
شهدت دول الخليج، منذ مطلع القرن الحادي والعشرين، تزايدًا ملحوظًا في المطالبات بالإصلاح السياسي وتعزيز المشاركة الشعبية والحريات العامة، بالتوازي مع تحولات إقليمية ودولية أعادت تشكيل التحديات الداخلية والخارجية التي تواجه هذه الدول. وبينما برزت قوى المعارضة الخليجية كمحرّكات أساسية للمطالبة بالحرية السياسية والديمقراطية، ترافقت هذه المطالبات مع موقف مبدئي داعم للقضايا القومية، وعلى رأسها القضية الفلسطينية، ومناهض لمشاريع الهيمنة الغربية والصهيونية في المنطقة.
غير أن التفاعل بين هذين البعدين ـ الداخلي والخارجي ـ لم يكن على الدوام منسجمًا في الخطاب والممارسة. فغالبًا ما تم التعاطي مع مطلب الحرية بكونها شأنًا وطنيًا داخليًا، ومع مطلب التحرر من الهيمنة الأجنبية بصفتها قضية قومية تقع خارج الأولويات السياسية العاجلة. وقد أدّى هذا التباعد في الخطاب إلى إضعاف فعالية قوى الإصلاح والتغيير، وإلى إرباك استراتيجياتها، لاسيما في ظل موجة التطبيع العربي الواسعة مع الكيان الصهيوني وتزايد التدخلات الأجنبية في شؤون المنطقة.
من هنا، نسعى هنا إلى استكشاف إشكالية العلاقة بين مفهومي الحرية (المرتبطة بالتحول الديمقراطي) والتحرر (المرتبطة بالسيادة الوطنية ومناهضة الهيمنة)، وتفكيك الأسباب التي تحول دون دمجهما في خطاب سياسي موحد لدى قوى المعارضة في الخليج. كما نبحث في إمكانية إنتاج خطاب بديل قادر على تجاوز هذا الانقسام وتقديم رؤية استراتيجية تدمج بين الديمقراطية والسيادة.
هل يمكن لقوى المعارضة في الخليج أن توفّق، على مستوى الخطاب والممارسة، بين مطلبَي الحرية (التحول الديمقراطي) والتحرر (مناهضة الهيمنة والتطبيع)؟ وما هي العوائق البنيوية والسياسية التي تحول دون ذلك؟
تكمن أهمية هذه الأسئلة في سعيها لفهم التوتر القائم في الثقافة والخطاب السياسي المعارض بين مطلبين أساسيين يشكلان معًا جوهر السيادة الوطنية والكرامة الإنسانية. كما تسعى لتقديم مساهمة نظرية وعملية في بلورة مشروع سياسي إصلاحي جامع يراعي تعقيدات الواقع الخليجي.
ونعتمد هنا على المنهج التحليلي ـ النقدي في مقاربة خطاب المعارضة الخليجية، مع الاستعانة بتحليل نصوص وبيانات صادرة عن قوى سياسية ومدنية، إضافة إلى تحليل المواقف الرسمية والخطابات الإعلامية ذات الصلة.
بداية يمكن القول بأن مفهومي الحرية والتحرّر هما من أبرز المفاهيم التي شغلت الفكر العربي المعاصر منذ مرحلة ما بعد الاستعمار. وقد تَرافقَ حضورهما في الأدبيات السياسية والثقافية مع بروز مشاريع التحرر الوطني من جهة، وصعود حركات المطالبة بالديمقراطية والإصلاح السياسي من جهة أخرى. إلا أن التداخل النظري والعملي بين المفهومين لم يكن دائمًا متناسقًا، بل تخللته توترات وسوء فهم أثّرا على بناء مشروع سياسي عربي جامع.
ـ مفهوم الحرية: من الفرد إلى الجماعة.
يحيل مفهوم الحرية في سياقه السياسي المعاصر إلى جملة من القيم التي تتعلّق بحقوق الأفراد في التعبير، والمشاركة، والمساءلة، وتداول السلطة. وقد برزت هذه القيم بوصفها مطالب رئيسية لدى الحركات الإصلاحية والليبرالية، كما وجدت أساسًا لها في بعض التأصيلات الإسلامية التي شدّدت على الحرية كشرط للكرامة الإنسانية ومقصد من مقاصد الشريعة.
في السياق العربي، تأثرت مفردة الحرية بتجاذب تيارات متعددة: القومية، والليبرالية، والإسلامية، وكل منها حمّل المفهوم معاني مختلفة، أحيانًا متقاطعة وأحيانًا متنافرة. ومع ذلك، بقي مفهوم الحرية يُستخدم أساسًا للإشارة إلى إصلاح الحكم، إنهاء الاستبداد، وتوسيع الفضاء العام.
ـ مفهوم التحرر: من الاستعمار إلى الهيمنة.
أما التحرر، فهو مفهوم ارتبط تاريخيًا بحركات مقاومة الاستعمار في القرن العشرين، لا سيما في المشرق والمغرب العربيين. وقد اكتسب في الوعي الجمعي العربي دلالة قومية ومقاوماتية، تتعلق بالاستقلال الوطني والسيادة على الموارد، ورفض الاحتلال الأجنبي، ومجابهة النفوذ الغربي – ولاحقًا الصهيوني – في المنطقة.
وبينما نجحت العديد من الدول العربية في التحرر السياسي الشكلي من الاستعمار، فإن التحرّر بمفهومه الأعمق – أي الاستقلال في القرار والتنمية والنموذج الحضاري – بقي محلّ جدل. إذ استمرت التبعية البنيوية لأنظمة الحكم العربية للمراكز الغربية، سواء على الصعيد العسكري أو الاقتصادي أو حتى الثقافي.
ـ التوتر بين المفهومين: الانفصال والاختزال.
أحد الإشكالات الجوهرية في الفكر والخطاب السياسي العربي المعاصر هو الفصل التعسفي بين الحرية والتحرر. ففي كثير من الأحيان، تبنّت الحركات القومية خطاب التحرر من الهيمنة مع تهميش مسألة الحريات السياسية، كما في تجربة “الدولة الوطنية” ما بعد الاستقلال. وفي المقابل، تبنّت بعض التيارات الليبرالية أو الإسلامية مطلب الحرية الداخلية دون تقديم موقف نقدي واضح من البنية الإمبريالية العالمية أو من الكيان الصهيوني.
وقد أدى هذا الإنقسام إلى بناء سرديتين متوازيتين: الأولى ترى أولوية في مواجهة “العدو الخارجي”، والثانية تحصر النضال في مقاومة “الاستبداد الداخلي”، دون إدراك العلاقة العضوية بين البُعدين.
ـ الحاجة إلى خطاب مزدوج ومتكامل.
تبرز في السنوات الأخيرة محاولات فكرية وميدانية لدمج مطلبَي الحرية والتحرر ضمن خطاب سياسي واحد، يربط بين الديمقراطية الداخلية والاستقلال الوطني. وقد مثّلت ثورات الربيع العربي عام 2011 فرصةً لهذا الدمج، حيث رفعت الشعوب شعار “الشعب يريد” الذي حمل معاني التحرر والحرية في آن.
ومع ذلك، فإن السيرورة العملية لهذا الدمج بقيت متعثرة، بسبب بنى الاستبداد العميقة، وتعقيد منظومة الهيمنة الإقليمية والدولية، وتشتت قوى المعارضة.
خطاب المعارضة الخليجية بين مطلبَي الحرية والتحرر.
يُمثّل الخطاب السياسي لقوى المعارضة في دول الخليج انعكاسًا للتحديات المركّبة التي تواجهها المنطقة، حيث تتشابك أزمات الداخل مع التوترات الإقليمية والدولية. في هذا السياق، يُمكن تلمّس التوتر البنيوي بين مطلبَي الحرية المرتبط بالإصلاح السياسي والديمقراطي، ومطلب التحرر المرتبط بمواجهة الهيمنة الإقليمية والدولية، ورفض التطبيع مع الكيان الصهيوني. ولنحلّل تمظهرات هذا التوتر داخل خطاب المعارضة الخليجية، ونرصد بعض المحاولات لتجاوزه.
ـ انشطار الخطاب: أولوية الداخل مقابل أولوية الخارج.
يتوزع خطاب المعارضة الخليجية غالبًا على محورين: الأول يركّز على التحول الديمقراطي، ويطالب بإقامة ملكيات دستورية، وتوسيع دور البرلمان، وتحرير المجال العام، واحترام حقوق الإنسان. والثاني يتمحور حول التحرر الوطني، ويُعلي من شأن القضايا القومية، خاصة القضية الفلسطينية، ويرفض التبعية للغرب، والتطبيع مع الكيان الإسرائيلي.
لكن في كثير من الحالات، لا تلتقي هاتان السرديتان في خطاب موحد. فبعض الحركات الإصلاحية تُغفل البعد القومي أو تعتبره ثانويًا، بينما تنحو تيارات مقاومة أخرى إلى التقليل من شأن الحريات السياسية لصالح “الأولويات القومية”، مما ينتج خطابًا مجزّأً وضعيفًا في التأثير السياسي والاجتماعي.
ـ التطبيع كاختبار لجدية الخطاب التحرري.
شكّل مسار اتفاقات التطبيع مع الكيان الإسرائيلي منذ عام 2020 اختبارًا كبيرًا لخطاب المعارضة الخليجية. إذ طُرحت تساؤلات جدّية حول موقف المعارضة من هذه الاتفاقات، ومدى قدرتها على بناء موقف مبدئي وفعّال يجمع بين مواجهة التطبيع ومناهضة الاستبداد الداخلي.
وقد لوحظ أن عددًا من قوى المعارضة الخليجية، خصوصًا في البحرين والكويت وقطر، قدّمت مواقف متقدمة في رفض التطبيع، واعتبرته خيانة للمبادئ القومية والدينية، إلا أن هذه المواقف لم تُترجم دائمًا إلى رؤية استراتيجية تدمج التحرر الوطني بمطلب الإصلاح السياسي، خاصة في ظل غياب أجسام تنظيمية متماسكة، ومحدودية الفضاء العام للتعبير.
ـ فلسطين كقاطرة للحرية.
رغم التحديات، تُشكّل القضية الفلسطينية نقطة التقاء بين الوجدان الشعبي والخطاب المعارض في الخليج. فقد أظهرت الحملات الشعبية والافتراضية ضد التطبيع، وكذلك التفاعل الواسع مع معركة “طوفان الأقصى” عام 2023، أن المطلب الفلسطيني قادر على تفعيل الوعي السياسي وتوحيد المطلبين: التحرر والحرية.
هذا التلازم بدأ ينعكس تدريجيًا في بعض البيانات والخطابات التي تصدرها تيارات خليجية معارضة، خصوصًا في البحرين والكويت والسعودية، والتي باتت ترى في مقاومة التطبيع مدخلًا أيضًا لكشف تناقضات الحكم، وتقويض شرعيته الأخلاقية، وتحفيز الشعوب على المطالبة بالديمقراطية والسيادة معًا.
ـ إشكالية الموازنة: ضرورات الداخل ومتطلبات الخارج
تبقى المعضلة الأساسية التي تواجه قوى المعارضة الخليجية هي الموازنة بين العمل المحلي الضاغط من أجل الإصلاح، والانخراط في القضايا القومية الكبرى مثل فلسطين، دون السقوط في الشعاراتية أو العزلة. وتُفاقم هذه الإشكالية بنية الأنظمة الخليجية التي تقوم على التحالف بين الاستبداد السياسي والارتهان الخارجي، مما يجعل الفصل بين المسارين أمرًا غير واقعي.
من هنا، فإن تجاوز هذا الانقسام يتطلب إعادة بناء المشروع المعارض على أسس فكرية واستراتيجية جديدة، تقوم على دمج الحرية بالتحرر، والداخل بالخارج، والوطني بالقومي، في صيغة متكاملة تعيد للخطاب السياسي الخليجي طابعه التحرّري الشامل.
البيئة الإقليمية وخطاب المعارضة
لقد شهدت البيئة الإقليمية في منطقة الخليج العديد من التحولات الجذرية على الصعيدين السياسي والأمني في العقدين الأخيرين، وكان لهذه التحولات تأثير كبير على خطاب المعارضة الخليجية. فقد شكّلت التحولات الجيوسياسية الناتجة عن التدخلات الخارجية، والصراعات الإقليمية، وظهور تحالفات جديدة، البيئة السياسية التي نشأت فيها اتفاقيات التطبيع. وفي مناقشة كيفية تأثير هذه البيئة على خطاب المعارضة الخليجية، خاصة فيما يتعلق بتفاعلاتها مع القضايا الداخلية والخارجية، يمكن الاضاءة على المحاور الآتية:
1ـ التحولات الجيوسياسية في الخليج: بيئة إقليمية معقدة
شهدت منطقة الخليج، منذ بداية الألفية الثالثة، تغيرات جيوسياسية هامة كان لها دور كبير في تشكيل مواقف الأنظمة السياسية والمعارضة الخليجية على حد سواء. من أبرز هذه التحولات:
- الغزو الأمريكي للعراق في عام 2003، الذي أدى إلى تغيير كامل في الخريطة السياسية الإقليمية، وأدى إلى تصاعد التوترات الطائفية والإقليمية في المنطقة.
- الربيع العربي عام 2011، الذي أحدث هزات في الأنظمة السياسية الخليجية، وحفز قوى المعارضة على رفع سقف مطالبها الديمقراطية.
- التحولات في العلاقات الخليجية مع إيران، حيث شهدت العلاقات تصاعدًا في التوترات، خاصة في ظل العدوان السعودي الاماراتي على اليمن والنزاع الخليجي الإيراني، مما أثر بشكل مباشر على مواقف دول الخليج من القضايا الإقليمية.
- اتفاقيات التطبيع مع الكيان الاسرائيلي، والتي جاءت في سياق التحولات الإقليمية الحاصلة، وارتبطت بالتحولات في السياسة الأمريكية في المنطقة.
تُظهِر هذه التحولات أن البيئة السياسية أصبحت أكثر تعقيدًا وتداخلًا، مما يجعل خطاب المعارضة الخليجي أكثر انقسامًا وتشتتًا. فبينما تحاول بعض القوى المعارضة التفاعل مع القضايا المحلية والداخلية مثل حقوق الإنسان والديمقراطية، تزداد الضغوطات التي تواجهها مع تسارع الأحداث الإقليمية.
2 ـ تأثير التحولات الإقليمية على خطاب المعارضة
إن تحول البيئة الإقليمية، خاصة في ظل الانخراط العميق للأنظمة الخليجية في صراعات إقليمية، كان له تأثير مزدوج على خطاب المعارضة الخليجية:
- الانقسام الداخلي: شهدت بعض قوى المعارضة الخليجية انقسامات حادة بين المعارضة الديمقراطية التي تركز على الإصلاح الداخلي والحريات السياسية، والمعارضة القومية التي تضع القضايا الخارجية، وخاصة القضية الفلسطينية، على رأس أولوياتها. هذا الانقسام يعكس عدم قدرة هذه القوى على توحيد خطابها في مواجهة التحديات الداخلية والخارجية في آن واحد.
- التوجه نحو تعزيز البعد القومي: رغم الانقسامات، تزداد الدعوات التي تعبر عن رفض التطبيع مع إسرائيل، خاصة في ظل تصاعد الاعتداءات الإسرائيلية على الشعب الفلسطيني في الضفة والقطاع، مما يجعل قوى المعارضة الخليجية في بعض الأحيان تركز على البعد القومي التحرري، وتدعو إلى مقاومة الهيمنة الغربية والصهيونية. لكن في بعض الحالات، تُظهر هذه القوى تجاهلًا للمشكلات المحلية مثل الفساد السياسي والاستبداد، مما يعكس تناقضًا بين الخطاب المحلي والخطاب القومي.
3 ـ الاستراتيجيات السياسية الجديدة في ضوء التطورات الإقليمية
مواكبة لهذه التحولات، تحاول المعارضة الخليجية صياغة استراتيجيات جديدة تجمع بين مطالب الحرية والتحرر، بهدف مواجهة تحديات الأنظمة السياسية القائمة التي تسعى لزيادة هيمنتها على المشهد السياسي الداخلي مع التزامها بالتحالفات الخارجية، مثل التطبيع مع إسرائيل.
وتتمثل بعض هذه الاستراتيجيات في:
- التقارب مع القوى القومية: سعت بعض الحركات المعارضة الخليجية إلى بناء تحالفات مع الحركات القومية العربية والإسلامية في المنطقة، حيث جرى توظيف القضايا القومية، وعلى رأسها فلسطين، في الخطاب المعارض.
- الاعتماد على الفضاء الرقمي: في ظل القمع السياسي داخل دول الخليج، استخدمت بعض قوى المعارضة وسائل الإعلام الرقمي والفضاء الافتراضي لتعبئة الرأي العام والتواصل مع الجمهور المحلي والدولي. وقد ساعدت هذه الاستراتيجيات في تفعيل الحركات الشعبية ضد التطبيع وضد الهيمنة الخارجية.
- استثمار التناقضات الإقليمية: تحاول بعض القوى المعارضة استثمار التناقضات بين القوى الكبرى في المنطقة، مثل النزاع السعودي-الإيراني، لتعزيز موقفها في مواجهة الأنظمة الحاكمة.
4 ـ الأفق المستقبلي: خطاب موحد في مواجهة التحديات الإقليمية
رغم التحديات، يمكن القول أن المعارضة الخليجية في المستقبل قد تكون قادرة على إعادة صياغة خطاب موحد يدمج بين الحرية والتحرر ويجمع بين الأولويات المحلية والإقليمية. فالتطورات الأخيرة في فلسطين، والتي شهدت تفاعلًا جماهيريًا واسعًا من قبل قطاعات واسعة من الشعب الخليجي، قد تساهم في تشكيل نموذج جديد للخطاب السياسي في الخليج.
ومع تصاعد الوعي الشعبي بضرورة مقاومة التطبيع مع الكيان الاسرائيلي، ودعوة الحركات المعارضة إلى إعادة بناء الدولة الوطنية على أسس ديمقراطية، يمكن أن يُنتج هذا التفاعل خطابًا سياسيًا موحدًا يعكس مصالح الشعوب الخليجية في التحرر الوطني والحرية السياسية.
في النتائج، تُظهر تحولات البيئة الإقليمية في دول الخليج تأثيرًا عميقًا على خطاب المعارضة الخليجية، الذي تأرجح بين التركيز على الإصلاح السياسي الداخلي وبين الاهتمام بالقضايا الإقليمية الكبرى، مثل القضية الفلسطينية. لقد فرضت الأنظمة الخليجية، وعلى وجه الخصوص الامارات والبحرين، الموقعة على اتفاقيات التطبيع مع الكيان الإسرائيلي تحديات مزدوجة، فقد كانت هذه الأنظمة محكومة باعتبارات الحفاظ على علاقات استراتيجية مع القوى الكبرى في الغرب، من جهة، وبين ممارسة الضغط الشعبي الداخلي على خلفية مطالبات بالحرية والكرامة الوطنية من جهة أخرى.
إن تحليل خطاب المعارضة الخليجية يبين بوضوح أن هناك تداخلًا معقدًا بين المطالب المحلية المتعلقة بالحريات السياسية ومكافحة الاستبداد، وبين المطالب الإقليمية ذات الطابع القومي التحرري، مثل مقاومة الهيمنة الغربية والتطبيع مع الكيان الاسرائيلي. في هذا السياق، يبدو أن هناك محاولات متزايدة من قوى المعارضة لتحقيق توازن بين المطالب المحلية والإقليمية، رغم وجود صعوبة في ذلك بسبب التحديات السياسية والاجتماعية العميقة.
على الرغم من الصعوبات، إلا أن هناك مؤشرات على إمكانية إعادة توجيه الخطاب المعارض نحو تحقيق وحدة وطنية تستند إلى رؤية شاملة تجمع بين مطالب الحرية والتحرر، وهو ما يمثل خطوة مهمة نحو تجسيد رؤية سياسية موحدة وشاملة، تحقق تطلعات الشعوب الخليجية نحو العدالة والمساواة، وتعزز من سيادتها الوطنية.
وهنا تبدو ضرورة تطوير الخطاب المعارض الموحد، إذ من المهم أن تواصل قوى المعارضة الخليجية جهودها لتوحيد خطابها السياسي بما يجمع بين المطالب المحلية والإقليمية. ينبغي على هذه القوى الابتعاد عن الانقسامات الداخلية التي قد تضعف موقفها، والعمل على تطوير خطابات سياسية تتمحور حول الحرية الديمقراطية والتحرر الوطني بشكل متكامل. ويجب أن تُركز هذه الجهود على تعزيز الوعي الشعبي حول أهمية الجمع بين حقوق الإنسان، والحفاظ على السيادة الوطنية، ومقاومة التدخلات الخارجية.
من جهة ثانية، ثمة حاجة للإستفادة من الحركات الشعبية في الخليج، إذ من الضروري أن تستفيد قوى المعارضة من الزخم الشعبي الذي ظهر في العديد من الحركات الشعبية في الخليج التي ترفض التطبيع وتطالب بتعزيز الحريات العامة. هذه الحركات تمثل قاعدة جماهيرية قوية يمكن أن تُساهم في بناء دعم شعبي واسع ضد الأنظمة المطبعة وضد السياسات الاستبدادية. بناء هذه الحركات الشعبية هو طريق أساسي لتحقيق تحول سياسي حقيقي في المنطقة.
في هذا السياق، لا بد من تعزيز التعاون مع القوى القومية والإقليمية، إذ إن التعاون مع القوى القومية في العالم العربي ومع الحركات التحررية في المنطقة سيكون ذا أهمية بالغة في تعزيز الجهود المشتركة لمقاومة الهيمنة الغربية والصهيونية. يجب على قوى المعارضة الخليجية أن تكون جزءًا من حركة عربية وإسلامية أوسع تسعى لتحقيق الحرية السياسية والاقتصادية لجميع شعوب المنطقة.
ولكن ذلك غير ممكن من دون تعميم وترسيخ الثقافة الديمقراطية والحقوقية، وهذا الدور لا بد أن تقوم به المعارضة الخليجية التي ينبغي عليها أن تضع نصب أعينها نشر ثقافة الديمقراطية والمطالبة بحقوق الإنسان كجزء من خطاباتها. يجب أن يكون التوعية بشأن الحقوق السياسية، مثل حرية التعبير والمشاركة السياسية، جزءًا أساسيًا من البرامج السياسية للمعارضة. ويمكن تحقيق ذلك من خلال ورش العمل، وحملات التوعية، والنشاطات الإعلامية عبر الإنترنت، وتفعيل دور المنظمات الحقوقية.
في خط مواز، ثمة حاجة إلى الضغط عبر القنوات الدبلوماسية الدولية، لأن الضغط الدولي يمكن أن يكون له دور كبير في تعزيز مطالب المعارضة الخليجية. لذا، يجب على القوى المعارضة أن تستخدم كافة القنوات الدبلوماسية والإعلامية الدولية لتسليط الضوء على الانتهاكات الحقوقية في دول الخليج، خاصة فيما يتعلق بمسائل الحريات السياسية وحقوق الإنسان. يمكن أيضًا الاستفادة من المنتديات الدولية لمناقشة قضية التطبيع مع الكيان الاسرائيلي وأثره على حقوق الفلسطينيين وحقوق شعوب المنطقة.
وفي النهاية، يتضح أن طريق التغيير السياسي في الخليج لا يزال طويلًا ومعقدًا. إلا أن الانخراط المستمر في الحوار بين مختلف أطياف المعارضة الخليجية، والتركيز على القضايا الوطنية والقومية المشتركة، يمكن أن يسهم في بناء خطاب موحد يحقق تطلعات شعوب الخليج في الحرية والكرامة الوطنية. وبينما يظل التطبيع قضية مركزية في الخطاب المعارض، فإنه لا يجب إغفال القضايا الداخلية التي تشكل تحديًا كبيرًا في مواجهة الاستبداد والفساد، والتي تحتاج إلى حل عميق ومستدام.
وعلى الرغم من الضغوط الإقليمية والدولية التي تواجهها المعارضة الخليجية، فإن هناك فرصة حقيقية لتشكيل حركة إصلاحية شاملة تكون قادرة على مواجهة الاستبداد السياسي وتعيد تصويب التحديات السياسية والأمنية التي تهدد استقرار بلدان الخليج.