مقالات أخرى
أخر الأخبار

من سوريا إلى لبنان ( التجاذب السعودي التركي )

شهد الدور السعودي في كل من لبنان وسوريا تحوّلات كبيرة على مدى العقد الماضي، وخاصة في سياق الحرب الأهلية السورية، وتوازن القوى الإقليمي، والسياسة الخارجية السعودية المتحوّلة. لقد تأثر نهج المملكة السعودية تجاه لبنان تاريخيًا بتنافسها الإقليمي الأوسع مع إيران، فضلاً عن محاولاتها لصنع توافق عربي حول نفوذها في لبنان ومحاربة محور المقاومة ونفوذه في المنطقة.

السياق التاريخي:

تاريخيًا، كانت المملكة السعودية لاعبًا رئيسيًا في السياسة اللبنانية، وذلك في المقام الأول من خلال دعمها للفصائل السياسية المارونية والسنية للحفاظ على التوازن السياسي في لبنان ومصالحها الاستراتيجية في العالم العربي ورغبتها في مواجهة  المنافسين الآخرين (سوريا وايران وليبيا والعراق..)، وفي السنوات الأخيرة بدا أن المنافس العنيد لمصالحها هو حزب الله.

ـ لبنان كساحة معركة بالوكالة: على مر السنين، دعمت السعودية الأحزاب السياسية السنيّة في لبنان، وخاصة “تيار المستقبل” وشخصيات مثل “سعد الحريري”، في معارضة حزب الله. كما دعمت السعودية الأحزاب  السياسية “المسيحية المارونية” في لبنان، وخاصة في “اتفاق الطائف” (1989)، الذي ساعد في إنهاء الحرب الأهلية اللبنانية وضمان توازن القوى بين الجماعات الطائفية المختلفة.

ـ الاستقرار المشروط:  لطالما راهنت السعودية على نفوذها الاستثنائي في لبنان وجعلت ذلك شرط استقراره وتاليًا مساعدته، من خلال “الهبات المالية” أو القروض بفوائد مرتفعة الهادفة إلى تثبيت نفوذ الرياض وقطع الطريق على المنافسين. ولذلك، كانت الرياض تفهم “السيادة” على نحو يدعم للتهكم، حيث يكون تدخّلها في لبنان داعمًا للسيادة بل و”ضمانة” لاستقلال لبنان عن القوى الخارجية وخاصة إيران، وسابقًا سوريا.

ـ النفوذ السعودي (2000 ـ 2024):

شهد النفوذ السعودي تراجعًا ملوحظًا على مدى أكثر من عقدين، أي في الفترة ما بين 2000 ـ 2024، يعود ذلك إلى سبب رئيسي هو:

–  صعود حزب الله: على مدى عقدين، اكتسب الحزب نفوذًا كبيرًا في لبنان، سياسيًا وعسكريًا نتيجة الانتصارات التي حقّقها بدءًا من تحرير المناطق المحتلة في جنوب لبنان في مايو 2000 مرورًا بانتصار حرب يوليو 2006 وصولًا إلى معركة “أولي البأس” منذ سبتمبر ـ ديسمبر 2024 والتي نجح فيها الحزب، بالرغم من الضربات المؤلمة التي أصابته في بنيته القيادية والعسكرية، في إحباط أهداف العدو الاسرائيلي. شكّلت هذه المحطات إلى جانب النفوذ الايراني المتزايد في المنطقة، تحديًا لمصالح السعودية، حيث أصبح نفوذ حزب الله في لبنان وخارجه، ولا سيما دوره في سوريا في مواجهة الجماعات المسلّحة المدعومة من السعودية فارقًا في معادلات الصراع في المنطقة.

فك الارتباط السعودي: في أعقاب انتفاضات “الربيع العربي” (2011)، أصبحت السعودية أكثر تركيزًا على “مواجهة النفوذ الإيراني” في كل من سوريا والعراق واليمن، إلى جانب إحباطها إزاء فشل حلفائها اللبنانين في تنفيذ أجندتها السياسية في مواجهة حزب الله ومحور المقاومة، الذي أدى إلى عزوفها عن الانخراط في الشأن اللبناني. ظل دعم السعودية للحريري و”تيار المستقبل” قائمًا، لكن قدرة الرياض على التأثير في السياسة اللبنانية تضاءلت مع ترسخ دور حزب الله في البلاد، الذي دفع بها إلى تعليق دعمها لحلفائها في لبنان، ولا سيما بعد وصول سلمان الى سدة الحكم في 23 يناير 2015، وانشغال ولي العهد محمد بن سلمان بتنفيذ أحلامه في مشاريع رؤية السعودية 2030.

أزمة الحريري 2017: بلغت التوترات الدبلوماسية بين السعودية ولبنان ذروتها في عام 2017، عندما أُجبر سعد الحريري، رئيس وزراء لبنان المدعوم من السعودية، على الاستقالة عبر قناة “العريبة” التابعة للسعودية أثناء زيارته للرياض. فُسِّرت استقالة الحريري على أنها تحدٍ مباشر لنفوذ حزب الله وإيران المتزايد في لبنان، رغم أنه عاد في النهاية إلى منصبه. أظهر هذا الحدث إحباط السعودية من الشلل السياسي لدورها في لبنان وكشف عن النفوذ المحدود للرياض في البلاد.

عودة السعودية إلى لبنان :

بعد أن بدا سقوط الأسد في سوريا وشيكًا (خاصة حوالي عام 2018)، بدأت السعودية في تنشيط دورها في لبنان، وإن كان بطريقة أكثر حذرًا واستراتيجية. يمكن فهم التحول في سياق العديد من التطورات في سوريا ولبنان:

1 ـ تنامي نفوذ محور المقاومة :

شعرت السعودية بالقلق إزاء القوة المتنامية لحزب الله في لبنان، خاصة أنه أصبح اللاعب الرئيس في محور المقاومة بقيادة ايران. إن دخول حزب الله المباشر في الأزمة السورية لمواجهة الجماعات المسلّحة التي أصبحت مصدر تهديد لسوريا ولبنان والعراق وبعض هذه الجماعات مدعوم من السعودية، عزز مكانة حزب الله كلاعب رئيسي في المنطقة. لذلك، ركزت السعودية بشكل متزايد على مواجهة نفوذ حزب الله في لبنان وفي بلاد الشام على نطاق أوسع.

 تأثير سوريا على لبنان:

مع تزايد تأكيد بقاء الأسد بعد الدعم الروسي والإيراني في الحرب السورية، أدركت السعودية أن لبنان يتأثر بشكل متزايد بالحرب الأهلية السورية وموطئ قدم إيران المتزايد هناك. يمكن النظر إلى انخراط السعودية المتجدد في لبنان على أنه محاولة لاستعادة النفوذ والحد من حزب الله على تشكيل مستقبل لبنان. يُنظر إلى دعم السعودية لأطراف مسيحية وسنيّة لبنانية على أنه وسيلة لتحدي هيمنة حزب الله ومواجهة محور المقاومة في لبنان والمنطقة.

ـ الدبلوماسية السعودية وعائلة الحريري:

كان الدعم الدبلوماسي والمالي الذي قدمته السعودية لسعد الحريري (الذي تربط عائلته علاقات طويلة الأمد بآل فهد) جانبًا رئيسيًا من محاولات السعودية للحفاظ على النفوذ في لبنان. وشهدت الانتخابات البرلمانية اللبنانية لعام 2018 ظهور “تيار المستقبل” الذي يتزعمه الحريري باعتباره القوة السياسية السنية المهيمنة في لبنان، واستمرت السعودية في دعمه في جهوده للتنقل عبر المشهد السياسي المعقد في لبنان.

ـ المساعدات المالية السعودية: استمرت المساعدات المالية إلى حلفاء السعودية في لبنان، على الرغم من أن هذا لم يتم الإعلان عنه بشكل كبير في السنوات الأخيرة. يساعد دعم الرياض في الحفاظ على تحالف سياسي مسيحي سني في لبنان يعمل كثقل موازن لقوة حزب الله.

المشهد السوري بعد الأسد:

على الرغم من الدور الرئيسي الذي لعبته السعودية في إعادة تعويم بشار الأسد منذ عام 2018، فإن سقوط الأخير المفاجىء في 8 ديسمبر 2024 أثار قلقًا شديدًا لدى حكام السعودية إزاء الدور التركي في سوريا بصفته الراعي الفعلي للإدارة الجديدة بقيادة زعيم هيئة تحرير الشام، أحمد الشرع (أبو محمد الجولاني).

وفي حين كان النفوذ المباشر للسعودية في سوريا محدودًا بسبب بقاء النظام، فقد استمرت في دعم “مجموعات المعارضة السورية” غير السلفية على أمل الحد من نفوذ محور المقاومة.

كان على السعودية أن تتحرك على نحو عاجل لاستدراك ما فاتها في التحوّل السوري المتسارع. وفيما أبدت تحفّظًا في الأيام الأولى، واكتفت بارسل رئيس الاستخبارات العامة خالد الحميدان، فإنها ما لبثت أن طوّرت مستوى التواصل مع دمشق الجديدة، واختارت “الاحتواء” كسياسة مع الإدارة الجديدة، وقدّمت دعوات الى قيادات هيئة تحرير الشام لزيارة المملكة، وقد لبّى وزير خارجية الادارة السورية الجديدة أسعد الشيباني الدعوة وزار الرياض برفقة وزير الدفاع ورئيس الاستخبارات العامة في الحكومة السورية الانتقالية.

لم يكن التعجيل بالانفتاح على قيادة سوريا الجديدة اجتهادًا معزولًا، بل بدا وكأن أمر عمليات صدر من واشنطن بضرورة المسارعة بالتواصل مع القيادة الجديدة، وقطع الطريق على تركيا لمنع استئثارها بالكعكة السورية.

إعادة الاصطفافات الإقليمية:

 قد يؤثّر الدفء الذي أحدثته السعودية مؤخرًا في علاقاتها مع الكيان الاسرائيلي، وخاصة في سياق “اتفاقيات إبراهيم”، على نهجها تجاه لبنان. وفي حين لم تقم السعودية بعد بتطبيع العلاقات مع إسرائيل بشكل كامل، فإن التحول في الديناميكيات الإقليمية قد يؤدي إلى إعادة ضبط السياسة السعودية في لبنان. وقد بدا واضحًا أن السعودية التي حضرت بكثافة في انتخاب الرئيس جوزيف عون وتاليًا انتخاب رئيس الحكومة نواف سلام بطريقة انقلابية في 13 يناير 2025، أنها قررت الدخول في صدام مباشر مع المقاومة في لبنان، مهما كانت العواقب.

السعودية التي لم تسجّل انتصارًا صافيًا لها في الملف السوري، على الرغم من محاولاتها الدؤوبة من خلال رعاية مؤتمرات إقليمية (لجنة الاتصالات الوزارية العربية في مدينة العقبة بالأردن في 14 ديسمبر 2024) ودولية (اجتماعات الرياض بشأن سوريا في 12 يناير 2025)، فإنها نجحت في احتكار المنجز اللبناني منفردة، مع أن هذا المنجز لم يكن ليتم من دون تفاهم مع الاميركي والاسرائيلي. وفي سياق تكامل البعد العسكري (الاسرائيلي) والبعد السياسي (السعودي) في الحرب على المقاومة في لبنان وبرعاية أميركية، فإن السعودية وجدت فرصة مناسبة لتحقيق حلمها بالانقضاض على محور المقاومة في الساحة اللبنانية.

آفاق النفوذ السعودي: (الفرص والفرص)

على مستوى الفرص، هناك الآتي:

مواجهة حزب الله: ترى السعودية بعد حرب اسرائيلية مدمّرة على لبنان فرصة لاستثمار المنجز العسكري الاسرائيلي المتخيّل “للحد من قوة حزب الله” في لبنان من خلال تعزيز دور حلفائها سواء في الوسط المسيحي (القوات اللبنانية والكتائب) أو السنيّة (نوّاف سلام والتكتل النيابي السني ونواب آخرون بمن فيهم المصنّفون على 8 آذار) ودعم التركيبة السياسية الجديدة بثنائي عون سلام والتي من شأنها الدخول في صدام مع الثنائي الشيعي أمل وحزب الله.

في لبنان، كانت السعودية منذ فترة طويلة لاعب فاعل ومؤثر، من خلال دعم حلفاء لها في الطائفتين المسيحية والسنيّة، في محاولة لمواجهة حزب الله والطائفة الشيعية عامة بدعوى الحد من النفوذ الإيراني. ومع ذلك، تعرض نفوذ الرياض للتحدي في السنوات الأخيرة، وخاصة مع اقترافها خطأ قاتلًا بتفتيت القوة الأكبر في الطائفة السنيّة، المتمثلة في تيار المستقبل، على خلفية خلاف شخصي بين محمد بن سلمان وسعد الحريري. في الواقع، إن احباط السعودية من حلفائها في لبنان يعود إلى سببين: الفساد المالي، إذ تحوّل كثير من حلفاء السعودية الى مجرد  محصّلين ماليين، والفشل في تلبية مطالب السعودية لا سيما إزاء محور المقاومة وحزب الله في لبنان. وهذا ربما يفسّر انخراط الرياض المباشر في الشأن اللبناني بعد سقوط بشار، في محاولة لقطع الطريق على التمدّد التركي ـ القطري وأيضًا استكمال ما يعتقده حكام السعودية بهزيمة حزب الله ومعه ايران ومحور المقاومة.

ـ النفوذ الاقتصادي: تظل قدرة السعودية على استغلال المساعدات المالية للبنان أداة فعالة على الرغم من حاجتها اليوم لمصادر تمويل مشاريع الرؤية المتعثرة. إن لبنان في حاجة ماسة إلى “الدعم الاقتصادي” بسبب “أزمته المالية” منذ عام 2019، وقد تقدّم السعودية قروضًا ربحية أو استثمارات في مقابل النفوذ السياسي، وخاصة في المناطق التي تتحدى هيمنة حزب الله.

المخاطر:

ـ قوة حزب الله: على الرغم من الخسائر الكبيرة التي تكبّدتها المقاومة في لبنان في العدوان الاسرائيلي خلال الفترة ما بين سبتمبر ـ ديسمبر 2024، فإن حزب الله لا يزال قوة فارقة في لبنان، وإن القدرة السعودية على تحديه شعبيًا وعسكريًا تبقى محدودة. وأي محاولات من جانب السعودية لإضعاف حزب الله من شأنها أن تؤدي إلى تصعيد “التوترات الطائفية” وزعزعة استقرار لبنان بشكل أكبر. في انقلاب السعودية على تفاهمات الثنائي مع الرئيس المنتخب جوزيف عون ومن قبله موفد السعودية يزيد بن فرحان على أساس تسهيل اعادة انتخاب نجيب ميقاتي ملحقًا بشروط: الانسحاب الاسرائيلي من لبنان، وإعادة الأسرى، وإعادة إعمار المناطق المهدّمة في الجنوب والبقاع والضاحية الجنوبية لبيروت، وأخيرًا التطبيق الصحيح لقرار 1701 من دون زيادة أو نقصان بدا واضحًا أن السعودية قرّرت اشعال حرائق في الداخل اللبناني على خلفية اقصاء الثنائي والانقلاب على كل التفاهمات أو ما وصفه رئيس كتلة الوفاء للمقاومة محمد رعد، بقطع اليد الممدودة.

الانقسامات اللبنانية الداخلية: النظام السياسي في لبنان مجزأ بشكل عميق على أسس طائفية، ونفوذ السعودية مقيد غالبًا بالسياسة اللبنانية الداخلية، وأي جهود مدعومة من السعودية لتغيير التوازن السياسي من شأنها أن تعمق الانقسامات وتساهم في “زيادة عدم الاستقرار”. إن المبتهجين بفوز مرشحي الولايات المتحدة والسعودية في رئاسة الجمهورية أو رئاسة الحكومة في لبنان لا يدركون خطورة الاقصاء السياسي في بلد منقسم طائفيًا، ليس لأن الاقصاء يتعارض مع الميثاقية الموجبة لمشاركة كل الأطراف بحسب اتفاق الطائف، ولكن لأنه يفجّر الدولة اللبنانية نفسها ويجعلها عاجزة عن توفير شروط الانسجام الوطني ونجاح المهمات التي من أجلها ولدت الحكومة.   

ثمة سؤال: هل المتغيّر السياسي في سوريا ولبنان يمكن أن ينعكس على منافسة بين السعودية وتركيا؟

الجواب: نعم، إن المنافسة بين السعودية وتركيا على النفوذ في “سوريا” و”لبنان” ليست ممكنة فحسب، بل إنها بالفعل حقيقة مستمرة، وخاصة في سياق طموحاتهما الإقليمية المختلفة وتحالفاتهما وتوجهاتهما الإيديولوجية. فكلا البلدين لديه مصالح استراتيجية في سوريا ولبنان، وينبع التنافس بينهما من عوامل جيوسياسية وطائفية وأيديولوجية أوسع نطاقًا. ومن المرجّح أن تشتد المنافسة في السنوات القادمة حيث تهدف كل من السعودية وتركيا إلى تأكيد نفوذهما في بلاد الشام في سياق الفرص المثالية التي وفّرها سقوط بشار في سوريا وخروج المقاومة الاسلامية في لبنان من حرب مدمّرة.

في الخلفيات، فإن السعودية دعمت تاريخيًا “جماعات المعارضة السنيّة” و”المتمردين” الذين يقاتلون ضد نظام بشار. إن تورّط السعودية في سوريا كان مدفوعًا إلى حد كبير برغبتها في “مواجهة النفوذ الإيراني”، الذي نما بشكل كبير في سوريا من خلال دعم نظام الأسد ووجود فصائل المقاومة المدعومة من إيران و”حزب الله”. وكما كانت السعودية قلقة بشأن توسع محور المقاومة في منطقة تهيمن عليها تقليديًا القوى السنية، فإنها اليوم تزداد قلقًا بشأن توسّع المحور التركي القطري الذي تنظر الرياض إليه على أنه تهديد أكبر من وصول الاخوان المسلمين الى سدة الحكم في مصر في 2012.

سوريًا، لا يزال من المبكر التنبؤ بالسياسة السورية، لناحية قدرة السعودية على التأثير في الشأن السوري. فالنظام السوري الجديد متحالف بشكل كبير مع تركيا وقطر، وفي حين تسعى السعودية إلى إعادة تأكيد نفوذها في المنطقة، فإن الوضع في سوريا لا يزال معقدًا. وقد تعوق الجهود السعودية للحد من النفوذ التركي والقطري في سوريا استمرار هذا النفوذ وتمدّده الى بلدان أخرى مثل الأردن ومصر بل وحتى السعودية نفسها ليست بمنأى عن المتغيّر الجديد في سوريا بلحاظ أن الطبقة الحاكمة في دمشق تتقاسم عقديًا وتيار عريض في المملكة.

ـ النفوذ التركي في سوريا ولبنان :

في سوريا، كان تورط تركيا مدفوعًا بهدف “تأمين حدودها الجنوبية” إزاء ما تصنّفها أنقرة الميليشيات الكردية. دعمت تركيا العديد من الجماعات المتمرّدة السورية، وخاصة تلك المتحالفة مع “الجيش السوري الحر” و”الائتلاف الوطني السوري”، وصولًا إلى هيئة تحرير الشام بهدف الإطاحة بالأسد وإنشاء حكومة “يهيمن عليها السنة”. ومع ذلك، لا تزال تركيا قلقة بشكل خاص بشأن المناطق التي يسيطر عليها الأكراد في شمال سوريا، والتي تحسبها تهديدًا لسلامة أراضيها. وقد أدى هذا إلى تدخلات عسكرية مباشرة في شمال سوريا، مثل “عملية درع الفرات” (2016) و”عملية غصن الزيتون”(2018). وفيما انشغل قادة سورية الجديدة بترتيب أوضاع الحكم في دمشق، كات السلطات التركية منخرطة في معالجة الملف الكردي وخصوصًا قوات سوريا الديمقراطية (قسد). وتعكس تصريحات أردوغان في 15 يناير 2025 بمطالبته الأكراد تسليم السلاح قلقًا خاصًا لدى أنقرة من المجموعات الكردية الانفصالية.

في لبنان، كان تورط تركيا أكثر دقة ولكنه متزايد، وخاصة في دعم الجماعات الاسلامية القريبة لفكر الإخوان المسلمين. وسعت إلى زيادة علاقاتها الثقافية والسياسية مع السكان السنّة في لبنان، وخاصة من خلال “المساعدات والبرامج التعليمية” و”الدبلوماسية الدينية” عبر مؤسسات مثل “ديانت التركية” (مديرية الشؤون الدينية). كما حاولت تركيا موازنة “حزب الله” من خلال الاستفادة من علاقاتها بالفصائل السنية في لبنان، على الرغم من أن وجودها كان أقل وضوحًا مقارنة بالمملكة السعودية.

العوامل الدافعة للمنافسة السعودية التركية :

1ـ الاختلافات الإيديولوجية:

على الرغم من انتماء السعودية وتركيا للمجال الإسلامي السنّي، فإن لدى كل منهما “توجّهات أيديولوجية” مختلفة جدًا. تلتزم السعودية بالإسلام الوهابي، وهو تفسير صارم للإسلام السني يؤكد على المحافظة والتقليدية، في حين تبنت تركيا، وخاصة في عهد الرئيس أردوغان، شكلاً أكثر براجماتية واعتدالًا من الإسلام السني، وهو أقل عقائدية وأكثر تركيزًا على الإسلام السياسي. تؤثر هذه الاختلافات على كيفية تعامل كلا البلدين مع الحركات السياسية السنية في المنطقة.

2 ـ دعم الحركات الإسلامية:

دعمت السعودية تقليديًا “الجماعات السُنية المحافظة”، أو المجموعات السلفيّة في كل من مصر والسودان وليبيا وتونس والمغرب وباكستان وأفغانستان وغيرها، ووظّفت هذه التحالفات في الترويج لخطابها السياسي والديني. على المقلب الآخر، كانت تركيا، وخاصة في عهد أردوغان و”حزب العدالة والتنمية”، أكثر ميلًا إلى دعم “الفصائل الإسلامية” ذات الطابع “السياسي البراجماتي” مثل “جماعة الإخوان المسلمين” في مصر وتونس واليمن وسوريا، أو “الجماعات القومية الإسلامية” في سوريا ولبنان. يخلق هذا الانقسام الأيديولوجي منافسة على النفوذ على الحركات السياسية السُنية في كلا البلدين.

3 ـ التنافس الطائفي:

يسعى السعوديون والأتراك إلى مواجهة نفوذ “إيران”، لكن أساليبهما تختلف. ركزت السعودية على  مواجهة ما تسميه “نفوذ إيران الشيعي” في سوريا ولبنان، وخاصة من خلال دعمها لجماعات المعارضة السُنية والفصائل السياسية. إن تركيا، على الرغم من حذرها من الوجود الإيراني المتزايد في سوريا، لديها علاقة أكثر تعقيدًا مع إيران ولا تتبنى نهجًا طائفيًا صارمًا. لقد انخرطت تركيا في تعاون دبلوماسي مع إيران في سياقات مختلفة، وخاصة في سوريا، حيث وجد كلا البلدين أرضية مشتركة في معارضتهما للحكم الذاتي الكردي. وكانت تركيا وإيران إلى جانب روسيا بصدد التوصّل إلى ترتيبات بين النظام السابق والمعارضة قبل سقوط بشار، على أساس تقاسم السلطة ولكن الانهيار السريع لجيش النظام جعل من أي ترتيبات غير ذات جدوى.

المصالح الجيوسياسية والاستراتيجية :

تُعَد سوريا ساحة معركة رئيسية، وأن المنافسة على النفوذ هناك شرسة. بالنسبة إلى السعودية، تُعَد سوريا جبهة حاسمة في تنافسها مع إيران لسنوات طويلة، حيث عززت القوات المدعومة من إيران (بما في ذلك حزب الله) نظام الأسد وانتقل التجاذب بعد سقوط بشار إلى تركيا الراعي الرسمي للنظام السوري الجديد. سعت السعودية إلى التحالف مع جماعات المعارضة السُنية السورية لإضعاف نظام الأسد والحد من نفوذ إيران في بلاد الشام، وبعد سقوط الأسد أصبحت أمام واقع جديد يفرض عليها التعامل معه والإفادة منه قدر الإمكان للحؤول دون استفراد تركيا وقطر “بالصيدة” السورية، بحسب وصف رئيس وزراء قطر السابق حمد بن جاسم.

بالنسبة إلى تركيا التي كانت لها أولوية قصوى تتمثل في المسألة الكردية، وخاصة قوات سوريا الديمقراطية (قسد)، التي تعدّها تركيا امتدادًا إرهابيًا لحزب العمال الكردستاني، فإنها اليوم تتعامل مع سوريا بكامل أجزائها كمجال نفوذ واسع النطاق اقتصاديًا وسياسيًا وأمنيًا وعسكريًا وثقافيًا.

 كان تركيز تركيا ينصب أكثر على إدارة الوجود الكردي في شمال سوريا وتأمين حدودها الجنوبية من الميليشيات الكردية، وتهدف التدخلات العسكرية التركية ودعم الجماعات المتمردة في شمال سوريا إلى احتواء الحكم الذاتي الكردي والحد من نفوذ إيران في المنطقة. ولكنها اليوم باتت اللاعب الرئيسي في الملف السوري وهذا ما يجعلها منافسًا لأطراف أخرى تنظر إلى سوريا كجزء من أمنها القومي مثل الاردن والعراق ومصر والسعودية..

العلاقات الأمريكية والغرب :

كل من السعودية وتركيا حليفان مهمان للولايات المتحدة، لكن علاقاتهما مع واشنطن “معقدة”. تتمتع السعودية بتحالف طويل الأمد مع الولايات المتحدة وخاصة فيما يتعلق “بالنفط” و”التعاون الأمني” و”استراتيجيتها لمحاربة إيران”. على الرغم من كونها عضوًا في حلف شمال الأطلسي، فإن علاقات تركيا مع الولايات المتحدة كانت متوترة بشكل متزايد بسبب “الخلافات حول سوريا”، و”القضية الكردية”، والعلاقات المتنامية بين تركيا و”روسيا” (خاصة بعد شراء “نظام الدفاع الصاروخي إس-400”).

 ـ في عهد ترامب أدّى “الانسحاب الأمريكي” من أجزاء من سوريا، إلى خلق “فراغ في السلطة” حاولت كل من السعودية وتركيا ملؤه، مما أدى إلى المزيد من المنافسة في المنطقة. ومع تقليص الولايات المتحدة لنفوذها، يتنافس البلدان على ممارسة المزيد من السيطرة على سوريا ولبنان، غالبًا مع “مصالح متنافسة”.

مستقبل التنافس السعودي التركي:

نظرًا للمصالح المتنافسة في سوريا، فإن التغييرات الدراماتيكية بعد سقوط النظام والدور الرعايوي التركي للإدارة السياسية الجديدة، فمن المرجح أن تستمر “المنافسة” بين البلدين. وبعد سقوط الأسد ومتوالياته فإن أهدافهما المحدّدة في سوريا تتباعد، مما يؤدي إلى “صراعات مصالح” محتملة في القادم من الأيام.

ثمة مؤشرات تفيد بمساعي ثنائية وثلاثية (مع إضافة الادارة السياسية الجديدة في سوريا) من أجل تنظيم المصالح ومنع التصادم، كما يظهر في لقاء أنقرة في منتصف يناير 2025 بين وزير الخارجية التركي هاكان فيدان ونائب وزير الخارجية السعودي وليد الخريجي والذي تناول الملف السوري بدرجة أساسية.

فهل ثمة إمكانية للتعاون بين الرياض وأنقرة على الرغم من المنافسة بينهما؟ المؤشرات تفيد بأن هناك إمكانية لـ “تعاون محدود” بين السعودية وتركيا في سوريا، وخاصة في المناطق التي تتوافق فيها مصالحهما، وقد يؤدي هذا إلى “تعاون تكتيكي” وعابر، فيما تنظر تركيا إلى أنها صانعة المنجز السوري وباتت لها أفضلية في كل شيء، ولم تعد القضية محصورة في الشمال السوري أو في الملف الكردي، بل تتحدث اليوم عن مصالح استراتيجية.

وفي الخلاصات: من المرجح أن تستمر المنافسة بين السعودية وتركيا في سوريا ولبنان وقد تشتد في السنوات القادمة. وفي حين تتقاسم الدولتان مصلحة مشتركة في مواجهة نفوذ إيران والحفاظ على توازن الأغلبية السنية في المنطقة، فإن اختلافاتهما الطائفية والإيديولوجية والاستراتيجية تخلق مسارات وأولويات مميزة في هذه البلدان. ​​تظل السعودية القوة المهيمنة في لبنان، لكن النفوذ التركي المتزايد في كل من لبنان وسوريا يمثل تحديًا للهيمنة الإقليمية للرياض. وسيعتمد مستقبل المنافسة السعودية التركية على تطور الديناميكيات الإقليمية، والتحالفات الخارجية، وتوازنات القوة المتغيرة في كل من سوريا ولبنان.

التحاصص السعودي التركي:

تستغل الرياض التحفّظ العربي والغربي (الأوروبي والأميركي) إزاء تركيا وتطلعاتها في المنطقة، لتثبيت مكانتها كممثل عربي وغربي. السعودية التي تتزعم تمثيل العرب والمسلمين، تحمل نظرة موحدة إزاء تركيا وايران وإن كان وفق معيارين مختلفين: الأول تاريخي وجيوسياسي واستراتيجي والثاني طائفي واستراتيجي. كان سعود الفيصل قد ردّ على وزير الخارجية الايراني الأسبق جواد ظريف حين اقترح عليه التعاون في ملفات المنطقة وخصوصًا القضية الفلسطينية، كان جوابه أن فلسطين قضية عربية، بمعنى أن ايران لا حق لها في هذه القضية. وينسحب الأمر على كل قضايا العرب، وسوف يطبق المعيار القومي ذاته على تركيا، التي ينظر إليها على أنها تتدخل في الشأن العربي، في حال تعاملت مع سوريا على نحو يجعل الأخيرة مجال نفوذ حصري لها. إن رد أردوغان على من يريد “تخريب أواصر الإخوة بين تركيا وسوريا” في كلمة له في اجتماع الكتلة النيابية لحزب العدالة والتنمية في 15 يناير 2025 ليس موجهًا للغرب فقط بل وللعرب أيضًا، فهو يتحدث عن دولة جارة تشترك معها بحدود بطول 911 كيلومترًا، وهذا يجعلها أكبر دولة جارة لسوريا.

على اية حال، فإن السعودية سوف تعمل بكل جد من أجل حجز حصة وازنة لها في الكعكة السورية، وهذا ما عكسته دعوات قادة الإدارة السياسية الجديدة في سوريا لزيارة المملكة، أو من خلال تنظيم اجتماعات لمناقشة الشأن السوري، أو حتى تنظيم قوافل المساعدات الإنسانية (لأغراض سياسية).

بدعوة من وزير الخارجية السعودي فيصل بن فرحان، واستكمالًا لاجتماعات وزارة سابقة من بينها اجتماع مدينة العقبة في 14 ديسمبر 2024، عقد اجتماع في 12 يناير 2025م، في مدينة الرياض بحضور وزراء خارجية وممثلي عدد من الدول الخليجية والعربية والغربية وأمناء عامين لمنظمات خليجية وعربية ودولية  ومبعوث الأمم المتحدة الخاص لسوريا. هو اجتماع أرادت السعودية منه استعراض قوتها وقدرتها في حشد الاقليمي والدولي خلف أجندتها السياسية. هذه الأجندة التي تجسدت في البيان الختامي، حيث تعمّد التأكيد على “بناء سوريا دولة عربية موحدة، مستقلة آمنة لكل مواطنيها، لا مكان فيها للإرهاب، ولا خرق لسيادتها أو اعتداء على وحدة أراضيها من أي جهة كانت”. وهذه الفقرة تنطوي على دلالات غاية في الأهمية، من بينها الهوية العربية لسوريا بما يرسم حدودًا بين سوريا وما عداها من الدول غير العربية، وأن تكون خالية من التنظيمات الارهابية وهذا ما تخشى منه السعودية والاردن ومصر والعراق والتأكيد على وحدة الأراضي السورية ليس المقصود بها إدانة الاحتلال الاسرائيلية لمناطق سورية فحسب، ولكن يشمل أيضًا كل الاحتلالات بما في ذلك الاحتلال التركي والاميركي..

كما لفت الاجتماع الى “الانتقال السياسي” في سوريا بما يضمن تمثيل كل القوى السياسية والاجتماعية السورية بما يمنع احتكار مكوّن سياسي للسلطة، وهذا أيضًا يلمز في قناة تركيا الراعية للإدارة السياسية الجديدة التي تحتكر السلطة ممثلة في هيئة تحرير الشام. كما لفت بيان الاجتماع إلى أن “مستقبل سوريا هو شأن السوريين”، وهذا أيضًا يحيل إلى كلام للرئيس التركي أردوغان الذي تحدّث في الأيام الأولى بعد سقوط بشار عن المساهمة الشاملة في تطوير البنية التحتية والدخول في شراكة استراتيجية شاملة بين تركيا وسوريا.

وأشاد بيان الاجتماع بطمأنة الإدارة السورية الجديدة  الدول المجاورة “وألا تكون سوريا مصدر تهديد لأمن واستقرار دول المنطقة”، وهذه الفقرة جوهرية لناحية القلق الذي لا يزال يسيطر على دول المنطقة لكون الجماعة الحاكمة في سوريا تنتمي الى شبكة القاعدة، ومهما بدّلت في لهجتها تبقى مصنّفة على التنظيمات السلفية المسلحة التي تمثل الضد النوعي بالنسبة إلى السلفية السعودية.

في كل الأحوال، فإنّ السعوديّة التي انكفأت على نفسها لسنوات طويلة، وجدت في المتغيّر السوري حافزًا على التحرّك لاقتناص الفرص، خصوصًا وأنّ هذا المتغيّر تزامن مع متغيّر لبناني على وقع الحرب المدمّرة التي شنها الكيان الاسرائيلي وأرادت السعودية قطف ثمار العدوان وتسييله سياسيًا في الداخل اللبناني وأن تحتكر صناعة السياسة في لبنان من خلال فرض مرشح لرئاسة الجمهورية وآخر لرئاسة الحكومة، وبطريقة استفزازية، وكأنها تقول لحلفائها في الداخل لم يعد هناك بد من الدخول المباشر بعد أن فشلتم في إدارة حرب الوكالة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى