مودة اسكندر

إلى أين تتجه المنطقة؟
هذا هو السؤال المحوري اليوم. تعيش المنطقة مرحلة جديدة بعد انتهاء العدوان الإسرائيلي على لبنان، وذلك بموجب اتفاق هدنة تم برعاية أميركية. وقد تزامن هذا مع سيطرة ما يُسمى بـ”المعارضة السورية” المسلحة على النظام في سوريا، مما أسفر عن انتهاء مرحلة حكم الرئيس السابق بشار الأسد. كما تزامن مع الحديث عن مفاوضات جديدة لإنهاء العدوان على غزة، بوساطة تشارك فيها كل من قطر وتركيا هذه المرة.
ما زالت الأحداث تتسارع بشكل مستمر، ومعها يدخل مستقبل المنطقة في دائرة من المجهول. من هو الخاسر ومن هو الرابح؟ أسئلة يصعب الجزم بإجاباتها في الوقت الراهن. ومع ذلك، من المؤكد أن هناك سعيًا أميركيًا – إسرائيليًا لإعادة تشكيل المنطقة وفرض مشروعهما القديم المسمى بـ”الشرق الأوسط الجديد”.
إنها بداية تحولات جيوسياسية في الشرق الأوسط، فما هو موقف دول الخليج من هذه التطورات؟ وأي اتجاه سيتخذه الطرف السعودي في التعامل مع هذه الملفات؟
الموقف السعودي من التطورات السورية:
في خطابه عشية إعلان وقف إطلاق النار مع لبنان في 26 نوفمبر 2024، حذر رئيس وزراء الكيان الإسرائيلي بنيامين نتنياهو الرئيس السوري بشار الأسد من “اللعب بالنار” بعد تصريحاته التي قال فيها إن “إسرائيل غيرت وجه الشرق الأوسط”. وقد اعتُبر هذا الخطاب بمثابة إشارة لانطلاق الهجوم المنسق من الفصائل المسلحة ضد الحكومة السورية.
التحركات التي بدأت من حلب سرعان ما امتدت إلى باقي المحافظات دون مواجهات تذكر، فسقطت المحافظات واحدة تلو الأخرى بيد التنظيمات المسلحة التي قادتها “هيئة تحرير الشام” بقيادة أحمد الشرع، الاسم غير المعروف لمؤسس تنظيم “جبهة النصرة” الإرهابي المعروف بأبي محمد الجولاني، الذي كان أيضًا عضوًا سابقًا في تنظيم داعش التكفيري. ومن حلب إلى إدلب، مرورًا بحما ودرعا والسويداء، تسارعت وتيرة السقوط بشكل مفاجئ. وفي اليوم الثاني عشر من تحرك الفصائل التي أُطلق عليها اسم “المعارضة السورية”، وصلت الجموع المسلحة إلى دمشق، ودخلتها في استعراض إعلامي أكثر منه عسكري، معلنةً بذلك انتهاء حقبة حكم آل الأسد.
اليوم، تدخل سوريا في نفقٍ مجهول، وسط مخاوف يطرحها السوريون بشأن مصير بلادهم. فالتحرك الذي بدأ بإشارة من نتنياهو، ودعمٍ من فصيل مسلح تدعمه وترعاه تركيا، التي لها حساباتها ومصالحها الخاصة، وتؤيده أميركا، يثير القلق من أن يؤدي إلى قيادة البلاد إلى حلقة جديدة من الفتنة والإرهاب تحت شعار “المد الإسلامي”.
هذه التحولات المتسارعة تركت آثارها على المتابعين للمشهد السوري، وفي مقدمتهم السعودية، التي تصالحت مؤخرًا مع سوريا بقيادة الأسد. فكيف كان مسار تعاملها مع هذه التطورات؟
ـ 29 نوفمبر 2024: تم اتصال جمع وزيري الخارجية السعودي فيصل بن فرحان والسوري بسام صباغ، جرى خلاله مناقشة مستجدات الأوضاع في المنطقة والجهود المبذولة بشأنها.
ـ7 ديسمبر 2024: وزير الخارجية فيصل بن فرحان يشارك في اجتماع وزراء خارجية الأردن والعراق وقطر ومصر مع دول مسار أستانا بشأن سوريا (التي تضم إيران وتركيا وروسيا)، بحضور المبعوث الخاص للأمم المتحدة إلى سوريا غير بيدرسون، على هامش منتدى الدوحة 2024. بحث الاجتماع التطورات على الساحة السورية، وحثت الدول الراعية لمسار أستانا على الحوار بين الحكومة السورية والمعارضة.
ـ 8 ديسمبر 2024: وزارة الخارجية السعودية تقول في بيان إنها تعرب عن ارتياحها للخطوات الإيجابية التي تم اتخاذها لتأمين سلامة الشعب السوري الشقيق وحقن الدماء والحفاظ على مؤسسات الدولة السورية ومقدراتها. وتدعو إلى تضافر الجهود للحفاظ على وحدة سوريا وتلاحم شعبها، كما تدعو إلى مساندة سوريا لتجاوز ويلات سنوات طويلة راح ضحيتها مئات الآلاف من الأبرياء والملايين من النازحين والمهجرين، وعاثت خلالها الميليشيات الأجنبية الدخيلة لفرض أجندات خارجية.
ـ 9 ديسمبر 2024: وزارة الخارجية السعودية ترى في بيان أن اعتداءات حكومة الاحتلال الإسرائيلي عبر الاستيلاء على المنطقة العازلة في هضبة الجولان، واستهدافها للأراضي السورية، تؤكد عزم إسرائيل تخريب فرص استعادة سوريا لأمنها واستقرارها ووحدة أراضيها.
ـ 11 ديسمبر 2024: وزير الخارجية السعودي فيصل بن فرحان يبحث مع المبعوث الأممي إلى دمشق غير بيدرسون مستجدات الأوضاع في سوريا خلال اتصال هاتفي.
ـ 12 ديسمبر 2024: السعودية وبريطانيا تؤكدان على ضرورة الحفاظ على مؤسسات الدولة السورية ودعم الشعب، وتدعوان في بيان مشترك في ختام زيارة أجراها رئيس الوزراء البريطاني كير ستارمر للمملكة “إلى الوقوف بجانب الشعب السوري والتعاون معه وتقديم الدعم في هذه المرحلة المحورية”.
ـ 13 ديسمبر 2024: رفع “علم الثورة السورية” على مبنى السفارة السورية في العاصمة السعودية الرياض، والسفير السوري لدى السعودية أيمن سوسان يقول “إن عهداً جديدًا قد بدأ في تاريخ بلاده”.
ـ 14 ديسمبر 2024: وزير الخارجية فيصل بن فرحان يشارك في الاجتماع الموسع لوزراء خارجية لجنة الاتصال العربية بشأن سوريا (المكونة من السعودية والأردن والعراق ولبنان ومصر)، بمشاركة وزراء خارجية الإمارات والبحرين وقطر وتركيا وأميركا وفرنسا في مدينة العقبة الأردنية. ناقش الاجتماع سبل دعم العملية السياسية الانتقالية في سوريا بما يضمن أمنها ووحدة أراضيها.
ـ 23 ديسمبر 2024: وفد سعودي برئاسة مستشار في الديوان الملكي السعودي يلتقي أحمد الشرع، القائد العام للإدارة السورية الجديدة في قصر الشعب في سوريا.
ـ 26 ديسمبر 2025: أكدت وزارة الخارجية السعودية أن مواصلة العمليات العسكرية الإسرائيلية في سوريا تعد إمعانًا في تخريب فرص استعادة سوريا لأمنها واستقرارها، وأدانت في الوقت ذاته توغل قوات الاحتلال الإسرائيلية في الجنوب السوري.
ـ 31 ديسمبر 2025: واس: مجلس الوزراء السعودي يؤكد على أهمية احترام سيادة سوريا واستقلالها ورفض التدخلات الأجنبية في شؤونها.
ـ 02 يناير 2025: وزير الدفاع خالد بن سلمان يعقد مباحثات في الرياض مع وفد وزاري من دمشق يضم وزير الخارجية ووزير الدفاع ورئيس جهاز الاستخبارات في الإدارة السورية الجديدة. كما يستقبل وزير الخارجية السعودي وزير خارجية الإدارة السورية الجديدة ويستعرضان مستجدات الوضع الراهن في سوريا.
وتزامنًا مع لقاء مع وزير الشؤون الاجتماعية في الإدارة السورية الجديدة، يعلن مركز الملك سلمان للإغاثة عن بدء التسجيل في برنامج “أمل” التطوعي السعودي في سوريا.
ـ 12 يناير 2025: شهدت العاصمة السعودية الرياض، الأحد، انطلاق اجتماع عربي دولي بشأن الوضع في سوريا، بعد اجتماع وزاري لـ11 بلدا عربيا ناقش الأوضاع في سوريا، بمشاركة وزير الخارجية في الإدارة السورية الجديدة أسعد الشيباني. وقد طالبت الرياض برفع العقوبات عن سوريا، والبدء عاجلاً بتقديم جميع أوجه الدعم الإنساني والاقتصادي.
لا شك أن مسار الموقف الرسمي السعودي شهد تحولًا منذ بداية الأحداث في سوريا وحتى رحيل النظام الحاكم بقيادة الأسد. إلا أن رصد هذا الموقف وتحليله يحتاج إلى العودة قليلًا إلى الوراء لفهم الدور السعودي في الأزمة التي أوصلت سوريا إلى ما هي عليه اليوم:
أولًا: التدخل السعودي في الأزمة السورية.
“احنا تهاوشنا على الصيدة، وفلتت الصيدة وإحنا قاعدين نتهاوش عليها”، تعبر هذه المقولة، التي اشتهرت عن رئيس الوزراء القطري السابق حمد بن جاسم، عن خلاصة التدخل الخارجي في الشأن السوري منذ عام 2011. وفي هذه التصريحات، اعترف بن جاسم بالتورط السعودي القطري في الملف السوري بالتنسيق مع واشنطن وأنقرة، وتضمنت تقديم الدعم لفصائل مسلحة، بما في ذلك جبهة النصرة الإرهابية.
لكن العلاقات السعودية السورية لم تكن في أحسن حالاتها قبل هذا التاريخ. إذ شهدت العلاقات بين الطرفين مطبّات في مراحل مختلفة، ولا سيما عقب تسلم بشار الأسد الحكم عام 2000 بعد رحيل والده حافظ الأسد، ومردّ ذلك التباين في ملفات عدة في المنطقة، من بينها الحرب على العراق عام 2003، والأزمة اللبنانية عام 2005، وعدوان تموز 2006، وصولًا إلى التحوّل الأكبر في هذه العلاقات مع اندلاع الأزمة السورية عام 2011.
خلال هذه الأزمة، برز الدور السعودي بشكل كبير بعدما انخرطت الرياض في دعم الجماعات التي أعلنت تحركها عسكريًا لإسقاط “نظام الأسد”، وهو مطلب كانت تدعمه دول خليجية عدة. فدعمت المملكة فصائل مسلحة عدة، بعضها إرهابي، ويستمد تعاليمه من الفكر الوهابي التكفيري الذي ترعاه الرياض. وهو ما أشار إليه الأسد صراحة بالقول إن “مصدر أيديولوجيا داعش وغيره من التنظيمات المرتبطة بالقاعدة هو الوهابيون الذين تدعمهم العائلة المالكة السعودية”.
في المقابل، لم تخفِ السعودية تدخلها في الشأن السوري، وقد أقر وزير خارجيتها السابق سعود الفيصل بأن بلاده تدعم “المعارضة السورية المعتدلة” وتحارب “الجماعات الإرهابية”، متهمًا الأسد بأنه “الراعي الأول للإرهاب في سوريا”، وأنه فاقد الشرعية ولا دور له في مستقبل بلاده.
ارتبطت نشأة الفكر التكفيري بالمدرسة الوهابية التي صنعته وغذته وصدرته السعودية إلى العالم. وقد تبنت الجماعات التكفيرية التي حاربت في سوريا هذا الفكر، واستمدت تعاليمها منه، فكان القتل باسم الدين. إلا أن الدور السعودي كان أعمق من مجرد توريد الدعاة المنظّرين لهذه الجماعات، إذ عملت أيضًا على تمويل ودعم وتسليح منظمات صنفت كإرهابية دوليًا.
تولى الأمير بندر بن سلطان متابعة الدور السعودي في الأزمة السورية، بمنصبه الرسمي آنذاك كرئيس للاستخبارات العامة، وقد أشرف على تنفيذ الأجندة الرسمية السعودية من خلال العمل على مسارين:
• الأول: وهو الموقف العلني، ممثلاً بمعارضة الانخراط في الأزمة السورية والتحذير من خطر تقديم الدعم عسكريًا من خلال السفر للقتال فيها أو ماديًا من خلال جمع التبرعات. وقد تولى كبار دعاة المملكة الترويج لهذا المسار من خلال فتاوى “غب الطلب”.
• الثاني: وهو الموقف المخفي، من خلال تصدير المقاتلين بعد تدريبهم، ومد الجماعات التكفيرية بالمال والعتاد، وحشد كل الإمكانيات لإبقاء نيران الأزمة مشتعلة.
صدّرت السعودية فكرها التكفيري لهذه الجماعات، وكان من أبرز منظريها عبد الله محمد المحيسني، الذي درس الوهابية في جامعة محمد بن سعود في الرياض، وقد نفر إلى سوريا وعمل على توجيه النداءات للشباب للانضمام إلى “الجهاد في بلاد الشام”. أما على صعيد المقاتلين، فبحسب المعطيات المتاحة، شارك على مدى سنوات أكثر من 12 ألف سعودي في القتال في سوريا، بلغ عدد القتلى في صفوفهم نحو 3800، وهو الأعلى من بين القتلى الأجانب في سوريا، وفقد ما يقارب 2500 عنصراً، وهو أيضاً الأعلى من بين المفقودين الأجانب. وإلى جانب دعمها للجماعات التكفيرية مثل داعش والقاعدة وجبهة النصرة، دعمت السعودية فصائل مسلحة مختلفة من أبرزها “الجيش السوري الحر”، “الائتلاف الوطني السوري”، “الجبهة الإسلامية”، و”جيش الإسلام” الذي مولته وسلحته الرياض حتى بات يُعد تنظيمًا سعوديًا أكثر منه سوريًا. هذا الدعم السعودي تحدث عنه السفير الأميركي في كوستاريكا كيرتن ويندزور في دراسة بعنوان “السعودية، الوهابية وانتشار الفاشية اللاهوتية السنية” كشف فيها عن أن السعودية أنفقت على الأقل 87 مليار دولار لنشر الوهابية في الخارج خلال العقدين الماضيين.
“جاء تنظيم داعش كمشروع سياسي – ديني ينتمي للوهابية عقيدة ومشروعًا سياسيًا فوق قطري وفوق قومي، ليجدد إحياء الحلم الوهابي بالعودة إلى تعاليم الجيل المؤسس ومشروعه”، بحسب ما يختصر الكاتب سعد الشريف. لكن ما حدث هو أن التنظيم ترعرع خارج حدود السعودية وسيطرتها، وبات يهدد مشروعية الدولة بعد أن تخلى عن مشروعه الأصلي في تجسيد حلم الوهابية الأول.
تزامن كل هذا الدعم للجماعات المقاتلة مع اهتمام الرياض في إيجاد فصيل سياسي يمكنه أن يدير المرحلة المقبلة في البلاد. من هنا، استضافت المملكة في عام 2015 مؤتمرًا للمعارضة السورية، ثم استضافت “مؤتمر الرياض 2” في عام 2017، قبل أن تعلن في العام نفسه وقف الدعم العسكري السعودي “للمعارضة السورية”.
ومع فشل فرض الرياض السيطرة على هذه الجماعات المتناحرة والمتباينة في التوجهات والمشاريع، توصل السعوديون إلى نتيجة مفادها أن المقاتلين من جنسيات متعددة في سوريا سيصبحون مصدر تهديد أكبر للمملكة وحكومات العالم العربي، وأنه لابد من التعامل معهم قبل أن يصبح الوضع أكثر سوءًا. هذا الخطر الخارج عن السيطرة السعودية ساهم في التحول في الاستراتيجية السعودية تجاه سوريا، وبدأ من قرار استبعاد بندر بن سلطان من إدارة الملف السوري وتسليمه إلى محمد بن نايف، وزير الداخلية آنذاك. وبعد انتهاء التدخل العسكري، استمرت القطيعة بين الحكومتين، مع بوادر لتحسن العلاقات خلال السنوات الأخيرة.
ثانيًا: كرونولوجيا عودة العلاقات.
كان للمصالحة السعودية – الإيرانية آثار إيجابية على ملفات أخرى في المنطقة، أبرزها ملف العلاقات السعودية – السورية. المصالحة التي تمّت بوساطة مع الصين في مارس 2023، وجاءت مفاجئة في شكلها وتوقيتها، كانت بداية لسلسلة مصالحات متتالية عكست التوجه السعودي الجديد نحو تصفير الأزمات وإنهاء سياسة الحروب والتصعيد السعودي مع دول المنطقة والإقليم.
عودة العلاقات بين السعودية وسوريا أتت على مراحل تدريجية، كان أبرزها الإعلان السعودي الرسمي عن القناعة التي وصلت إليها قيادة المملكة من أن لا حل للأزمة السورية سوى الحل السياسي. وكان ذلك في تصريحات عدة بدأ الترويج لها منذ العام 2020، مع تأكيد وزير الدولة للشؤون الخارجية عادل الجبير أن إعادة العلاقات مرهونة بتقدم العملية السياسية في سوريا، وتأكيد المندوب السعودي لدى الأمم المتحدة عبد الله المعلمي أن العلاقات يمكن أن تعود في أي لحظة وفي حال تم التوافق بين الشعب السوري على مستقبل البلاد. وفي مقدمة للانفراج في العلاقات، كان اللقاء الأول المعلن بين رئيسي مخابرات البلدين في مايو 2021، في زيارة التقى خلالها الوفد السعودي الرئيس السوري، وأتى بعد أسبوعين من لقاء سعودي إيراني عقد في العاصمة العراقية. وفي مايو 2021، كانت أول زيارة رسمية لوفد سوري إلى الرياض بعد 10 سنوات، للمشاركة في مؤتمر حول السياحة.
كان للزلزال المدمر الذي ضرب سوريا وتركيا ارتدادات على العلاقات بين دمشق والرياض. فمن بوابة المساعدات الإنسانية، كسرت السعودية جليد العزلة المفروضة على سوريا، فيما كانت التصريحات تتوالى عن الحاجة إلى نهج جديد تجاه سوريا و”بداية تشكيل إجماع عربي بشأن عدم جدوى عزل سوريا عن محيطها العربي”، وذلك من بوابة “معالجة المسائل الإنسانية بما في ذلك عودة اللاجئين”. ومع التحولات السعودية المتتالية في السياسات الخارجية، حمل العام 2023 تحرك المملكة نحو تصفير الأزمات، ومن بين ذلك إعادة العلاقات مع دمشق. ففي فبراير 2023، أجرى وزير الخارجية السوري فيصل المقداد جولة على دول عربية شملت السعودية، ثم كان لقاء وزير الخارجية فيصل بن فرحان بالرئيس الأسد في أبريل 2023. وفي 7 مايو 2023، قررت جامعة الدول العربية استئناف مشاركة وفود الحكومة السورية في اجتماعاتها، وذلك بعد 12 عامًا من تعليق عضويتها. تلى ذلك بأيام، إعلان البلدين استئناف عمل بعثاتهما الدبلوماسية بعد أكثر من عقد من إغلاق السفارات. وفي 19 مايو 2023، وصل الرئيس الأسد إلى جدة، متحدثًا في اجتماع القمة العربية عن فرصة تاريخية لإعادة ترتيب الشؤون العربية، ثم كانت مشاركته الثانية في نوفمبر 2023 في القمة العربية الطارئة في الرياض حول العدوان الإسرائيلي على غزة. في مايو من هذا العام، عينت السعودية فيصل بن سعود المجفل سفيرًا لديها في سوريا، وأعلنت في سبتمبر 2024 إعادة افتتاح أعمالها في العاصمة دمشق.
• حسابات إعادة التموضع:
بعد أعوام من التوتر بين البلدين، بدأت العلاقات السعودية – السورية تشهد كسرًا للجليد وإن بخطى بطيئة. جولات من المباحثات ذات الطابع الأمني بدأت منذ عام 2019. ومع حلول عام 2021، كان مسار عودة العلاقات يتخذ بعدًا سياسيًا أكثر جدية مع قناعة سعودية بالحل السياسي كسبيل وحيد للأزمة. وهو ما ظهر في تصريحات لمسؤولين سعوديين، أكدوا فيها على ضرورة عودة سوريا إلى الحضن العربي. وكان للمصالحة الإيرانية السعودية أثرها المباشر على عودة العلاقات مع دمشق، مع الاتفاق بين البلدين على عودة الخدمات القنصلية المتبادلة، رغم الرسائل الأميركية للدول التي استعادت علاقاتها مع سوريا، التي دعت إلى فرملة الانفتاح على دمشق وقرار واشنطن بتشديد قانون العقوبات الأميركية “قيصر”.
شهدت السنوات الأخيرة تراجع الرياض عن سياسة الأزمات التي كانت تنتهجها، وتراجعها عن شروط وتهديدات كانت قد أطلقتها تجاه دول في المنطقة. فمن تهديد إيران، إلى مقاطعة قطر، وشن العدوان على اليمن، والتدخل في الأزمة السورية، سياسات عدوانية تعاملت بموجبها الرياض لسنوات عدة، لكنها بدأت تتراجع عنها تدريجيًا في مراجعة لسياساتها الخارجية.
في الملف السوري، استأنفت السعودية علاقاتها مع سوريا متخلية عن الشروط التي كانت قد فرضتها للقبول بعودة العلاقات، وفي مقدمتها رحيل الأسد عن السلطة، ومحاكمة “مجرمي الحرب”، وتطبيق القرار 2254 المتعلق بالتسوية السياسية.
فما هي الحسابات التي دفعت الرياض إلى إعادة التموضع تجاه الحكومة السورية؟
1. سياسة تصفير الأزمات مع المحيط والانكفاء نحو الداخل.
2. الحاجة إلى الاستقرار لإنجاح رؤية 2030 الاقتصادية لتنويع الاقتصاد.
3. تراجع النفوذ الأميركي في المنطقة وعدم إمكانية الاعتماد عليه في الحماية.
4. التحوّل شرقًا وتنويع مروحة العلاقات الخارجية.
5. تأمين حدود المملكة من أي تصعيد في المنطقة قد يوصل شرارات المواجهة إليها.
6. فشل مشروع إسقاط النظام واستعادة الحكومة لمناطق واسعة من سيطرة الفصائل المدعومة.
7. إعادة ترشيد الإنفاق على الحروب الخارجية بعد الاستنزاف المالي الذي مني به الناتج المحلي.
8. خطر الجماعات الوهابية التكفيرية على أمن المنطقة والمملكة تحديدًا بعدما ارتد عليها.
9. البحث عن مكانة ونفوذ في الساحة السورية لمنع استئثار قوى أخرى كالتركي والقطري.
10. إيجاد موطئ قدم للاستفادة من الفرص الاستثمارية والاقتصادية في الساحة السورية.
ثالثًا: سوريا أمام واقع جديد.
إلا أن مسار استعادة العلاقات لم يكتمل، إذ شهدت الساحة السورية تحولًا سيعيد خلق الأوراق للسعودية، ويغير حسابات المنطقة المشتعلة. بتاريخ 27 نوفمبر 2024، بدأ تحرك الفصائل المسلحة العلني مع سيطرتها على مناطق في ريف إدلب، وتقدمها باتجاه ريف حلب. وفي اليوم التالي، كان دخولها إلى مدينة حلب بعد هجوم مكثف نجحت فيه في السيطرة على مناطق واسعة خلال ساعات عدة. وفي 30 نوفمبر، استكملت هذه القوات تقدمها السريع باتجاه محافظة حماه، والتي شكل سقوطها المدوي صدمة إذ فتح الطريق أمام الوصول إلى حمص. وبعد سيطرتها على دير الزور والرقة وصولًا إلى البوكمال، استكملت مسارها نحو درعا والسويداء والقنيطرة التي سيطرت عليها مع حلول 7 ديسمبر. وفي اليوم 12 من بدأ الهجمات، دخلت الفصائل المسلحة العاصمة دمشق، الحصن الأهم للحكومة السورية، وسرعان ما أعلنت سيطرتها على المؤسسات الاستراتيجية والحيوية مثل مطار المزة العسكري، وقصر الشعب، ومبنى الإذاعة والتلفزيون، ورئاسة الأركان.
سريعة كانت التطورات الميدانية المتلاحقة في الساحة السورية، والتي فشلت السعودية ومعها دول الخليج في قراءة خواتيمها، فأبقت على موقفها الداعم للنظام برئاسة الأسد، لرؤيتها أن هذا ما ينسجم مع مصلحتها. وفي اجتماع وزراء خارجية دول مجلس التعاون الخليجي الذي عقد في 26 ديسمبر 2024 في الكويت، تزامنًا مع بدء الهجمات المسلحة، تم التأكيد على سيادة سوريا واستقلالها ووحدة أراضيها ورفض التدخل الخارجي في شؤونها والدعوة إلى رفع العقوبات عنها. وإن كان من اللافت عدم تطرق البيان إلى سيطرة الفصائل على مدن سورية، نظرًا لحالة الغموض في المشهد والحاجة إلى التأني في تحديد الموقف القادم، إلا أنه أكد على:
• أهمية الحفاظ على وحدة الأراضي السورية.
• دعم جهود التوصل إلى حل سياسي.
• دعم جهود رعاية اللاجئين والنازحين.
• إدانة الهجمات الإسرائيلية المتكررة.
نائب الرئيس التنفيذي لمعهد كوينسي في واشنطن، تريتا بارسي، علق على موقف دول الخليج بالقول: “في عام 2011، توصل عدد كبير جدًا من الدول بسرعة إلى وجهة نظر مفادها أنها ستكون في وضع أفضل إذا سقط الأسد وأرادت التخلص منه، لكن السعوديين والإماراتيين وغيرهم في المنطقة يرون في هذا الآن تحديًا صعبًا، فالوضع يعني زعزعة الاستقرار بالنسبة لهم إذا سقط الأسد في هذه المرحلة”.
ومع تسارع خروج مناطق واسعة عن سيطرة الحكومة السورية، كانت قطر تستضيف في 7 و8 ديسمبر اجتماعات استثنائية لضامني أستانا (تركيا، وروسيا، وإيران) على هامش منتدى الدوحة، بحضور السعودية، والعراق، والأردن، ومصر، بالإضافة إلى المبعوث الأممي إلى سوريا غير بيدرسون.
أكد المجتمعون أن استمرار الأزمة السورية يشكل تطورًا خطيرًا على سلامة البلاد والأمن الإقليمي والدولي، الأمر الذي يستوجب سعي الأطراف كافة إلى إيجاد حل سياسي للأزمة السورية يؤدي إلى وقف العمليات العسكرية تمهيدًا لإطلاق عملية سياسية جامعة، استنادًا إلى قرار مجلس الأمن رقم 2254، مع تحديد الأولوية للأهداف التالية:
• حماية المدنيين.
• منع إطالة أمد الأزمة.
• حفظ وحدة وسيادة سوريا واستقلالها وسلامة أراضيها.
• حماية سوريا من الانزلاق إلى الفوضى والإرهاب.
• ضمان العودة الطوعية للاجئين والنازحين.
وفي 8 ديسمبر، أصدرت السعودية بيانها الأول تعليقًا على تطور الأحداث، أعربت خلاله عن ارتياحها “للخطوات الإيجابية التي تم اتخاذها لتأمين سلامة الشعب السوري الشقيق”، مشددة على ضرورة منع الانزلاق نحو الفوضى والانقسام، ودعم ما يحقق استقرار وحدة الأراضي السورية.
وفي 12 ديسمبر، أصدرت ما يسمى “إدارة الشؤون السياسية التابعة لحكومة الإنقاذ السورية” بيانًا شكرت فيه عددًا من الدول على استئناف عمل بعثاتها الدبلوماسية في دمشق، من بينها مصر والعراق والسعودية والإمارات والأردن والبحرين وسلطنة عمان. وأشارت إلى تلقيها وعودًا من قطر وتركيا لإعادة افتتاح سفارتيهما.
وفي 14 ديسمبر، عقدت لجنة الاتصال الوزارية العربية بشأن سوريا، التي تضم: الأردن، والسعودية، والعراق، ولبنان، ومصر، وأمين عام جامعة الدول العربية، وبحضور وزراء خارجية الإمارات، والبحرين، وقطر، اجتماعًا أكد على “أهمية دعم عملية انتقالية سلمية شاملة في سوريا، تشمل جميع القوى السياسية والاجتماعية، وضرورة تعزيز جهود مكافحة الإرهاب والتعاون في محاربته، نظرًا لأنه يمثل تهديدًا لسوريا ولأمن المنطقة والعالم، مما يجعل مواجهته أولوية مشتركة”.
أبرز الاجتماع مسارعة دول الخليج إلى اتخاذ موقف من التطورات في سوريا ومحاولة لململة المشهد. وعن هذا الاجتماع تقول صحيفة عكاظ إنه أتى “خوفًا من عودة نظام مشابه للنظام السابق، أو نظام يطبق نموذج حكم متشدد مستوحى من فكر قمعي إرهابي وامتداده إلى دول عربية أخرى”.
وفي 26 ديسمبر، أكد البيان الختامي الصادر عن اجتماع المجلس الوزاري الخليجي الاستثنائي الـ46 على ضرورة تمكين سوريا اقتصاديًا والدعوة إلى رفع العقوبات عنها، كما دعا “إلى انسحاب إسرائيل من الأراضي السورية، وذلك في إطار الرغبة الخليجية لتكريس وحدة وسيادة سوريا”.
•التنافس السعودي – الخليجي (القطري والإماراتي) على النفوذ:
بين تقاطع المصالح وتضاربها، كانت سوريا ساحة للصراع الخليجي (السعودي – الإماراتي – القطري) على النفوذ في الشرق الأوسط. ولعل هذا ما يفسر أحد أسباب تحول السعودية في سياساتها الخارجية تجاه سوريا من النقيض إلى النقيض. أما التأثير الثاني الأكبر، فكانت التوجهات الأميركية الجديدة مع تسلم دونالد ترمب السلطة. ليُتوقف عام 2017 الدعم المالي والعسكري الذي قُدم من السنوات 2012 إلى 2016 لإسقاط “نظام الأسد”.
أمام هذا الواقع الجديد، وبالإضافة إلى ما سبق من حسابات، كان لا بد من إعادة ضبط للعلاقات الإقليمية والدولية، وهو ما كان الدافع للتحول من معسكر القطري – التركي الداعم لمشروع إسقاط النظام، إلى معسكر الإماراتي – الأميركي المستثمر في شعار “الحرب على الإرهاب”.
بالنسبة للسعودية، صعود نجم محمد بن سلمان الساعي لفرض نفسه كلاعب إقليمي بارز ساهم في تدعيم الرؤية الجديدة التي لا تولي أهمية لتنحي الأسد، وتقدم تنازلات في الساحة السورية، وتقبل بالوضع الذي فرضه اللاعب الروسي، في مقابل التماهي مع “الرؤية الترمبية” في مواجهة خطر “المشروع الإيراني” ودعم مشاريع التطبيع في المنطقة.
أما بالنسبة للإمارات، فالحسابات تتعلق بالمصالح الاقتصادية. إذ ترى أبو ظبي في سوريا فرصًا واعدة للاقتصاد والاستثمار، وهي تهدف بالتنسيق مع موسكو للاستفادة من مشاريع إقليمية واعدة في مجالات الطاقة والنقل البحري. كما ترى القيادة الإماراتية كذلك فرصًا في الانخراط في القطاع المصرفي وعمليات التمويل، وهو مجال تعد الأخيرة رائدة فيه. وذلك إلى جانب رغبتها في الاستفادة من مشاريع إعادة الإعمار وعقود تنفيذ البنى التحتية.
أما قطر التي تتشارك الرؤية مع تركيا في مصلحة دعم حلفائهما “الإسلاميين” في المنطقة، إلا أن أملهما الأكبر كان في استئناف مشروع إنشاء خط أنابيب غاز قطر-تركيا، الذي يربط تركيا والدول الأوروبية بقطر عبر السعودية والأردن وسوريا، ويحمل تأثيرات مباشرة على ديناميكيات القوة بين دول المنطقة. وهو مشروع رفضه الأسد لأنه سيجعل الغاز القطري يحل مكان الغاز الروسي الذي كان يؤمّن 45% من احتياجات أوروبا للغاز الطبيعي قبل الأزمة الأوكرانية.
رابعًا: التحول في الحسابات السعودية.
الخطوات الإيجابية التي اتخذتها القيادة السعودية تجاه الحكومة السورية من الاعتراف بالرئيس الأسد كأمر واقع فشلت في تغييره، والوصول إلى قناعة بعدم جدوى الاستثمار في دعم الإرهاب لإسقاط النظام، واستحالة تحقيق مكاسب خارج الأطر السياسية، وصولاً إلى القرار بعودة سوريا إلى “الحضن العربي” وضرورة رفع “الفيتو” الخليجي – العربي عنها، وإعادة الانفتاح على السوق السورية وفرص الاستثمار الواعدة فيها، كلها عوامل، إلى جانب عوامل أخرى، لعبت دورها في التحول الذي دفع الرياض إلى إعادة النظر في موقفها العدائي من الحكومة السورية بقيادة الرئيس بشار الأسد.
لكن سقوط النظام كان مفاجئًا لهذه القيادة، الداخلة في مصالحة حديثًا. إذ وجدت نفسها أمام واقع مجهول المستقبل وملغم بالتحديات، وذلك لعوامل أهمها:
أولاً: الخوف من الارتدادات الداخلية.
لا مشهد يخيف ملوك وأمراء الخليج أكثر من أي تحرك داخلي في أي دولة جارة. وذلك خشيةً من أن تمتد ارتدادات أي تحركات شعبية إلى داخلها، فتثير أزمة أمنية داخلية تهدد أسس الأنظمة البالية المحكومة بقبضة من حديد، والمستمدة شرعيتها من حماية غربية قد تقرر بيعها كما فعلت بحكام دول في المنطقة. وعليه، فإن إعادة شبح تحركات “الربيع العربي” التي دفعت هذه الدول ثمن وأده غاليًا يشكل تحديًا مستجدًا على هذه القيادات.
ثانيًا: عودة قوية للتيارات الإسلامية.
في السنوات التي مضت، عملت السعودية ممثلة بحاكمها الفعلي محمد بن سلمان على إعادة تشكيل مفهوم “الهوية الوطنية”، ومن بين ذلك فك التحالف التقليدي بين آل سعود وآل الشيخ، الذي تولدت منه “الوهابية”. الفكر الذي استمدت منه الحركات الإرهابية فكرها التكفيري، بات عاملًا مهددًا لاستقرار المملكة، وهي التي عملت على تصديره للعالم. وبات وصمة عار تثقل صورة الأمير الشاب الذي يريد تدوين عهد جديد لدولته. لكن هذه العودة لتيارات شرعت السعودية منذ سنوات في حرب علنية عليها، ستعطي لاتباعها اندفاعية قوية وقد تحرك قوى داخلية.
ثالثًا: التنافس على النفوذ.
نجاح المشروع التركي – القطري في سوريا يعد ضربة للدول المنافسة على النفوذ في المنطقة، ومنها السعودية والإمارات. فالاستثمار القطري – التركي في دعم فصائل مسلحة ونجاحها في الانقلاب على الحكم، سيترك آثاره على رقعة الشطرنج ويفرض حسابات جديدة للتحالفات القائمة في المنطقة. هذا المشروع قد يعد انتكاسة لمشروع النفوذ السعودي الذي كانت تسعى إليه المملكة من بوابة عودة العلاقات الدبلوماسية.
لكنه كان لا بد من رؤية جديدة تواكب سرعة التحول في المشهد السوري. إذ إن التأخر في صياغة مقاربة جديدة سيوسع هامش الخسارة. من هنا كان القرار بدعم القيادة الجديدة للبلاد، مع التأكيد على:
• الحفاظ على وحدة البلاد، وذلك لأن في مشروع التقسيم خسارة للسعودية التي ليس لها فصائل مسلحة على الأرض حاليًا.
• الحفاظ على الاستقرار، وذلك لأن انفلات الأوضاع الأمنية لن يقف عند حدود دولة بعينها.
• دعم للحفاظ على الدولة ومؤسساتها، بهدف حماية سوريا من الانزلاق إلى الفوضى والإرهاب.
هذه المحاذير التي تسير بموازاتها الرياض، دفعتها إلى تبني موقف يتبنى الاعتراف “بخيار” الشعب السوري وقراره في “تحديد مصيره”، وإن كان هذا الخيار مجرَّمًا في داخل المملكة. وعليه، خطت السعودية بخطوات إيجابية باتجاه القيادة الجديدة، فكانت سبَّاقة في إصدار البيانات وعقد الاجتماعات، وواكب ذلك حملة إعلامية مكثفة عملت على تغيير اتجاهات الرأي العام.
من خلال تبني هذه السياسة، تسعى الرياض للحفاظ على مكتسبات عدة منها:
– البحث عن حصة في “الكعكة” إيمانًا منها بأنه بات لدول الخليج فرص لنفوذ مالي ودبلوماسي جديد في سوريا. وستكون سوريا حريصة على كسب الود الأميركي لمحو تنظيماتها التي تقود البلاد حاليًا عن قوائم الإرهاب ورفع العقوبات الاقتصادية والمالية عنها. وهذا ما سيعطي هذه الدول فرصة في التأثير على العملية السياسية والبحث عن نفوذ جديد.
– مما لا شك فيه أن الضربة التي تعرض لها نظام داعم لمحور المقاومة في المنطقة ستترك آثاره على هذا المحور. فسقوط سوريا سيضعف محور المقاومة، وذلك لما تمثله من خط إمداد عسكري هام وحيوي لقوى المقاومة الفاعلة، وتحديدًا حزب الله اللبناني. وهو أيضًا يعني انتكاسة للمشروع الإيراني والقوى الداعمة له، فضلاً عن ضربة جديدة للمحور الداعم للقضية الفلسطينية والمؤيد لشرعية الحركات المقاومة. وهو توجه تعارضه هذه الأنظمة التي تجرم أي حركة تسعى للتحرر والاستقلال خوفًا على عروش حكامها.
– بعدما كانت الرياض قد خطت خطوات صغيرة ومتعثرة في الانفتاح على سوريا، فإن الواقع الجديد قد يشكل اندفاعة جديدة للرياض لإعادة النظر في الفرص الاقتصادية والاستثمارية الواعدة في السوق السورية، بما يحمل آفاقًا واعدة لدول الخليج ورؤاها الاقتصادية.
– سقوط نظام داعم للمقاومة، وبروز اتجاهات جديدة تؤيد “السلام مع إسرائيل”، يحمل مما لا شك فيه مصلحة سعودية متمسكة بصفقة التطبيع مع الكيان الإسرائيلي.
من هنا، فإن السعودية، التي كان لها دور بارز في الأزمة السورية وصاحبة النفوذ الوهابي والأب الروحي للجماعات المتطرفة، ستسعى لتحصيل نفوذ في سوريا، ولن تقبل بالاستئثار التركي بهذا الواقع الجديد. وستسعى السعودية لإيجاد موطئ قدم في ترتيب البيت السوري ومخرجاته على المستويين السياسي والاقتصادي. ومن مصلحة النظام أيضًا منع تمدد التحولات الجديدة إلى دول أخرى، وتحديدًا الأردن ومصر، أكبر متضررين من عودة نفوذ الإسلام السياسي من جديد، والتهديد الذي يشكله لحكمهما المتزعزع.
وعليه، يمكن القول إن السعودية ستحاول استغلال الموقف الأميركي الجديد تجاه سوريا. وسيكون المتحكم بمصير البلاد مدى رضا القوى الفاعلة خارجيًا عن تقاسم النفوذ الجديد للبلاد. على أن المصلحة العليا حاليًا لأغلب هذه القوى تصب في دعم إقامة دولة سورية قابلة للحياة، لأن انهيارها سيعني عودة شبح التنظيمات الإرهابية، وتصارع هذه الدول على السيطرة والنفوذ، وتحول سوريا إلى ساحة لتصفية الحسابات الخارجية.
خامسًا: التقارب السعودي- السوري حديثًا.
اتُخذ القرار سعوديًا بمقاربة الحكم الجديد في سوريا بإيجابية وانفتاح. وفي سبيل تحقيق ذلك، عملت السعودية على أكثر من اتجاه:
• الموقف الرسمي: إذ سارعت في إصدار مواقف رسمية تؤكد فيها دعم توجهات الشعب السوري الجديدة.
• اللقاءات والزيارات: كما سارعت إلى تبادل الزيارات بين دمشق والرياض على أعلى المستويات.
• التوجه الإعلامي: وواكب هذا التحول الإعلامي الذي سرعان ما تبنى رواية دعم حقوق الشعب السوري.
هذا الموقف الرسمي يأتي ضمن مواقف خليجية متشابهة في قراءة المعطيات الجديدة، وإن لم تتشارك كل دول مجلس التعاون حتى الآن المقاربة نفسها في ضوء تباين الأهداف والأجندات. فمع الانقلاب على الحكم في سوريا، التقى وفد سعودي مع قائد الإدارة الجديدة أحمد الشرع في دمشق، كما زار وفد قطري برئاسة وزير الدولة في وزارة الخارجية محمد بن عبد العزيز الخليفي العاصمة السورية، وسُجلت أيضًا زيارة لوفد بحريني برئاسة رئيس جهاز الأمن الاستراتيجي أحمد بن عبد العزيز آل خليفة، وأخرى لوفد كويتي برئاسة وزير الخارجية عبد الله علي اليحيا والأمين العام لمجلس التعاون الخليجي جاسم محمد البديوي.
ورغم هذه الوفود، لا تزال الإمارات تتخوف من الانفتاح على الإدارة الجديدة، وتشاركها مصر الموقف في رفض التعاون مع السلطة الحاكمة حاليًا، وسط تزايد المخاوف على المستويين الأمني والعسكري من طريقة تشكل الحكم الجديد في البلاد.
هذه المخاوف تأتي مدفوعة بمسار الأحداث في الداخل السوري، إذ حتى اليوم يمكن رصد ما يلي:
– انتشار حالة من الانفلات الأمني بذريعة ملاحقة فلول النظام البائد والمجرم، ليتم اتخاذها كذريعة لشن حملات مسلحة وعمليات قتل واختطاف ومداهمات وتعدٍّ على المنازل في محافظات عدة، وخاصة تلك التي كانت محسوبة على النظام أو التي يتواجد فيها أقليات.
– استباحة قوات الاحتلال الإسرائيلي لمناطق واسعة من الأراضي السورية، منها الجولان وجبل الشيخ والقنيطرة وحوض اليرموك بريف درعا الغربي، بعد إعلان رئيس وزرائه بنيامين نتنياهو أن اتفاقية “فضّ الاشتباك” الموقعة عام 1974 أصبحت منتهية بعد سقوط النظام السوري.
ـ الانقسامات وتضارب القوى البارزة على الأرض في رؤية “الدولة الجديدة”. وهنا تثار تساؤلات عن تصريح الشرع بأن عملية كتابة الدستور الجديد قد تستغرق ثلاث سنوات، والضبابية التي تخيم على التحضيرات للمؤتمر الوطني العام في سوريا والقوى المشاركة فيه.
ـ الورقة الكردية والانفجار المؤجل حتى اليوم، برغم معارك الكرّ والفرّ في ريف حلب الشمالي، والمناوشات التي سجلت في أطراف مدينة دير الزور بين قسد وهيئة تحرير الشام.
هذا في المشهد الداخلي، أما في المشهد الإقليمي، فتبدو توجهات الإدارة الجديدة أكثر ثباتًا، إذ تحرص هذه الإدارة على إشاعة جو من الانفتاح على الأطراف كافة، وفي مقدمتها السعودية، وذلك من خلال:
أ. التصريحات:
إذ سُجلت تصريحات إيجابية للجولاني تجاه الرياض. ففي مقابلة مع صحيفة “الشرق الأوسط” أعرب “القائد العام للإدارة السورية الجديدة” عن:
تطلعه للتعاون الاقتصادي والتنموي مع السعودية، خاصة بعد أن أصبح “الأمن الاستراتيجي الخليجي أكثر أمنًا وأمانًا”. مشيرًا إلى أن “المملكة العربية السعودية وضعت خططًا جريئة جدًا ولديها رؤية تنموية نتطلع إليها أيضًا”.
تأكيده أن سوريا في “مرحلة بناء الدولة، ولن تكون منصة لمهاجمة أو إثارة قلق أي دولة عربية أو خليجية مهما كان”.
حديثه عن أن “الأمن الاستراتيجي الخليجي أصبح أكثر أمنًا وأمانًا لأن المشروع الإيراني في المنطقة عاد 40 سنة إلى الوراء”. وأن “ما قمنا به وأنجزناه بأقل الأضرار والخسائر الممكنة من إخراج للميليشيات الإيرانية وإغلاق سوريا كليًا كمنصة للأذرع الإيرانية.. لم تحققه الوسائل الدبلوماسية وحتى الضغوط”.
هي رسائل شديدة الوضوح إذًا تجيب عن المخاوف وترسل إشارات للطرف السعودي: تقاطع المصالح الاقتصادية، التباهي بالقضاء على “المشروع الإيراني”، وقرار بعدم تصدير مشروع الانقلاب إلى دول الجوار.
ب. اللقاءات:
بعد الزيارة التي قام بها وفد سعودي للعاصمة السورية دمشق، وصل في اليوم الأول من العام الجديد وفد سوري رفيع المستوى ضم وزير الخارجية ووزير الدفاع ورئيس جهاز الاستخبارات العامة إلى العاصمة السعودية الرياض تلبية لدعوة رسمية وجهتها المملكة. التقى موفدو الإدارة الجديدة وزيري الخارجية والدفاع السعوديين، وتم البحث في “سبل دعم العملية السياسية الانتقالية بما يحقق تطلعات الشعب السوري ويضمن أمن واستقرار سوريا ووحدة أراضيها”. وقد صرح وزير الخارجية السوري بأن اللقاء أكد العمل على إطلاق خطة اقتصادية تفسح المجال للاستثمار وعقد شراكات استراتيجية، وأن السعودية “أكدت استعدادها للمشاركة في نهضة سوريا ودعم وحدتها وسلامة أراضيها”.
ج. المساعدات:
وتزامنًا مع الاتصالات واللقاءات المشتركة، عملت السعودية على التقرب من الإدارة الجديدة من بوابة المساعدات الإنسانية. وحتى تاريخ 2 يناير 2025، سُجل وصول ثالث طائرة سعودية إغاثية إلى مطار دمشق الدولي تحمل مواد غذائية وإيوائية وطبية، وذلك في إطار الجسر الجوي الإغاثي الذي أطلقته المملكة.
د. التغطية الإعلامية:
احتفت قناة العربية بتصريحات الجولاني عن العلاقات السورية – السعودية خلال المقابلة الخاصة التي أجرتها القناة معه، والتي أشار خلالها إلى أنه سيكون للسعودية دور كبير في مستقبل سوريا.
وهكذا، فإنه بعدما كانت السعودية تطلق على الجولاني وصف “الإرهابي”، باتت تحتفي بعقد لقاء حصري معه، معترفة به كقائد لإدارة العمليات في سوريا.
وقد أفردت المنصات السعودية صفحاتها للترويج للمقابلة “الحصرية” من خلال بث مقاطع منها، وقد انتشر مقطع يتحدث فيه الجولاني عن حنينه للسعودية التي وُلد فيها. وهنا إشارة إلى الفكر “الوهابي” الذي ترعرع في كنف المملكة. ومن ضمن الاحتفاء والاهتمام بهذه المقابلة، وتصويرها كأنه “إنجاز” للقناة، عمدت “العربية” إلى تخصيص مشاهد من “كواليس المقابلة”.
وبرغم زعم المذيع أن الجولاني أجاب عن كل الأسئلة من دون تحفظ، إلا أن المراجعة لأسئلة المذيع تكشف عن تجنب القناة السعودية أغلب “الملفات الشائكة” والأسئلة التي يجب أن تُطرح على إرهابي مسؤول عن سفك دماء شعبه، وعن “انقلاب” مدعوم بأجندات خارجية. وإن كان ذلك تم باتفاق أو طلب من الضيف، فإن الواقع أن المقابلة تجنبت التطرق إلى المواضيع المحظورة، مثل فكر القاعدة والإخوان ورأيه في إقامة دولة إسلامية والاعتداءات التي تطال الأقليات… لتتحول إلى أسئلة مكررة عن المقابلة السابقة مع شبكة CNN ولكن بنسخة عربية.
هذه المقابلة والطريقة التي أجريت بها كانت محط انتقاد واسع على منصات التواصل الاجتماعي. فبينما انتقد البعض تحول القناة في رسالتها من “إرهاب الجولاني” إلى تصديره كبطل قومي، عمد آخرون إلى التذكير بموقف القناة السابق من الجولاني. وقد انتشرت تقارير سابقة للقناة تتحدث عن أحمد الشرع، منها تقرير يعود إلى مايو 2024، يصف الجولاني بالإرهابي الذي يحكم إدلب والذي عُرف عنه “المراوغة وحب الظهور”، ويذكر تاريخ الجولاني الذي خرجت ضده تظاهرات في إدلب للمطالبة برحيله وتنظيمه المسلح الذي يفرض “قبضة أمنية خانقة” على إدلب، وهو الإرهابي الذي ارتبط بتنظيمات إرهابية عدة منها القاعدة، والمعروف بنرجسيته والتمسك بالسلطة.
وقد عمدت عدد من الصفحات ورواد التواصل الاجتماعي إلى التهكم على “الذباب الإلكتروني” الذي اضطر إلى تغيير موجة استهداف الجولاني ليتبناه كقائد “لتحرير سوريا”.
وهنا لا بد من رصد أبرز ما جاء في الإعلام السعودي ومواقف المؤثرين من كتّاب وصحافيين حول هذا التحول في سوريا:
1. في وسائل الإعلام :
أ. الخوف من سيطرة التنظيمات الإرهابية:
تبرز المقالات وتدوينات الكتاب والمحللين الخوف من سيطرة التنظيمات الإرهابية على الحكم، والخوف من أن هذه السيطرة لن تبقى في حدود سوريا، إذ ستعيد إحياء مشروع “الدولة الإسلامية” بنسخته الوهابية التكفيرية.
يكتب محمد مفتي في (عكاظ) عن هذه المخاوف، فيقول إنه “على الرغم من أن الأحداث التي عصفت بسوريا مؤخراً شأن داخلي بحت، إلا أن وجود بؤر متطرفة في منطقة الشرق الأوسط يهدد – ليس فقط دول المنطقة – بل المصالح الغربية أيضاً.” لكنه يرى أن الضامن من تحول سوريا إلى أفغانستان جديدة هو مجاورتها لإسرائيل التي “لن تقبل – بدعم من حليفتها الولايات المتحدة – أن تجاورها بؤر طالبانية خشية تهديد أمنها واستقرارها”. وضمن المخاوف من سيطرة الإسلام السياسي وعودة المشروع الإرهابي، يقول نجيب يماني إنه “مهما بذلنا من أسباب التفاؤل، وأسرفنا في مظاهر الفرح، فليس من المنطقي أن نتوقع أن المكوّن العام لهيئة تحرير الشام قد خلع عقله، وتنازل عن قناعته، وهجر أيديولوجيته في ثلاثة أيام فقط، فلئن صحّ ذلك لقائده الشرع، فلا شكّ عندي أن ذلك لا يمثّل الجميع، ومن هنا تنشأ المخاوف، وتتبدى المخاطر، وهي ذات المفارقة التي صحبت الواقع الكارثي في أفغانستان، وليبيا، والسودان، وغيرها من الدول التي ابتليت بهوس جماعات الإسلام السياسي”.
وتستحضر إيلاف هذا الخوف من خلال التعديلات على المناهج، “حيث يرى البعض أن المنهاج القديم كان ‘أسدياً’ ويمجد نظام الأسد، فيما سيكون المنهاج الجديد بتعديلاته البسيطة حتى الآن ‘إسلامياً’ وربما ‘داعشياً’، وما بين هذا وذلك هناك من يرى في كل ما يدور من مناقشات مجرد مبالغات وضجة مفتعلة من تيار ليبرالي شديد التطرف”.
ب. إبراز الدور السعودي في مستقبل سوريا:
ركزت المقالات والأخبار على إبراز التقارب السعودي – السوري، من خلال إبراز اهتمام القيادة السورية الجديدة بالعلاقات مع الرياض، والتأكيد على أهمية الدور السعودي في مستقبل البلاد. فإلى جانب التهافت على المقابلات الحصرية مع قادة الانقلاب، تحولت قناة “العربية” بين ليلة وضحاها إلى “رأس حربة” إعلامي للفصائل المسلحة، ترافق هجماتهم العسكرية، وتفتح بثها الكامل لتغطية تطورات المشهد السوري.
ج. الخوف من الانفلات الأمني:
إلى جانب المخاوف من سيطرة الإرهابيين على الحكم، هناك مخاوف من إقامة دولة ضعيفة وانتشار حالة الانفلات الأمني، والخوف من انعكاسه على جماعات تتبنى مشروع التقسيم، وهو ما لا مصلحة سعودية فيه بسبب ضعف أوراقها الحالية في الميدان العسكري.
ضمن هذا السياق، يتساءل عبد الرحمن الراشد في صحيفة (الشرق الأوسط) إن كان سقوط الأسد “يعني أننا أمام بداية سوريا موحدة، ثورتها لا تشبه ثورة ليبيا ولن تلقى مصيرها؟” مشيرًا إلى أن “سوريا تستحق فرصتها بعد ستين عامًا من الانتظار. لكن بناء الدولة أصعب، والتحديات أمام السوريين كثيرة”. وهذه التحديات برأي الكاتب سببها “ترك البلاد مفككة ومحتلة، قوات أميركية، وميليشيات إيرانية وأفغانية وعراقية ولبنانية”.
د. استهداف “المشروع الإيراني”:
ومن بين ما ركز عليه الإعلام السعودي، الاستفادة من تطورات الملف السوري لتوجيه ضربة معنوية إلى “النفوذ الإيراني” في سوريا الذي ضُرب من خاصرته الأضعف وخسر خط إمداد عسكري. وقد برز تركيز على ربط مصير الأسد بمن “يعتمد على إيران”. وقد استخدمت هذه النقطة أيضًا في السعي لتشويه صورة محور المقاومة من خلال اعتبار أن الاستهدافات الإسرائيلية سببها هذا المحور. فقد أجرت (الشرق الأوسط) تحقيقًا من القصير التي “تخلصت من كابوس النظام وحزب الله”، تحدثت فيه عن اعتقالات ومداهمات وتعدي على الممتلكات من قبل “حزب الله”. وتنقل عن إحدى المواطنات السوريات “لحظات القصف الإسرائيلي على منطقة الصناعة بالقصير، قائلة إن القصف كان مروعًا، وإن بعض الغارات وقعت قرب مدارس الأطفال أثناء الدوام المدرسي. تضيف: جاءوا (حزب الله) إلينا بالخراب”. وفي تقرير آخر للصحيفة، تستحضر الورقة الطائفية، فتقول إن مواطنين سوريين من الطائفة الشيعية اشتكوا “من سياسة إيران في سوريا وخداعها لهم، بالتخويف من المكونات السورية الأخرى، خصوصًا الأغلبية السنية، والتغرير بشبابهم واستخدامهم وقودًا عسكريًا لمصالحها في المنطقة ضمن ميليشيات الحرس الثوري، ثم التخلي عنهم”.
2. “النخب” الاجتماعية :
وضمن الأجندات نفسها سار كتاب ومثقفو المملكة في توجهاتهم ومحاولة تأثيرهم على الجمهور. وفي مقدمة هذه الأجندات، تحويل ما حدث على أنه انتصار ضد إيران وأن أي تراجع لنفوذها في المنطقة مرحب به. وهنا يدعو طارق الحميد، وهو رئيس تحرير سابق لصحيفة (الشرق الأوسط)، إلى “الاستفادة من أخطاء كل ما سبق، وتذكر أمر واحد مهم أنها ربما تكون المرة الاولى لسوريا بدون ميليشيات إيرانية”.
وضمن التبرير للالتفاف في التوجهات السعودية، يقول ممدوح المهيني، وهو مدير قناتي (العربية) و(الحدث)، إنه بعد أن أخرجت سوريا “من محور المقاومة الذي وضعها فيه الأسد وجر عليها الخراب، من المهم أن تدخل سوريا الجديدة محور التنمية”. ويضيف أن: “التشويه والتلطيخ والهجوم على ما يحدث في سوريا، كل هذا يخدم أجندات المتطرفين الذين يريدون ويتمنون أن يروها ممزقة ومدمرة، ويستعيدوا بعض النفوذ الذي خسروه”. وفي ترويج لأهمية الدور السعودي في مستقبل سوريا، يقول عثمان عمير، ناشر ورئيس تحرير صحيفة (إيلاف) الالكترونية، إن “موقف الرياض يجسد توجهاتها للاستقرار والتطوير للمنطقة. والمبادرة الآن بيد العهد الجديد في اعتبار هذه الثورة لكل الشعب السوري بكافة أطيافه”.
وفي تغريدة أخرى، يحاول العمير المساواة بين جرائم إسرائيل والحكومات السورية في عهد آل الأسد، فيقول إن عدد رؤساء وزراء اسرائيل الذين عاصرهم أبرز سفاحين في التاريخ حافظ وبشار الأسد هو 16، ويتساءل إن كان من الممكن تقدير عدد ضحايا وسجناء الطرفين، وهو سؤال يثير التعجب من تغافل العمير عن الجرائم المتعاقبة في ظل حكم آل سعود. فيما يحاول تركي القبلان، وهو رئيس مركز ديمومة للدراسات والبحوث، تلميع صور الجولاني فيقول إن “تصرف قيادة العمليات العسكرية بإبقاء المؤسسات الرسمية تحت مسؤولية رئيس مجلس الوزراء السابق لحين تسليمها يترجم التحلي بالحكمة وبعد النظر وعدم التصرف بعقلية المنتصر في هذه المرحلة الحساسة”.
3. الذباب الإلكتروني :
مع القرار الأميركي بتخفيف العقوبات عن سوريا، حاول الذباب الإلكتروني الترويج للقرار كإنجاز جاء بفضل السعودية، وذلك ضمن حملة تسعى لخلق صورة لدور فاعل للسعودية في الساحة السورية. وضمن ذلك، الترويج للمساعدات، وإظهارها على أنها “لطمة أخرى على أفواه الذيول والممانعة”. وفي سبيل ذلك، تم إطلاق عدة وسوم أبرزها #السعوديه_تساند_الشعب_السوري و #ينصر_دينك_يابن_سلمان التي غردت بها صفحات الذباب الإلكتروني، “مهللة” لهذا الدور البارز للمملكة في مساندة الشعب السوري.
وقد استحضر الذباب الإلكتروني هجومه على “الإخوان المسلمين” والتحذير من خطرهم على المنطقة، واستحضار الخطاب الطائفي والعرقي كذلك. بل حتى أن بعضهم روّج لعودة الإرهاب أيضًا.
خاتمة وخلاصات :
مرّت العلاقات السعودية – السورية بعدة مراحل في عهد الرئيس السابق بشار الأسد. بدأت من الاستثمار في الأزمة السورية ودعم مشروع الإرهاب، ثم تراجعت المملكة عن هذا المشروع وادعت محاربته، وصولًا إلى مساعي إعادة النظام إلى الحظيرة العربية. وقد تباينت توجهات المملكة وفقًا لأجنداتها الخارجية والتحولات السياسية المرتبطة بها.
لكن الانقلاب على الحكم، الذي قادته فصائل مسلحة إرهابية بدعم خارجي من قطر وتركيا، ومباركة من الولايات المتحدة وإسرائيل، غيّر المشهد رأسًا على عقب، وشكّل تحديًا جديدًا للمملكة. هذا التحول سرعان ما تلقت القيادة السعودية إشاراته من خلال المسارعة إلى مصافحة الإدارة الجديدة، رغم المخاوف العديدة التي كانت تساورها. ولكن المصالح الوطنية تتخطى هذه المخاوف، وتوجهت المملكة نحو محاولة إعادة تأسيس موطئ قدم لها في الساحة السورية.
الخوف من نفوذ الإسلام السياسي الذي تسعى السعودية لمكافحته منذ سنوات، والخوف من عودة انتشار المجموعات الإرهابية التي دعمتها المملكة ثم زعمت محاربتها بعدما ارتدت عليها، والخوف من نفوذ تركيا وقطر على حساب السعودية، إلى جانب الرغبة في الانفتاح على السوق السورية بعد رفع العقوبات الأميركية، فضلاً عن رغبتها في الاستفادة من الضربة التي تلقاها محور المقاومة وإيران، كلها عوامل ساهمت في التحول السياسي الجديد تجاه سوريا.
وتُظهر تصريحات الجولاني واختيار الإدارة الجديدة للمملكة كأول وجهة خارجية لها رغبة مشتركة للاستفادة من هذه التحولات. إذ أكد الجولاني على الدور “الكبير جدًا” للسعودية في تحقيق الاستقرار في سوريا وتوفير الفرص الاستثمارية الكبرى فيها. أما على الجانب السعودي، فقد كانت المساعدات الإنسانية أبرز الأوراق التي استخدمتها المملكة في مسعى منها لاستعادة دورها في الساحة السورية، إلى جانب تفعيل الجانب السياسي والإعلامي بشكل فاعل.
في الخلاصة، يبدو أن القرار السعودي بالتقارب مع الإدارة الجديدة في سوريا هو القرار السائد حاليًا، لكن هذا التوجه يبقى مرهونًا بمسار الأحداث في سوريا وما ستؤول إليه التطورات في المستقبل.