز النمو في قطاعات غير نفطية مثل السياحة، التكنولوجيا، والطاقة المتجددة يعني أنه أمام خيارات فاصلة ووجودية، إما أن يعبر منطقة الخطر بأمان ويتحول بالفعل الى منافس حقيقي لدبي أو أن يهبط من عليائه والتعامل بواقعية مع الحقائق على الأرض.
في الخلاصات، يواجه مشروع نيوم تحديات “تمويلية” واقتصادية كبيرة، خاصة في ظل عزوف بعض المستثمرين الأجانب عن المشاركة في المشروع. ومع ذلك، تواصل الحكومة السعودية “الاستثمار” في المشروع من خلال “صندوق الاستثمارات العامة”، والشراكات الاستراتيجية مع الشركات العالمية، فضلاً عن تركيزها على جوانب التكنولوجيا والسياحة لتوفير مستقبل اقتصادي بعيد عن النفط.