New

في قلب غرب آسيا، تقف السعودية عند مفترق طرق تاريخي. وفي ظل قيادة الأمر الواقع لولي العهد محمد بن سلمان وفي غياب أي دور فعلي لوالده الملك سلمان الذي بدا وكأنه يتهيأ الى مرحلة يكون فيها في العالم الآخر، وقد أوكل أمور الدولة لابنه المفضّل، تشهد المملكة السعودية أهم تحوّل لها منذ تأسيسها.
أثارت الأجندة الراديكالية في التغيير والتحوّل الاقتصادي، إلى جانب المركزية السياسية غير المسبوقة، آمالًا ومخاوف مختلطة بشأن مسار البلاد. فهناك آفاق متعددة الأوجه للمملكة السعودية في رؤية 2030 في ظل حكم محمد بن سلمان، بقبضته الحديدية، رؤية تلاسم الأبعاد الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والجيوسياسية.
التحول الاقتصادي تحت الضغط :
تتمثل رؤية 2030 جوهر أجندة محمد بن سلمان، وهي خطة طموحة مؤسسة على هدف تقليل الإعتماد على النفط وبناء اقتصاد متنوع وديناميكي. ولكن هذا الهدف بدا وكأنه السر الخفي لخطة العمل والاختبار العملي لإمكانية نجاح أو فشل الرؤية. وبمرور خمس سنوات على إطلاقها في أبريل 2016، تكون الخطة قد باتت أمام اختبار جدّي، وقد حققت نتائج متباينة ما يبرز إمكانات وتحديات مستقبل السعودية.
وفيما حكم قبضته السياسية فإن ابن سلمان يحتكر القرار الاقتصادي بطريقة مماثلة، ولذلك أوكل لصندوق الاستثمارات العامة، أي صندوق الثروة السيادية، لإدارة التحول الاقتصادي الشامل. وتحت الإدارة المباشرة لمحمد بن سلمان، أصبحت الثروة الوطنية تحت سلطة نفر قليل يديره ابن سلمان ولا يخضع للمسائلة والمحاسبة، وله وحده سلطة إعلان الأرقام والانجازات، وقد أخبرنا، دون معطيات واضحة، بأن أصول الصندوق تتجاوز 700 مليار دولار، وأن استثماراته تتراوح بين شركات التكنولوجيا مثل أوبر ومشاريع الترفيه مثل لايف نيشن. محليًا، يُموّل صندوق الاستثمارات العامة مشاريع عملاقة مذهلة تهدف إلى إعادة تشكيل اقتصاد السعودية وصورتها العالمية نستعرضها على النحو الآتي:
ـ نيوم: مدينة مستقبلية مُخطط لها بتكلفة 500 مليار دولار، وتمتد على مساحة 10,000 ميل مربع في الصحراء الشمالية الغربية، وتتميز بتقنيات متقدمة، بما في ذلك سيارات الأجرة الطائرة، والخادمات الآليات، وقمر صناعي. ويتمثل محورها، “ذا لاين”، في تصور مدينة خطية تمتد على طول 170 كيلومترًا بدون سيارات أو طرق. ولكن مدينة الاحلام هذه لم يكتب لها بداية مشجّعة، فقد تحوّلت الى ما يشبه الثقب الاسود الذي تختفي فيه عشرات المليارات من الدولارات، الأمر الذي اضطر معه القائمون على المشروع أن يبدّلوا خطة العمل بدأت باعفاء مديره نظمى النصر، ثم تقليص المساحة الى 2.4 كم بعد أن بات تمويل المشروع مستحيلًا وصولًأ إلى المدة المقررة لاستكمال المشروع إذ لم يعد الحديث عن 2030 كموعد النهاية لاتمام المرحلة الأولى من المدينة وإنما يجري الحديث عن موعد 2034 أي سنة استضافة كأس العالم. لم يكن من المقرر أن يعلم أحد عن هذه الحقائق لولا انتشارها في الإعلام الأجنبي، وتحديدًا في وكالة بلومبرغ الاقتصادية التي كشفت عن تقليص المشروع، لأن المواطن لاحق له في السؤال دع عنك المحاسبة.
ـ مشروع البحر الأحمر: مشروع سياحي فاخر وطموح يغطي مساحة 28,000 كيلومتر مربع عبر أرخبيل ، الذي أُطلق في عام 2017 كجزء من رؤية السعودية 2030، يهدف إلى تحويل سواحل البحر الأحمر إلى وجهة سياحية فاخرة ومستدامة على مستوى عالمي. ويُعد أحد المشاريع الضخمة من بين خطط السعودية بتنويع اقتصادها وتقليل الاعتماد على النفط، مع التركيز على السياحة الفاخرة والاستدامة البيئية.
لناحية المنجزات التي تحققت حتى الآن، يجري الحديث عن تشيدد “مطار البحر الأحمر الدولي” في عام 2023، وهو مصمم لاستيعاب مليون مسافر سنويًا ويعمل بالكامل بالطاقة المتجددة، وأيضًا افتتاح أول منتجع فاخر تحت اسم “ستومبورن البحر الأحمر” في عام 2023، بالشراكة مع علامات فندقية عالمية مثل “فيرمونت” و”ريتز كارلتون”، واعتماد المشروع على طاقة متجددة بنسبة 100% (طاقة شمسية ورياح)، مع خطط لتحقيق الحياد الكربوني بحلول 2030، وحماية النظم البيئية الهشة، مثل الشعاب المرجانية، عبر تقنيات مبتكرة مثل إنشاء “بنوك المرجان” وإعادة تأهيلها، وجذب الاستثمارات العالمية ولكن بنسبة منخفضة، حيث شاركت روس أتوم، الروسية لتطوير الطاقة النووية السلية (لأغراض غير سياحية) و”أكور” الفرنسية لإدارة الفنادق، مع تخصيص حزمة تمويلية بقيمة 3.8 مليار دولار من بنوك محلية ودولية لدعم المراحل الأولى.
ويصنّف المشروع بوصفه واحدًا من أكثر الوجهات السياحية ابتكارًا في العالم من قبل منظمات مثل “المنتدى الاقتصادي العالمي”. ولكن ليس كل ما يعلن حقيقي، فإن الأهداف المعلنة لا تعني تحقّقها في الواقع. فهذا المشروع، شأن المشاريع الأخرى في رؤية 2030، تحديات كبيرة وانتقادات ومن بينها:
1 ـ الكلفة العالية والتعقيدات اللوجستية: حيث تقدّر الكلفة الاجمالية بـ 50 مليار دولار، مما يثير تساؤلات حول العائد الاستثماري على المدى القصير، خاصة مع تباطؤ السياحة العالمية بعد جائحة كوفيد-19.
2 ـ المخاوف البيئية: حيث وجّهت منظمات بيئية انتقادات حول تأثير البناء على النظم البيئية البحرية، رغم الادعاءات بالاستدامة، وكذلك، مخاطر التلوث الضوئي والصوتي على الحياة البحرية.
3 ـ المنافسة الإقليمية: وجود وجهات سياحية راسخة في المنطقة مثل شرم الشيخ في مصر والبحر الميت في الأردن، ما يفرض تحديًا في جذب السياح، وعشّاق السياحة البحرية والشاطئية.
4 ـ السياق السياسي والاجتماعي: إذ يبدي كثيرون من السيّاح الأجانب تحفظات بسبب القيود الاجتماعية في السعودية (مثل قوانين الملابس والمشروبات الكحولية). وقد سعى النظام السعودي إلى تخفيف هذه القيود عن طريق إقامة أماكن خاصة وغير متاحة للعموم تتوافر فيها المشروبات الكحولية، وكذلك شواطىء خاصة يرتادها الأجانب ويسمح فيها لارتداء ملابس البحر، تمهيدًا لاتاحتها للعموم في وقت لاحق.
5 ـ تأثير التوترات الجيوسياسية في المنطقة (مثل الحرب الدائرة في المنطقة ودخول اليمن على خط الإسناد لصمود غزة أمام العدوان الصهيوني) على الاستقرار الداخلي وعلى وجهات السائحين، والأجانب بالخصوص.
في التقييم الاجمالي، ثمة نجاح جزئي حققه المشروع ولكنه لا يزال في مراحله الأولى، ولم يُقس نجاحه الكامل إلا بعد اكتمال جميع المراحل بحلول 2030.
ـ القدية: مجمع ترفيهي ضخم خارج الرياض، من المقرر أن يكون حجمه ثلاثة أضعاف حجم ديزني وورلد، ويضم منتزهات ترفيهية وملاعب رياضية ومعالم ثقافية. ومشروع القدية هو أحد المشاريع العملاقة والطموحة ضمن رؤية السعودية 2030، ويهدف إلى أن يصبح أكبر وجهة ترفيهية ورياضية وثقافية في العالم.
وعلى الرغم من العقود الكبيرة التي أبرمها صندوق الاستثمارات العامة لتطوير البنية التحتية والمرافق الرئيسية مثل عقد بقيمة 2.8 مليار ريال سعودي (750 مليون دولار) لبناء أكبر مدينة ترفيهية مائية في المملكة (“أكواريبيا”) فإن المشروع واجه تحديات لوجستية وتمويلية.
في الظاهر، تمّ الإعلان عن مناطق جذب مثل أول منطقة للألعاب والرياضات الإلكترونية متعددة الاستخدامات، واستاد الأمير محمد بن سلمان متعدد الرياضات، ومضمار السرعة، ومتنزه “دراغون بول” الترفيهي، وأن الهدف من ذلك هو استقطاب 48 مليون زيارة سنويًا، وإيواء 600 ألف ساكن عند تشغيله بالكامل، وتوفير 325 ألف فرصة عمل مباشرة وغير مباشرة، والمساهمة بـ 135 مليار ريال في الناتج المحلي الإجمالي عند تشغيله بالكامل. ولكن كم تحقق من هذه الأهداف؟
في الشكل، إن مساحة المشروع ضخمة جدًا (376 كم2)، ما يتطلب إدارة وتنسيقًا استثنائيًا على نطاق واسع، وهذا ينطوي على تحدي لوجستي وتقني. وأيضًا، فإن مشروعًا بهذا الحجم يجمع بين الترفيه والرياضة والثقافة والمناطق السكنية يتطلب تخطيطًا معقدًا وشاملاً. من جهة أخرى، هناك حاجة إلى بنية تحتية ضخمة، أي ميزانيات هائلة، وتاليًا تأمين التمويل المستمر من القطاعين العام والخاص خاصة مع وجود العديد من المشاريع العملاقة الأخرى في المملكة (مثل نيوم والبحر الأحمر)، ولذلك فإن الحديث عن عائد مالي يكون مؤجّلًا الى حين حساب الانفاق الهائل مقارنة بالعائد. ولا غرابة أن نقرأ تقارير عن خطط خفض التمويل لبعض المشاريع العملاقة أو تأخير تنفيذها، مما قد يؤثر على الجدول الزمني لإطلاقها وجني الأرباح.
تحديات التنفيذ تعني أن أي مشروع بهذا الحجم يمكن أن يواجه تأخيرات بسبب تحديات في سلسلة التوريد، أو الموافقات التنظيمية، أو صعوبات التنفيذ على أرض الواقع. وقد أشارت بعض التقارير السابقة إلى إمكانية تأخر افتتاح المرحلة الأولى. وكان من التحديات ما عكسته التغييرات في مجلس الإدارة، إذ حدثت تغييرات في مجلس إدارة شركة القدية للاستثمار، والتي قيل إنها جاءت لضمان سير العمل وفق المطلوب وتفادي التأخيرات، والحال إن هذا التغيير هو محاولة للتحايل على الاخفاق في تقدير المشروع جدوى وكلفة وعائدًا.
إن واحدة من أبرز التحديات هي المنافسة الاقليمية والعالمية خصوصًا في بلد لا يزال حديث عهد بالسياحة المدنية. وحيث أن السعودية تحاول تقليد نموذج السياحة في الامارات وتطويره، فإن كفة المنافسة مع دبي وأبو ظبي تبدو راجحة. إذ تمتلك الإمارات بنية تحتية ترفيهية راسخة (مثل “فيراري وورلد” و”وارنر براذرز أبوظبي”)، مما قد يُقلل من جاذبية القدية للسائحين الدوليين.
وعلى الرغم من محاولات بناء مشاريع سياحية متميّزة كما يعكس حجم الإنفاق الهائل، فإن المنافسة القوية من وجهات ترفيهية إقليميًا وعالميًا يفرض على المشاريع السياحية استراتيجية تسويقية قوية لجذب السياح في الداخل والخارج. والأهم من ذلك كله، هو تغيير سلوك المستهلك، أي تغيير قناعات المواطنين بجذبهم للترفيه داخل البلاد بدلًا من السفر للخارج، بالإضافة إلى جذب السياح الدوليين، فيما لا تزال أعداد كبيرة من السيّاح المحليين تتوجه إلى الخارج. على سبيل المثال، وعلى الرغم من ارتفاع أسعار الخدمات السياحية في تركيا فقد بلغ عدد السياح السعوديين الذين زاروا تركيا في عام 2024 حوالي 870 ألف زائر، فيما أصبحت أوروبا الشرقية ووسط آسيا خيارات سياحية جديدة لكثير من مواطني المملكة السعودية.
علاوة على ذلك، فإن ثمة تأخيرًا في الجدول الزمني، وتأجيل افتتاح المراحل الرئيسية: مثل تأخير افتتاح “مدينة الألعاب” أو “الحلبة الرياضية”، يُضعف ثقة المستثمرين والجمهور. إضافة الى ذلك، لا تزال البنية التحتية اللازمة لربط القدية بالرياض مثل خط القطار السريع وبناء الطرق والمواصلات اللازمةغير مكتملة ما يتسبب في تأخير التشغيل الكامل.
على نحو إجمالي، ثمة مؤشرات فشل مبدئية حتى الآن تجعل من عدم تحقيق الاهداف المرحلية منطقية، ومن آيات ذلك، تراجع التغطية الإعلامية مقارنةً بالضجة الإعلامية الأولية، الذي ينبىء عن انخفاض الاهتمام إلى فقدان الزخم.
ومع أنه من المبكر الحديث عن فشل، إذ لا يزال المشروع في مراحل الإنشاء الأولى، ولكن المؤشرات تفيد بأن ثمة تحديات كبيرة تواجه المشروع بالنظر الى حجم الانفاق مقارنة بالعائد المأمول. حتى الآن، يظهر ابن سلمان وفريقه التزامًا قويًا بإنجازه، مع توقيع شراكات كبرى (مثل اتفاقية مع “ديزني” لتطوير المحتوى الترفيهي).
إجمالًا، وعلى الرغم من الرؤية الطموحة، يواجه التحول الاقتصادي في السعودية عقبات كبيرة:
ـ القيود المالية: أثقل انخفاض أسعار النفط كاهل المالية الحكومية، مما أجبرها على إعادة النظر في الجداول الزمنية للمشاريع ونطاقها. كما أثارت متطلبات رأس المال الضخمة للمشاريع العملاقة مثل نيوم تساؤلات حول الاستدامة المالية.
ـ تردد الاستثمار الأجنبي: على الرغم من الترويج الدولي المكثف، لا يزال الاستثمار الأجنبي المباشر دون المستوى المستهدف. في عام 2023، اجتذبت السعودية ما يقارب 32 مليار دولار أمريكي من الاستثمار الأجنبي المباشر، وهو رقم أقل بكثير من الهدف السنوي البالغ 100 مليار دولار أمريكي. ويُعرب المستثمرون عن مخاوفهم بشأن عدم القدرة على التنبؤ باللوائح التنظيمية، ومشاكل الحوكمة، وجدوى المشاريع العملاقة.
ـ تطوير القطاع الخاص: لا يزال القطاع الخاص يُعاني من العوائق البيروقراطية، ونقص المهارات، والمنافسة من الجهات الحكومية. ورغم تحسن نمو القطاع الخاص غير النفطي، إلا أنه لا يزال غير كافٍ لاستيعاب أكثر من 200 ألف شاب يدخلون سوق العمل سنويًا.
ـ محدودية رأس المال البشري: على الرغم من الاستثمارات الكبيرة في التعليم، لا يزال عدم التوافق بين مهارات الخريجين ومتطلبات السوق قائمًا. ومع أن نظام التعليم يخضع لمراجعات ولإصلاحات تُركز على المهارات التقنية والتفكير النقدي، لكن النتائج ستستغرق وقتًا.
ـ إصلاحات المالية العامة: أدى تطبيق ضريبة القيمة المضافة، وخفض الدعم، وزيادة الرسوم إلى تعزيز المالية العامة، لكنه ضغط على أسر الطبقة المتوسطة، مما قد يُثير توترات اجتماعية.
تشير المؤشرات الاقتصادية إلى تقدم متواضع نحو التنويع، فقد نما الاقتصاد غير النفطي بمعدل سنوي متوسط قدره 3.3% منذ عام 2018، وارتفعت الإيرادات غير النفطية من 13% من الإيرادات الحكومية في عام 2015 إلى حوالي 32% بحلول عام 2024. ومع ذلك، لا يزال النفط يُمثل حوالي 40% من الناتج المحلي الإجمالي و70% من عائدات التصدير، مما يُبرز الطريق الطويل أمام التنويع الحقيقي.
المركزة السياسية: نموذج حوكمة جديد.
أدّى صعود إبن سلمان إلى السلطة إلى تغيير جذري في المشهد السياسي في السعودية. تقليديًا، كانت المملكة السعودية تعمل من خلال بناء توافق بين كبار أفراد عائلة آل سعود، مع توزيع السلطة على الفروع الرئيسية في العائلة. هذا النظام، وإن كان غير فعال في بعض الأحيان، إلا أنه وفّر ضوابط وتوازنات حدّت من التحولات المفاجئة في السياسات والتركيزات المفرطة للسلطة.
ولكن، في عهد سلمان الذي ركز السلطة في يد نجله محمد، استُبدل نموذج الحكم هذا بمركزية غير مسبوقة، حيث استغل شعار مكافحة الفساد عام 2017، لتصفية خصومه فقام باحتجاز مئات الأمراء والوزراء ونخب الأعمال في فندق ريتز كارلتون، بهدف إقصاء المنافسين المحتملين، مع توجيه رسالة قوية حول ديناميكيات السلطة الجديدة. وبحسب ما ورد، استعاد ابن سلمان أكثر من 100 مليار دولار من الأصول، وأعاد تشكيل العلاقات بين النظام الملكي ونخب الأعمال بشكل جذري، وبذلك نجح في إضعاف خصومه وانتزاع ورقة قوية من أيديهم وهي المال.
ـ من جهة ثانية، نجح ابن سلمان في تهميش مراكز السلطة التقليدية، بما في ذلك المؤسسة الدينية، وفروع العائلة المالكة الأخرى، وطبقة التجار – بشكل منهجي، واستبدلها بالتكنوقراط والموالين الخاضعين مباشرة له، وهم من خارج آل سعود. ولأول مرة يتولى أفراد من خارج العائلة المالكة قمع أمراء منافسين لابن سلمان، كما حصل مع محمد بن نايف الذي تعرض للاهانة على يد تركي آل الشيخ وسعود القحطاني المقرّبين من ابن سلمان.
ـ إعادة هيكلة الأجهزة الأمنية ووضعها تحت السيطرة المباشرة لمحمد بن سلمان، مع إنشاء جهاز أمن دولة جديد منفصل عن وزارة الداخلية، التي كانت تخضع تقليديًا لسيطرة آل نايف.
ـ أصبحت عملية صنع القرار شخصية بشكل متزايد، حيث غالبًا ما تُعلن المبادرات الرئيسية دون عمليات تشاور تقليدية أو دراسات جدوى.
في حين أن هذه المركزية قد سرّعت التحوّل الاقتصادي والاجتماعي، إلا أنها خلقت أيضًا نقاط ضعف جديدة وتحديات على مستوى علاقة ابن سلمان بالقوى التقليدية في المملكة (العائلة المالكة، والمؤسسة الدينية، والنخب التجارية التقليدية). يثير غياب الضوابط المؤسسية مخاوف بشأن استقرار السياسات وتقييم المخاطر. فالقرارات التي كانت تتطلب سابقًا بناء توافق في الآراء بين أصحاب المصلحة المتعددين تعتمد الآن بشكل كبير على حكم رجل واحد ومستشاريه المقربين.
حقوق الإنسان والتعبير السياسي :
جاء التحول السياسي مصحوبًا بمخاوف كبيرة تتعلق بحقوق الإنسان، والتي قد تؤثر على الاستقرار على المدى البعيد. فقد ألحق مقتل الصحفي جمال خاشقجي في نوفمبر سنة 2018 في القنصلية السعودية في إسطنبول ضررًا بالغًا بسمعة السعودية الدولية، وسلّط الضوء على المخاطر التي تواجه منتقدي النظام. وقد كانت لهذه الحادثة الصادمة تأثيرات مباشرة على الاستثمار الاجنبي والمشاريع السياحية في البلاد.
من جهة أخرى، تواصلت عمليات الإعدام بوتيرة غير مسبوقة، وقد أُعدم 81 شخصًا في يوم واحد في مارس 2022، العديد منهم لجرائم غير عنيفة، وإنما على خلفية نشاطات مطلبية سليمة، فيما بلغ إجمالي عدد الاعدامات منذ تولي سلمان العرش في 23 يناير 2015 وحتى نهاية 2023 ما لا يقل عن 1257 شخصًا، وفي عام 2024 بلغ عدد الاعدامات بحسب وكالة فرانس برس 338 حكم اعدام. ومنذ يناير وحتى 15 مايو 2025 أعدمت السلطات السعودية 112 شخصًا..وبذلك يكون اجمالي الاعدامات منذ 23 يناير 2015 وحتى مايو 2025 يتجاوز 1700 اعدام.
من جهة ثانية، تم اعتقال نشطاء ومثقفين ورجال دين من مختلف الأطياف السياسية، بمن فيهم مدافعات بارزات عن حقوق المرأة. كما تزايدت المراقبة الرقمية، حيث تستخدم السلطات السعودية تقنيات متقدمة لمراقبة المواطنين في الداخل والخارج. وقد أدّت هذه الإجراءات إلى إسكات معظم الانتقادات المحلية، مما خلق مناخًا نادرًا ما يتحدى فيه الخطاب العام السياسات الرسمية. وبينما يسمح هذا بالمضي قدمًا في تنفيذ ابن سلمان لمخطط احكام قبضته على مفاصل الدولة دون معارضة كبيرة، فإنه يمنع أيضًا تطوير عمليات تشاركية من شأنها تعزيز فعالية السياسات واستدامتها.
تخطيط الخلافة :
على عكس الأجيال السابقة من القيادة السعودية، لم يُحدّد محمد بن سلمان بوضوح خلفاء له أو يبنِ آليات لتقاسم أو توارث السلطة. وقد تم تهميش إخوته وأبناء عمومته إلى حد كبير من مناصب السلطة، مما خلق حالة من عدم اليقين بشأن مستقبل الحكم في حال موته أو مقتله. في عام 2025، بلغ محمد بن سلمان التاسعة والثلاثين من عمره، ومن المحتمل أن يحكم لعقود، لكن غياب آليات واضحة للخلافة يُمثل نقطة ضعف طويلة الأمد تُهدد استقرار النظام.
التحول الاجتماعي: تحديث بحدود:
لعل أبرز جوانب التحول السعودي في عهد محمد بن سلمان هو التحرر الاجتماعي. فبعد عقود من الرقابة الدينية الصارمة على الحياة العامة، شهدت السعودية انفتاحًا ملحوظًا أعاد تشكيل التجارب اليومية لكثير من المواطنين على النحو الآتي:
ـ أصبح بإمكان المرأة الآن قيادة السيارة، والسفر دون إذن ولي أمرها، والمشاركة في الفعاليات العامة التي كانت تُفصل بين الجنسين سابقًا.
ـ جُرِّدت الشرطة الدينية (المطاوعة) من صلاحيات الاعتقال، وأُزيلت إلى حد كبير من الأماكن العامة، مما أنهى عقودًا من المضايقات المتعلقة بقواعد اللباس والاختلاط بين الجنسين.
ـ توسّعت خيارات الترفيه بشكل كبير مع افتتاح دور السينما، واستضافة الحفلات الموسيقية، وتنظيم المهرجانات العامة.
ـ خُفِّفت قواعد اللباس بشكل ملحوظ، حيث لم تعد النساء مُلزمات بارتداء العباءات في العديد من السياقات، واعتمد الرجال أنماط ملابس أكثر تنوعًا.
ـ لاقت هذه التغييرات صدىً خاصًا لدى الشباب، الذين يُشكّلون حوالي ثلثي السكان. بالنسبة إلى العديد منهم، حظيت هذه التغييرات بترحيب لافت لتوافقها مع تطلعاتهم وأنماط حياتهم الشخصية. مع ذلك، لا تزال التغييرات الخاصة بالمرأة قائمة في ظل استمرار الهياكل الأبوية، وإن نظام ولاية الرجل، على الرغم من تقليص نطاقه، لا يزال قائمًا جزئيًا. وقد اعتُقلت ناشطات حقوق المرأة حتى مع تطبيق الإصلاحات التي نادين بها، مما يبعث برسالة مُعقدة حول الحدود المقبولة للمناصرة .
الهوية الثقافية والإصلاح الديني :
أثار التحول الاجتماعي نقاشاتٍ مُعقّدة حول الهوية المحلية ودور الإسلام في الحياة العامة في أوجه متعددة:
ـ خُفِّضَ المحتوى الديني في المناهج التعليمية لصالح موادّ تدعم التنمية الاقتصادية.
ـ أصبح الالتزام الديني العام أقلّ صرامة، حيث تُبقي المحلات التجارية أبوابها مفتوحةً أحيانًا خلال أوقات الصلاة .
ـ برزت شخصياتٌ دينيةٌ متعاطفةٌ مع التفسيرات المعتدلة، بينما تضاءل نفوذ رجال الدين المحافظين.
ـ يُشدّد الخطاب الديني الرسمي بشكلٍ متزايد على التسامح والاعتدال، وإن كان ذلك ضمن حدودٍ تُحدّدها السلطة الحاكمة إلى حدٍّ كبير، وتتوافق مع سياساتها العامة والجديدة في ظل سلطة ابن سلمان.
ـ خلقت هذه التغييرات توترًا بين التقليد والتحديث. فبينما يُرحّب قطاع من المواطنين بمزيدٍ من الحريات الشخصية، يُعبّر آخرون عن قلقهم إزاء التآكل الثقافي والتأثير الغربي. وقد حاولت الحكومة تجاوز هذا التوتر من خلال تعزيز التراث النجدي عبر المهرجانات الثقافية والحفاظ على التراث النجدي، إلى جانب مبادرات التحديث.
التموضع الجيوسياسي :
اتبع محمد بن سلمان سياسةً خارجيةً أكثر انحيازًا الى الولايات المتحدة والكيان الاسرائيلي وأقل استقلاليةً من أسلافه، ساعيًا إلى ترسيخ السعودية كدولة وظيفية متقدّمة وحليف قريب للولايات المتحدة في المقام الأول.
وقد ازداد التحالف التقليدي بين السعودية والولايات المتحدة نموًا في عهد محمد بن سلمان، كما ظهر مؤخرًا في التقديمات التي عرضها الأخير على الرئيس الأميركي ترمب في زيارته للرياض في 13 مايو 2025 حيث وقّع صفقات مع الشركات الاميركية بمبالغ طائلة تصل الى 600 مليار دولار كما وقّع صفقة عسكرية هي الأعلى في التاريخ بقيمة 140 مليار دولار.
إن استمرار التعاون الأمني وشراء الأسلحة، ترافق أيضًا مع قرار زيادة إنتاج النفط على الرغم من تداعياته الخطيرة على العائد المالي المطلوب وتاليًا تقليص المخصصات المالية المقترحة للمشاريع والوزارات بحسب لموازنة العامة المعلنة لعام 2025.
من زاوية أخرى، إن توجه السعودية نحو تعزيز علاقاتها مع الصين وروسيا لم يكن ترجمة لمراجعة العلاقات مع الولايات المتحدة وإنما لارتباط السعودية بمصالح مشتركة، فالصين هي أكبر مستورد للنفط السعودي، وهي أكبر شريك تجاري للسعودية، حيث تجاوز حجم التجارة الثنائية 87 مليار دولار سنويًا، وقد حصلت شركات صينية على عقود رئيسية في مشاريع التنمية، وأبدت السعودية انفتاحًا متزايدًا على قبول الدفع باليوان مقابل النفط .
أما بالنسبة لروسيا، والتي تتقاسم السعودي معها القلق إزاء أسعار النفط، حيث بدا الجانبان في حالة تنسيق الضرورة من أجل الحفاظ على عائد ثابت ومرتفع من مبيعات النفط لاعتمادهما بشكل أساس على النفط كمصدر للدخل. لا يغير ذلك من حقيقة التوسع في التعاون الدفاعي مع روسيا، على الرغم من أن الولايات المتحدة لا تزال المورد العسكري الرئيسي للسعودية .
لا يعكس هذا التنوع بحال شراكات دولية بالمعنى الحقيقي، ولا صلة لها بحسابات استراتيجية بناء على دعوى مفادها أن النفوذ الأمريكي في منطقة غرب آسيا آخذ في التراجع، أو أن المصالح السعودية تتحقق على أفضل وجه من خلال الحفاظ على خيارات مع قوى عالمية متعددة. ولو كان ذلك صحيحًا لما أصرّ ابن سلمان على الاتفاقية الدفاعية مع الولايات المتحدة لحماية نفسه وعرشه من أي تحديات داخلية وخارجية، ولما أبدى استعداده لاستثمار تريليون دولار في الأسواق الأميركية، بل ولما أعلن تمسكه بخيار التطبيع مع الكيان الاسرائيلي، إرضاء للشريك الأميركي.
لناحية السياسة الإقليمية السعودية في عهد محمد بن سلمان فإنها تأرجحت بين المواجهة والدبلوماسية كما في الأمثلة الآتية:
ـ كان العدوان السعودي في اليمن، الذي بدأ في مارس 2015، مسعىً مكلفًا ومضرًا بسمعة السعودية، على الرغم من محاولات ابن سلمان المتأخرة لتحقيق مكاسب في الوقت الضائع من خلال إثارة الفتن الداخلية وتحريك بعض المكوّنات من أجل رفع مطلب الحماية الدولية .
ـ في ملف الخلاف مع قطر، وعلى الرغم من عودة العلاقات مع قطر إلى طبيعتها بعد انتهاء الحصار (2017 ـ 2021)، فإن التوترات الكامنة لا تزال قائمة. وهناك حرب باردة بين الدوحة والرياض في ملفات إقليمية عديدة، وسوف يكون الميدان السوري بعد سقوط النظام ساحة مواجهة بين البلدين…
ـ ازداد التواصل مع الكيان الاسرائيلي خلف الكواليس، على الرغم من أن التطبيع الكامل لا يزال مستبعدًا بسبب رفض قادة الكيان حل الدولتين أو حتى مجرد مناقشته واعتباره أساسًا للتفاوض، والاصرار على حل السلام غير المشروط.
ـ تحسنت العلاقات مع تركيا في أعقاب التوترات السابقة بشأن جماعة الإخوان المسلمين ومقتل خاشقجي. وفيما يبدو أن ثمة تنسيقًا بين أنقره والرياض في الملف السوري إلا أن هذا التنسيق بخلفيته البراغماتية لن يطول، ببساطة لتضارب مصالح البلدين.
ـ الانفراج الحذر مع ايران منذ مارس 2023 بوساطة صينية، سوف يبقى حذرًا الى أمد غير معلوم، وإن التنافسات الطائفية والجيوسياسية سوف تبقى قائمة. وفي لحظة ما سوف تجد الرياض نفسها أبعد ما يكون عن طهران حين تدخل في مشروع التطبيع مع الكيان الاسرائيلي.
يعكس هذا المزيج من الصرامة والبراغماتية سعي محمد بن سلمان لعبور مرحلة شديدة التعقيد وحجز مكان للسعودية كقوة إقليمية مهيمنة، مع إدارة الصراعات التي قد تقوض التحول الداخلي .
الدبلوماسية الاقتصادية :
بدا أن ابن سلمان الذي يتولى إدارة الملف الاقتصادي على قناعة بأن السياسة الخارجية تكون أفضل من خلال توظيف القوة الاقتصادية، في ضوء مجموعة مؤشرات حيث:
ـ تهدف مؤتمرات الاستثمار، مثل مبادرة مستقبل الاستثمار (التي تُعرف غالبًا باسم “دافوس الصحراء”)، إلى جذب رؤوس الأموال العالمية وتعزيز صورة السعودية كوجهة استثمارية حديثة .
ـ تُعدّ الفعاليات الرياضية والترفيهية، من بطولات الجولف إلى سباقات الفورمولا 1، أدوات دبلوماسية وممارسات لبناء الصورة بقدر ما هي أدوات للتنويع الاقتصادي.
ـ لا يزال توزيع المساعدات الإنمائية استراتيجيًا، وإن كان مع توقعات أكثر وضوحًا بفوائد متبادلة مقارنةً بالعصور السابقة .
وقد أسفر هذا النهج عن نتائج متباينة، ففي حين نجحت السعودية في تجاوز الانتقادات الدولية بشأن قضايا حقوق الإنسان وحافظت على علاقات أساسية، إلا أن نفوذها الإقليمي لا يزال مقيدًا بقدرتها على التنفيذ وتنافس أولوياتها .
ـ شهدت الرياض حدثًا اقتصاديًا لافتًا مع زيارة الرئيس الاميركي دونالد ترمب برفقة أكثر من مائة رئيس شركة من كبريات الشركات في الولايات المتحدة من قطاعات متعددة: تكنولوجية، وترفيهية، وصناعية، وعسكرية والتي مهدّت لحصاد تريليوني غير مسبوق، حيث وقّع ترمب مع ابن سلمان صفقات بقيمة تريليون دولار ثم تبعه تريليون وأربعمائة مليار دولار في قطر وبعده تريليون ومائتي مليار دولار مع الامارات. في النتائج، تحوّل الخليج الى خشبة الخلاص للاقتصاد الاميركي الذي يواجه أزمة اقتصادية بنيوية مع بلوغ المديونية العامة أكثر من 36 تريليون دولار في يوليو 2024.
على أية حال، فإن استدامة أجندة التحول التي يتبناها إبن سلمان ونموذج قيادته يعتمد على عدة عوامل حاسمة:
ـ النتائج الاقتصادية: يتمثل الشرط الأساسي للاستقرار طويل الأمد في تحقيق فوائد اقتصادية ملموسة للمواطنين العاديين على صعيد:
ـ خلق فرص العمل، حيث تحتاج الحكومة إلى توفير ما يقارب 200 ألف وظيفة نوعية سنويًا للشباب الذين يدخلون سوق العمل. ولا يعتمد النجاح فقط على معدلات النمو الرئيسية، بل على خلق فرص مستدامة في القطاع الخاص .
ـ السكن وتكلفة المعيشة، إذ لا تزال القدرة على تحمل تكاليف السكن تُشكل تحديًا للعديد من المواطنين، حيث تقل معدلات امتلاك المنازل عن الأهداف الحكومية، كما تتطلب إدارة تكاليف المعيشة مع خفض الدعم موازنة دقيقة .
ـ تنمية الشركات الصغيرة والمتوسطة، في حين تتصدر المشاريع الضخمة عناوين الأخبار، فإن تطوير قطاع نابض بالحياة للشركات الصغيرة والمتوسطة أمرٌ أساسي لخلق فرص عمل مستدامة وتعزيز الابتكار. وقد عانت الشركات الصغيرة والمتوسطة كثيرًا في ظل حكم سلمان حيث خرجت آلاف الشركات من السوق بسبب وحش الضرائب الذي التهم كثيرًا من رؤوس أموالهم..
ـ تحسين الإنتاجية: يتطلب الازدهار طويل الأمد معالجة تحديات الإنتاجية الهيكلية من خلال مواصلة إصلاح التعليم، والحد من البيروقراطية، وتحسين ظروف العمل .
ـ تطوّر الحوكمة، حيث يواجه نموذج الحوكمة الحالي، شديد التخصيص، تساؤلات حول الاستدامة على المدى الطويل على صعيد:
ـ المؤسسية: من شأن الانتقال من القيادة المعتمدة على التوجيه الشخصي لمحمد بن سلمان إلى حوكمة أكثر مؤسسية أن يعزز الاستقرار، ولكن هذا يتطلب من إبن سلمان نفسه التنازل والقبول بمبدأ توزيع السلطة بصورة طوعيةً وإشراك أشخاص وأفرع أخرى .
ـ الفساد والشفافية: في حين استهدفت تدابير مكافحة الفساد بعض النخب، إلا أن إرساء سيادة قانون متسقة وعمليات حكومية شفافة لا يزال قيد التنفيذ .
ـ تنمية المجتمع المدني: من شأن توفير مساحة للمشاركة البناءة للمجتمع المدني إرساء أسس التغيير الحقيقي في المجتمع والدولة وعدم احتكار قرار التغيير من أعلى، إذ لن يقدر على تحسين نتائج السياسات سوى المجتمع المدني، كما يتطلب قبول مستوى معين من الخطاب العام المستقل .
ـ تخطيط الخلافة: من شأن وضع آليات واضحة للخلافة أن يُقلل من حالة عدم اليقين بشأن مستقبل السعودية، وهذا يتطلب من إبن سلمان تمكين الخلفاء المحتملين، وليس مجرد الإعلان عن أسماء تكون مجرد واجهات وهمية ما يلبث أن يكشف عن كونها مجرد ديكور بلا تأثير. ومع أن الروايات غير الرسمية تجمع على أن خالد بن سلمان شقيق ابن سلمان ووزير الدفاع، هو المرشح لأن يكون ولي العهد، ولكن لا ضمانات مؤكدة على توجّه ابن سلمان في هذا السياق، فيما تتحدث روايات أخرى عن سيناريو أردني، وأن تعيين خالد قد يكون مؤقتًا الى حين بلوغ سلمان، نجل محمد بن سلمان سن الرشد حيث يمكنّ تقديمه للإعلام ولعموم المجتمع..
التماسك الاجتماعي :
منذ تولي سلمان العرش في يناير 2015 تعرّضت البنى الاجتماعية إلى زعزعة عنيفة نتيجة التغييرات الراديكالية التي أجراها سلمان في هياكل السلطة السياسية أو التي أجراها إبن سلمان في النظام الاجتماعي. وتُمثل إدارة التغيير الاجتماعي مع الحفاظ على التماسك تحديات مستمرة على النحو الآتي:
ـ التوازن الديني ـ العلماني، إذ يتطلب إيجاد توازن يُرضي كلاً من المُجددين والمحافظين على التقاليد مواصلة البحث في الرؤى المتنافسة للمجتمع.
ـ الشمول الإقليمي والقبلي، إذ إن ضمان امتداد فوائد التنمية إلى ما هو أبعد من المدن الكبرى ليشمل المناطق المهمشة تقليديًا يظل أمرًا بالغ الأهمية لتحقيق الوحدة الوطنية .
ـ تنمية المواطنة، بالانتقال من علاقة محضة بين الحاكم والرعية إلى مفهوم أكثر تشاركية للمواطنة قد يعزز شرعية النظام، ولكنه يتطلب انفتاحًا سياسيًا.
الأمن الإقليمي :
إن تهيئة بيئة إقليمية مستقرة من شأنها دعم التحول المحلي وهذا يتطلب:
ـ إغلاق ملف العدوان على اليمن، بتسوية المسائل العالقة في الحل المتفق عليه بما في ذلك رفع الحصار البري والجوي والمساعدة في إيجاد حل سياسي مستدام من شأنه أن يُجنّب البلاد استنزافًا كبيرًا للموارد والسمعة الدولية.
ـ العلاقة مع إيران: على الرغم من استئناف العلاقات بين طهران والرياض لا تزال إدارة التوترات الطائفية والتنافس الجيوسياسي مع إيران دون صراع مفتوح أمرًا غير محسومة، مع كونها ضرورية لتحقيق الاستقرار الإقليمي، وفي مصلحة السعودية بدرجة أساسية التي تبحث عن بيئة مواتية للازدهار الاقتصادي والاستثماري.
في الخلاصة، إن التحول الجاري في السعودية يمثل أحد أهم التطورات في منطقة غرب آسيا. وعلى الرغم من تطلع الرياض نحو نجاح من شأنه أن يخلق منها قوة عظمى تتميز باقتصاد متنوّع، وخطاب اجتماعي معتدل في منطقة استراتيجية، فإن الفشل قد يؤدّي إلى عدم الإستقرار في دولة مترامية الأطراف وتواجه قوى صاعدة ومندفعة نحو ملء الفراغات التي أحدثتها الحروب والنزاعات المسلحة.
لقد خلقت جرأة رؤية إبن سلمان واستعداده لتعطيل الأعراف الراسخة فرصًا غير مسبوقة ومخاطر كبيرة، وقد مكنّه تفرّده بالسلطة من العمل على أهداف طموحة، في حين أثارت تساؤلات حول استدامة الحوكمة والقدرة على التنفيذ.
بالنسبة للشركاء الدوليين، تُمثل السعودية في عهد إبن سلمان تحديًا معقدًا، فهي شريك استراتيجي أساسي يُجري إصلاحات ضرورية بأساليب مثيرة للجدل. وسيتطلب تطور السعودية مشاركةً مستمرة تدعم التحديث وتدعو إلى تحسينات في الحوكمة من شأنها تعزيز الاستقرار على المدى الطويل .
مع اقتراب رؤية 2030 من موعدها المستهدف، ستكون السنوات القادمة حاسمة في تحديد مدى قدرة السعودية على إدارة تحولها الاقتصادي والاجتماعي بنجاح، بما يُسهم في بناء نموذج مستدام للازدهار والإستقرار في القرن الحادي والعشرين. ولن تُشكل هذه النتيجة مستقبل السعودية فحسب، بل مستقبل غرب آسيا الأوسع لعقود قادمة. ولكن هذه الرؤية التي صمّمت لانقاذ الاقتصاد السعودي تمثل أكبر تحدي في تاريخ النظام، لأنه مصمم لمنح الدولة السعودية وقتًا إضافيًا بعد أن كانت على شفير الافلاس في 2015. وإن أي تغيير لا يأخذ في الحسبان تطلعات الشعب وخصوصًا المشاركة الشعبية في العملية السياسية لا ضمانات من أي نوع للنظام بالبقاء والاستقرار.