التحولات الإقليمية بين الطموح والاحتواء : ( تطلعات السعودية في الهلال الخصيب واليمن)
الجزء الأول

مثّلت منطقة الهلال الخصيب واليمن مسرحًا مركزيًا لصراع النفوذ الإقليمي والدولي خلال العقود الأخيرة، لكنها اكتسبت أهمية خاصة في الاستراتيجية السعودية منذ اندلاع ثورات الربيع العربي سنة 2011، ثم تصاعد محور المقاومة، وتفكك النظام العربي التقليدي. ففي ظل هذا السياق المتحوّل، لم تعد السعودية تُقارب جوارها المشرقي من منطلق الاحتواء أو الدعم الرمزي، بل تبنّت، لأول مرة، سياسة تدخل مباشر، عسكريًا في اليمن، وسياسيًا وأمنيًا واقتصاديًا في سوريا والعراق ولبنان.
غير أن هذا الانخراط لم يُفضِ إلى النتائج المتوقعة. فبعد سنوات من الحرب المفتوحة، والتحالفات المتقلبة، وتبدّل مواقف الحلفاء، وجدت الرياض نفسها أمام واقع إقليمي جديد، يتطلب إعادة تعريف للأهداف، والأدوات، وحدود النفوذ الممكن. فقد تلاشت رهانات “الحسم”، وتراجعت مغامرات “الهيمنة”، لتحل محلها استراتيجية أكثر حذرًا، تتبنّى أدوات “النفوذ المرن”، وتركز على الاستقرار لا الانتصار، وعلى الاستثمار لا المواجهة.
ونحاول هنا تحليل تطلعات السعودية في أربع ساحات مشرقية رئيسية: سوريا، العراق، لبنان، واليمن، من خلال رصد تحوّلات سياستها، وتقييم استراتيجياتها بين الأعوام 2015 و2025، مع التركيز على المتغيرات التي فرضتها الأحداث الأخيرة، خاصة سقوط النظام السوري، وتراجع قوة حزب الله، وتغيّر طبيعة الحرب في اليمن.
وننطلق هنا من فرضية مفادها أن السياسة السعودية الخارجية تمر بمرحلة انتقال من التدخل الصلب إلى النفوذ الناعم، ومن عقيدة المواجهة إلى عقيدة التوازن، وهو ما يفتح الباب أمام قراءة جديدة لموقع السعودية في المشرق العربي، ليس فقط بوصفها قوة إقليمية، بل كفاعل يُعيد تعريف ذاته من خلال إعادة رسم حدوده، وتكييف طموحاته مع ما تسمح به الجغرافيا السياسية، لا مع ما تمليه الرغبة في القيادة.
السعودية.. سوريا ما قبل السقوط
منذ اندلاع المظاهرات عام 2011، كانت السعودية من أبرز الفاعلين الإقليميين المنخرطين في المشهد السوري، مدفوعة بثلاثة حسابات استراتيجية: أولها، الرغبة في إسقاط نظام بشار الأسد الحليف لطهران، وثانيها، دعم الحراك الشعبي ضمن موجة “الربيع العربي” بما يعزز من مكانة المملكة إقليميًا، وثالثها، مواجهة محور المقاومة الذي تنظر إليه السعودية على أنه تمدد إيراني.
دعمت الرياض المعارضة المسلحة سياسيًا وماليًا، واستضافت مؤتمر الرياض للمعارضة عام 2015، كما ساهمت في تشكيل “الهيئة العليا للمفاوضات”. لكنها كانت حذرة فيما يخص دعم فصائل إسلامية ذات طابع جهادي، ما خلق تباينًا بينها وبين قطر وتركيا. وفيما بعد، ومع تعقّد المشهد وتنامي الدور الروسي والإيراني، تبنت السعودية سياسة أكثر تحفظًا تمثلت في محاولة التأثير عبر المسارات الدبلوماسية والدولية، دون انخراط مباشر في الميدان.
بحلول عام 2018، ومع استعادة الأسد السيطرة على معظم الأراضي السورية، بدا أن السعودية تميل إلى “الواقعية السياسية”، متخذة خطوات نحو إعادة العلاقات، لكنها ظلت مترددة في الانفتاح الكامل. هذا المشهد انقلب رأسًا على عقب في ديسمبر 2024، مع السقوط المفاجئ للنظام.
تداعيات السقوط المفاجئ
في 8 ديسمبر 2024، سيطرت قوات المعارضة المسلحة، بقيادة “هيئة تحرير الشام” مدعومة من تركيا، على العاصمة دمشق، بعد هجوم واسع النطاق جاء إثر سلسلة جولات سريعة في الشمال والبادية. فرّ بشار الأسد إلى روسيا، معلنًا من هناك أن النظام “لم يسقط بل انتقل إلى معركة استراتيجية جديدة”. لكن الوقائع الميدانية والسياسية كانت تشير إلى نهاية فعلية للنظام الذي حكم سوريا لأكثر من خمسين عامًا.
تأسست على أنقاضه “الحكومة الانتقالية السورية” بقيادة أحمد الشراع، المعروف سابقًا أبو محمد الجولاني وكان زعيم جبهة النصرة، والتي أنجبت هيئة تحرير الشام، وأعلنت حكومة مؤقتة بدستور انتقالي مدته خمس سنوات، بدعم تركي واعتراف أولي من قبل بعض الدول الإقليمية مثل قطر وليبيا، فيما لحقت بها دول مثل السعودية ومصر والإمارات.
بالنسبة إلى السعودية، شكّل هذا التحول الميداني نهاية لمرحلة استراتيجية بأكملها، وبداية لمرحلة جديدة محفوفة بالفرص والمخاطر معًا.
الفرصة أم الفخ؟
مع سقوط نظام الأسد وصعود حكومة انتقالية بقيادة فصيل سلفي (هيئة تحرير الشام)، وجدت السعودية نفسها أمام مشهد غير مألوف: الخصم قد زال، لكن البديل لا يحمل بالضرورة تطابقًا مع رؤاها السياسية أو العقائدية. هذا الوضع أعاد طرح معضلة قديمة جديدة في السياسة الخارجية السعودية: كيف تدير المملكة علاقاتها مع قوى ما بعد الثورة، خصوصًا حين تتسم هذه القوى بطابع أيديولوجي سلفي مسلح؟
من الناحية الاستراتيجية، تمثل هذه المرحلة فرصة نادرة للسعودية للانخراط بفعالية في إعادة تشكيل النظام الإقليمي السوري، من خلال:
1 ـ تقليص النفوذ الإيراني: للمرة الأولى منذ عقود، تجد الرياض فرصة نادرة في التأثير في دمشق. فسقوط الأسد شكل مكسبًا سعوديًا استراتيجيًا، عملت منذ البداية على تعزيزه عبر تحالفات جديدة على الأرض وفي المحافل الدولية.
2 ـ إعادة التوازن مع تركيا: باتت أنقرة اللاعب الأبرز في سوريا الجديدة، ما يفرض على الرياض إعادة تعريف علاقتها بها، من التعاون التنافسي إلى التنسيق المشترك، خصوصًا أن كليهما يشتركان في “الصيدة” بلغة رئيس وزراء قطر الأسبق حمد بن جاسم.
3 ـ التأثير في عملية إعادة الإعمار: السعودية قادرة على لعب دور اقتصادي كبير في إعادة بناء سوريا، بشرط أن تحظى بضمانات دولية بأن أموالها لن تصب في مشاريع تخضع تحت سيطرة مجموعات معادية لها.
لكن في مقابل هذه الفرص، هناك تحديات بنيوية عميقة:
1 ـ الطابع العقائدي للحكومة الانتقالية: إذ تتكون من فصائل بعضها يحمل تصورات سلفية متشددة أو معادية صريحة للدولة الوطنية الحديثة. وهذا يضع السعودية أمام معضلة شرعية: هل تعترف بكيان ناشئ يحتكم إلى مرجعية عقائدية تتناقض مع رؤيتها الانفتاحية الجديدة؟
2 ـ القلق من نمو نموذج جديد شبيه بطالبان: رغم الفروقات، إلا أن بعض أوساط الحكم في السعودية ترى أن حكومة يقودها جناح من هيئة تحرير الشام قد تخلق بيئة مشابهة لحكم طالبان في أفغانستان، ما يجعل الاعتراف بها مسألة محفوفة بالمخاطر. وعلى الرغم من محاولات الحكم الجديد بقيادة الشرع (الجولاني) لانتاج صورة جديدة عن شخصيته وعن فريق الحكم الذي يديره بهدف طمأنة الحلفاء الجدد في الاقليم والعالم برعاية تركية وبريطانية وأميركية، فإن هناك من لا يزال يتحفظ إزاء الحكم الجديد في دمشق. وقد تعزّز القلق لهذا الجناح بعد حوادث السويداء في يوليو 2025 والتي كشفت عن الوجه الحقيقي للسلطة الجديدة عبر زجها بجماعات متوحّشة الى داخل المحافظة وارتكابها مجازر مروعة وبلغ عدد الضحايا خلال اسبوع من القتال 1120 قتيلًا، بحسب المرصد السوري لحقوق الانسان في 21 يوليو 2025.
3 ـ غياب التمثيل السني العربي التقليدي: لم تحظَ الحكومة الانتقالية الجديدة بتأييد شامل من النخب السنية التقليدية المدعومة سعوديًا، ما يضعف قدرة الرياض على التأثير داخل مؤسسات الحكم الجديدة.
الفرص الاستراتيجية
في أعقاب سقوط النظام السوري في ديسمبر 2024، أعادت المملكة السعودية رسم خرائط نفوذها الإقليمي على ضوء المتغيرات الجديدة. ورغم حساسية المشهد وتعقيداته، ظهرت أمامها جملة من الفرص الاستراتيجية، في حال أحسنت استثمار لحظة التوازن الهشة بين اللاعبين الدوليين والإقليميين.
1 ـ التحالف مع تركيا: التنسيق لا التنافس
برزت تركيا كقوة ضامنة للحكومة الانتقالية، وهي التي رعت سياسيًا وعسكريًا تحالفات المعارضة، وقدمت لها المأوى والدعم اللوجستي. هذا الواقع يفرض على السعودية تجاوز الإرث الخلافي السابق مع أنقرة (خاصة بعد أزمة اغتيال جمال خاشقجي وتباينات ملف الإخوان المسلمين) والانتقال إلى تنسيق ميداني وديبلوماسي يقوم على تقاسم النفوذ لا الاصطدام به.
إن انخراط الرياض إلى جانب تركيا في دعم النظام الجديد وإعادة الإعمار يمنحها أدوات ضغط فعلية داخل القرار السوري الانتقالي، ويقلل من احتمالات التفرد التركي بالساحة.
2 ـ التطبيع عبر البوابة السورية
يسعى الكيان الاسرائيلي إلى تأمين حدوده الشمالية، وقد بادر بعد سقوط النظام إلى فتح قنوات غير مباشرة مع الحكومة الانتقالية، برعاية غربية. هذه الخطوة، وإن كانت حذرة، تفتح الباب أمام تقاطع مصالح سعودي – إسرائيلي غير معلن، يتمحور حول الخصومة مع ايران واستبعادها من الساحة السورية وضمان ألا تتحول إلى ممر لنقل السلاح الى فصائل المقاومة في لبنان وفلسطين.
قد تجد السعودية نفسها مستفيدة من هذا التفاهم ضمن صفقة أوسع تدمج تطبيعًا تدريجيًا مشروطًا بالتسوية الفلسطينية، وهو ما يتماشى مع سياسة “الخطوة مقابل الخطوة” التي تتبعها الرياض في ملفات التطبيع.
3 ـ إعادة الإعمار: فرصة اقتصادية وسياسية
بصفتها أحد أكبر اقتصادات غرب آسيا، تمتلك السعودية القدرة على الدخول بقوة في مشاريع إعادة بناء البنية التحتية السورية، خاصة في قطاعات الإسكان، الطاقة، والاتصالات. لكن هذه المشاركة تتطلب بيئة سياسية مستقرة نسبيًا، وإشرافًا دوليًا يضمن الشفافية.
وقد بدأت مراكز سعودية مثل “الصندوق السعودي للتنمية” بدراسة آليات الدخول إلى السوق السورية الجديدة، مع التركيز على المناطق المحررة في حلب وإدلب وريف دمشق، وهو ما يمكن أن يعيد إنتاج الحضور السعودي في سوريا، هذه المرة من باب الاستثمار لا الحرب.
ولكن رغم اتساع رقعة الفرص أمام النظام السعودي في سوريا ما بعد الأسد، إلا أن المشهد يبقى محفوفًا بتحديات عميقة، ليس فقط على المستوى الجيوسياسي، بل أيضًا على مستوى البنية الفكرية للسياسة الخارجية السعودية، والمعايير التي تضبط تحركها الإقليمي.
1 ـ الإرث السلفي القاعدي
الحكومة الانتقالية السورية بقيادة ابو محمد الجولاني تمثّل – في بنيتها وخطابها – نموذجًا أصوليًا قاعديًا، يعتمد على مرجعية السلفية الجهادية، وإن حاولت تقديم واجهة سياسية معتدلة. وهذا يتناقض مع الخطاب السعودي الرسمي بعد 2017، الذي يعمل على تقديم ابن سلمان نفسه في صورة “الحداثوي العصري”، ونظامه كقوة إصلاح مناهض للتطرف.
وعليه، فإن أي تقارب غير مشروط مع هذه الحكومة قد يُفهم كتنازل عن الأسس الأيديولوجية التي تؤسس لشرعية مشروع “رؤية 2030″، أو يُفسر من قِبل الغرب كدعمٍ غير مباشر لتنظيمات غير ديمقراطية.
2 ـ الموقف الأمريكي والغربي
الولايات المتحدة في عهد ترامب قفزت خطوات مفاجئة في التعامل مع النظام الجديد بدأت بالاعتراف الحذر ثم رفع العقوبات (بطلب من رئيس وزراء الكيان الاسرائيلي نتنياهو بحسب تصريح ترمب في لقائه مع الأخير في 7 يوليو 2025) وصولًا إلى رفع وزارة الخارجية الأميركية اسم جبهة النصرة (تحت مسمى هيئة تحرير الشام) من قائمة الجماعات الإرهابية.
نتذكر في البداية، أن إدارة بايدن لم تعترف بالحكومة الانتقالية، وكانت تنتظر توافقات داخلية أوسع تشمل تمثيل الأقليات العرقية والدينية (خاصة الكرد والمسيحيين) وضمانات بشأن احترام حقوق الإنسان. ومع أن واشنطن كانت تمارس ضغوطًا على حلفائها الإقليميين – وبينهم السعودية – لعدم الاستعجال في التطبيع مع سلطات قد تُصنف في المستقبل كغير شرعية، إلا أن هذا الموقف تبدّل دراماتيكيًا منذ وصول ترمب إلى البيت الأبيض ولا سيما منذ لقائه الشرع على هامش قمة الرياض في منتصف مايو 2025، حيث أعلن ترامب بشكل مفاجئ عن رفع العقوبات الأمريكية عن سوريا، في تحول كبير في السياسة. وأنه اتخذ هذا القرار بناء على طلب ابن سلمان، مع أنه عاد وقال في لقائه مع نتنياهو في 7 يوليو بأن الأخير هو من طلب منه رفع العقوبات عن سورية.
هذا الموقف الغربي أراح ابن سلمان كثيرًا في التحرك على الساحة السورية، من دون اصطدام مع المؤسسات المالية الدولية أو عقوبات محتملة في حال مشاركة غير محسوبة في إعادة الإعمار أو دعم سياسي مباشر. ولذلك، سوف يستغل ابن سلمان الضوء الأخضر الاميركي لتسهيل نفوذه في المجال السوري عبر بوابة اعادة الاعمار.
الشكوك الداخلية والإقليمية
داخل الدوائر السياسية السعودية، ثمة تيارات متباينة في تقييم “المكاسب السورية”. هناك من يرى أن الدخول في سوريا اليوم هو استثمار طويل الأجل في هندسة نظام عربي جديد مستقل عن إيران، فيما يحذّر آخرون من التورط في تجربة شبيهة باليمن، حيث تحوّل التورط التدريجي إلى فخ استنزاف سياسي وأمني ومالي.
كما أن أطرافًا إقليمية مثل الإمارات ومصر لا تنظر بارتياح إلى انتصار فصائل “إسلامية” في دمشق، وقد تسعى إلى تقويض شرعيتها عبر دعم بدائل علمانية أو حليفة لها، مما يعقّد فرص الإجماع العربي حول المسار الجديد. ومع ذلك، فإن الامارات التي وجدت مشتركًا مع الرئيس الانتقالي في دمشق وهو الاستعداد للذهاب في العلاقة مع الكيان الاسرائيلي الى النهاية، قررت استيعابه واستقبلته أكثر من مرة، وكان آخرها زيارته أبو ظبي في 7 يوليو 2025 والتي من شأنها فتح صفحة جديدة في العلاقات بين دمشق وابو ظبي وقد تمهّد مستقبلًا للقاءات مع مسؤولين اسرائيليين.
غياب حلفاء محليين موثوقين
على خلاف ما حدث في العراق أو لبنان، لا تملك السعودية في سوريا حلفاء مؤسسيين منظمين داخل الدولة الجديدة. شبكاتها التقليدية (شخصيات دينية، زعامات قبلية، أو نخب اقتصادية) قد تلاشت مع انهيار النظام السابق، ما يجعل الرياض مضطرة لبناء شبكة نفوذ جديدة من الصفر، ضمن بيئة سياسية غير مأمونة. ولذلك، فهي تجد في مجموعة “الجولاني” موزّعة الولاءات الاقليمية والأوروبية والأميركية، ولا يمكن، والحال هذه، تصنيفها على أنها حليف حصري لجهة ما، السعودية أو التركية أو ..
وعليه، فإن السعودية تجد نفسها اليوم أمام لحظة مفصلية في سوريا: فالنظام العدو قد سقط، لكن الفراغ الناتج لا يملؤه حليف مضمون. والمجال مفتوح أمام الرياض لإعادة التموضع كقوة توازن إقليمي، شرط أن تدير حساباتها بمرونة، وأن توازن بين مصالحها الأمنية واعتباراتها الإيديولوجية.
فالتحفظ الزائد قد يؤدي إلى خسارة فرصة التأثير في مستقبل سوريا، بينما الاندفاع غير المدروس قد يزجّ بها في مسارات محفوفة بالمخاطر. إنها معادلة دقيقة، لا تُحسم بالسلاح ولا بالشعارات، بل بفن التقدير الهادئ للمصالح والنفوذ.
****
العلاقة السعودية – العراقية بعد 2003
شكّل الغزو الأمريكي للعراق عام 2003 لحظة فاصلة في تاريخ العلاقة بين السعودية والعراق، إذ انهار نظام صدام حسين، الذي كان رغم عدائه التاريخي للرياض يشكّل في نظر السعوديين سدًا سُنيًا ضد نفوذ طهران. ومع انفتاح العراق على ايران بعد سقوط النظام في ابريل 2003، تبنّت السعودية سياسة “الانكفاء الحذر”، حيث امتنعت لسنوات عن إقامة علاقات مباشرة أو التأثير في المسار السياسي العراقي، وفضّلت الاكتفاء بالدور غير المباشر عبر تشجيع الجماعات الارهابية والانتحاريين على العمل داخل الساحة العراقية مع دعم علني لبعض القوى السنية أو القنوات الدينية والإعلامية.
وكان الانكفاء السعودي مشروطًا بثلاثة مخاوف رئيسية:
ـ دعوى الهيمنة الإيرانية على القرار العراقي: حيث افترضت الرياض أن سقوط النظام السابق أحدث فراغًا هائلاً ووفّر فرصة لطهران لملء الفراغ وبناء شبكة واسعة من النفوذ السياسي والديني داخل العراق، عبر دعم الفصائل المقاومة للإحتلال الاميركي ودعم الحكومات الشيعية المتعاقبة، الأمر الذي جعل أي انخراط سعودي محفوفًا بشبهة الاستضعاف أو الاستغلال.
ـ تآكل الحضور السني التقليدي: فقد أدى تفكيك الدولة البعثية إلى إضعاف النخب السنية القريبة من السعودية، مقابل صعود قوى شيعية وازنة شعبيًا، ما أفقد الرياض أدواتها التقليدية للتأثير داخل الدولة العراقية.
ـ الاضطراب الأمني: وقد أدّت العمليات الارهابية والتفجيرات الواسعة النطاق ولا سيما من قبل الجماعات الارهابية، ثم تمدد “القاعدة” و”داعش”، وكانت السعودية تنظر اليها الجهات الأمنية العراقية بأنها ضالعة في موجة العمليات الارهابية والانتحارية التي ينفذها مواطنون سعوديون من التيار السلفي القاعدي. فقد ذكرت صحيفة نيويورك تايمز في 22 نوفمبر 2007 أن من بين 700 مقاتل أجنبي تمّ التعرف عليهم في العراق، كان هناك 305 سعوديين، أي ما يقارب 44% من الإجمالي، وأشارت إلى أن 60% من المقاتلين الأجانب الذين نفذوا هجمات انتحارية كانوا من السعودية أو ليبيا. من جهة ثانية، ذكرت صحيفة لوس أنجلِس تايمز في 17 يوليو 2007 نقلًا عن مسؤول أمريكي أن 45% من المقاتلين الأجانب في العراق كانوا سعوديين، وأوضح أن 50% من السعوديين الذين دخلوا العراق نفذوا عمليات انتحارية. وقد نقلت صحيفة “الصباح” العراقية في 17 مايو 2005 أن من بين 154 انتحاريًا خلال 6 أشهر، كان 61% منهم سعوديين.
ورغم ذلك، لم يكن الموقف السعودي مبنيًا على القطيعة المطلقة، بل اتسم بالحذر والمراقبة والاشتغال عبر الوسائط. وظلّت السعودية تعد العراق ساحة أساسية في معادلة التوازن مع إيران، لكنها فضّلت أن تخوض معارك النفوذ فيه عبر أدوات سياسية واقتصادية في الظاهر وعسكرية وأمنية في الخفاء وعبر الوكلاء.
استمر هذا الحذر حتى عام 2015، حين بدأت السعودية تعيد تقييم موقع العراق ضمن استراتيجيتها الإقليمية الجديدة بعد حربها على اليمن وبداية سياسة “الدبلوماسية الهجومية”، وهنا بدأت مرحلة جديدة من الانفتاح المشروط.
العودة من البوابة الاقتصادية والدبلوماسية
مع تحولات المشهد الإقليمي بعد عام 2015، وتحديدًا في أعقاب انطلاق حربها على اليمن تحت شعار “عاصفة الحزم”، بدأت السعودية بإعادة تموضعها الإقليمي، متبنية سياسة خارجية أكثر جرأة، وأشد عزمًا على كسر حالة الانكفاء التقليدي، خاصة في الدول التي شهدت فراغًا استراتيجيًا، فكان العراق أحد أبرز هذه الساحات، وكان لذلك مجموعة مؤشرات من بينها:
أ ـ إعادة فتح السفارة
في ديسمبر 2015، أعلنت السعودية إعادة فتح سفارتها في بغداد بعد انقطاع دام أكثر من 25 عامًا، منذ اجتياح الكويت عام 1990. ورغم أن التمثيل كان في البداية شكليًا ومحدودًا، إلا أنه حمل دلالة سياسية مهمة: اعتراف الرياض بشرعية العملية السياسية العراقية، واستعدادها للدخول من بوابة الدولة لا من خلال القنوات المذهبية أو الفصائلية.
وقد تزامن ذلك مع زيارات متبادلة بين مسؤولين سعوديين وعراقيين، أبرزها زيارة وزير الخارجية عادل الجبير إلى بغداد في 2017، تلتها زيارة رئيس الوزراء العراقي حيدر العبادي إلى الرياض، في مؤشر على بداية مرحلة جديدة من العلاقات. ولكن تخلّل هذه الفترة مرحلة عدم استقرار في العلاقات السعودية العراقية، بسبب عدم كفاءة الشخصية السعودية التي تولّت ملف ترميم العلاقة بين الرياض وبغداد، أي ثامر السبهان الذي كاد أن يتسبب في أزمة دبلوماسية.
في عام 2016، أدلى السبهان بتصريحات إعلامية اتهم فيها فصائل عراقية بالتخطيط لاغتياله، وهو ما أثار غضب الحكومة العراقية. وفي وقت لاحق، انتقد وجود قوات الحشد الشعبي في المناطق السنية، وأنه يثير التوتر الطائفي، مما دفع وزارة الخارجية العراقية إلى استدعائه رسميًا. وزاد على ذلك بخروجه عن الاعراف الدبلوماسية، بأن أرسل وفدًا لزيارة سجن الناصرية الذي يضم سجناء سعوديين، وهو ما عدته بغداد تجاوزًا لدوره كسفير.
وفي أغسطس 2016، طلبت وزارة الخارجية العراقية من السعودية استدعاء السبهان واستبداله، وعدّت تصريحاته “تدخلًا صارخًا”. في ردها على الطلب العراقي، قامت السعودية بتخفيض تمثيلها الدبلوماسي، وعيّنت عبدالعزيز الشمري قائمًا بالأعمال بدلًا من السبهان الذي عيّن وزير دولة لشؤون الخليج العربي بموجب أمر ملكي صادر في أكتوبر 2016.
وبعد أزمة السبهان شهدت العلاقات السعودية العراقية تحولًا تدريجيًا من التوتر إلى الانفتاح والتعاون، مدفوعة بتغيّرات إقليمية ورغبة مشتركة في تجاوز الخلافات، ولا سيما بعد زيارة الجبير بغداد في 2017، وهي أول زيارة من نوعها منذ 27 عامًا، وقدم دعوة رسمية لرئيس الوزراء العراقي حيدر العبادي لزيارة الرياض. تبعتها زيارات متبادلة، وتأسيس مجلس تنسيقي سعودي-عراقي لتطوير العلاقات إلى مستوى استراتيجي.
كما تمت إعادة فتح منفذ عرعر الحدودي عام 2017 بعد إغلاق دام عقودًا. وتشغيل الخطوط الجوية المباشرة بين البلدين، وكذلك توقيع اتفاقيات اقتصادية واستثمارية، منها مشاريع زراعية وكهربائية، أبرزها مشروع الربط الكهربائي الخليجي عبر العراق.
يبقى أن هناك قوى سياسية عراقية وازنة لا تزال تشكّك في النوايا السعودية، وتعد الانفتاح جزءًا من مشروع أمريكي إقليمي، وهذه الشكوك تلقى صدى لدى تيار عريض لديه مؤاخذاته على دور السعودية الاقليمي.
ب ـ المجلس التنسيقي السعودي – العراقي
في أكتوبر 2017، جرى الإعلان عن تأسيس “المجلس التنسيقي السعودي – العراقي”، وهو هيئة مشتركة هدفها تنسيق التعاون في مجالات متعددة، من الاقتصاد والاستثمار إلى الطاقة والتعليم. وجاء ذلك برعاية مباشرة من الولايات المتحدة، التي شجعت السعودية على تعزيز حضورها في العراق كجزء من استراتيجية “كبح إيران” دون تدخل عسكري مباشر.
وقد عُدّ هذا المجلس بمثابة الإطار المؤسسي الذي يمكن للسعودية من خلاله تعويض سنوات الغياب، والعودة كفاعل اقتصادي وتنموي، لا كطرف مذهبي في نزاع سني – شيعي.
ج ـ الاستثمار في الجنوب وبناء النفوذ الناعم
بدأت السعودية تدرس فرص الاستثمار في قطاعات واعدة داخل العراق، مثل الزراعة في السماوة، والطاقة الشمسية في النجف، وإنشاء مناطق تجارية حدودية بين عرعر والنخيب. كما دعمت مشاريع ثقافية وتعليمية وصحية، في محاولة لاختراق المجال الشيعي.
واعتبرت هذه الخطوات جزءًا من استراتيجية “النفوذ الناعم” التي تتبناها السعودية في العراق، وتقوم على التغلغل عبر الاستثمار والبنى التحتية بدلاً من الرهانات العسكرية أو الطائفية.
3 ـ الرهانات الجديدة: كسر الهيمنة الإيرانية؟
مع عودة السعودية إلى الساحة العراقية من بوابة الاقتصاد والدبلوماسية، بدأت مرحلة أكثر حساسية في سياساتها تجاه بغداد، حيث لم تعد الرياض تكتفي بدور الحضور الرمزي، بل دخلت في سباق خفي مع النفوذ الايراني المتجذر في البنية السياسية للعراق ما بعد 2003. غير أن هذا الرهان لم يكن سهلًا، بل اصطدم بتعقيدات داخلية عراقية، ومحدودية خيارات السعودية في اختيار حلفاء موثوقين، وأخذ الرهان أشكالًا على النحو الآتي:
أ ـ مراهنة حذرة على التيار الصدري
اعتبرت السعودية، في السنوات الأخيرة، أن التيار الصدري بزعامة السيد مقتدى الصدر يمثل “الخصم الشيعي الأضعف في صلته بإيران”، رغم ماضيه المتقلّب. وقد لوحظ في أكثر من محطة تقارب غير معلن بين الرياض والسيد الصدر، خاصة بعد انتخابات 2018 و2021، حين سعت الرياض إلى دعم فكرة “الكتلة الأكبر الوطنية” التي توازن بين الشيعة والسنّة والكرد وتقلص نفوذ فصائل المقاومة.
لكن هذا الرهان ظل محفوفًا بالقلق، بسبب المزاج الشعبوي المتقلّب للصدر، وتناقضات مواقفه بين الانفتاح على الخليج ومناهضة الوجود الأجنبي، بما فيه السعودي أحيانًا. ولهذا، لم تُضفِ السعودية طابعًا رسميًا على أي علاقة مع التيار الصدري، بل أبقتها في حدود القنوات الخلفية، فيما عزّزت علاقاتها مع تيار الحكمة بقيادة السيد عمار الحكيم، على الرغم من أن الوزن الشعبي والسياسي لتيار الحكيم لا تلبي مستوى التطلع السعودي في النفاذ الى أعماق المجال الشيعي.
ب ـ انفتاح تكتيكي على المرجعية النجفية
سعت السعودية أيضًا إلى مدّ جسور مع المرجعية الشيعية في النجف، ممثلةً بالمرجع الأعلى السيد علي السيستاني، في محاولة للفصل بين ما تعتقدها مرجعية وطنية ومرجعية إيرانية (ولائية). وقد شجعت على دعم خطاب السيستاني الداعي، بحسب زعمها، إلى الدولة المدنية، وسيادة القانون، وتحجيم سلاح الفصائل.
إلا أن هذا الانفتاح لم يتطور إلى علاقة مؤسسية، بسبب تحفّظ المرجعية على التدخلات الإقليمية عمومًا، وتمسكها بموقع الحَكَم الأخلاقي لا الفاعل السياسي. كما أن السعودية كانت حريصة على عدم الظهور بمظهر “المتدخل الشيعي” في الحوزة العراقية، وهو ما يفسّر محدودية خطواتها في هذا الاتجاه.
ج ـ السنّة بلا رافعة… والكرد كجسر لا كحليف
رغم أن المكوّن السني هو الأقرب للسعودية تاريخيًا، إلا أن انقسام القيادات السنية، وارتباط بعضها بمشروع المقاومة أو مصالح محلية ضيقة، أفقد الرياض الثقة بإمكانية بناء تحالف متماسك داخل هذا المكوّن. وقد حاولت السعودية دعم بعض الشخصيات البراغماتية (مثل محمد الحلبوسي)، لكنها وجدت أن الحضور السني في العراق لا يزال ضعيفًا ومهمشًا ضمن معادلة القرار المركزي.
أما في كردستان، فتعاملت السعودية مع الإقليم بكونه “جسرًا دبلوماسيًا” أكثر من كونه حليفًا استراتيجيًا، خصوصًا أن علاقة أربيل بأنقرة متقدّمة، كما أن الكرد يتجنبون الدخول في محاور إقليمية خشية إغضاب بغداد أو طهران.
4 ـ التحديات البنيوية أمام النفوذ السعودي
رغم كل ما أنجزته السعودية على صعيد الحضور الدبلوماسي والاستثمار الاقتصادي في العراق خلال السنوات الأخيرة، إلا أن مشروعها في بغداد لا يزال يواجه عقبات بنيوية معقدة تجعل من طموحها الإقليمي هناك رهين التوازنات الداخلية العراقية، والقيود الجيوسياسية المفروضة من الخارج. هذه التحديات تُضعف قدرة الرياض على ترجمة حضورها إلى نفوذ فعلي، وتكبح اندفاعها نحو دور قيادي في العراق.
أـ الحشد الشعبي..حائط الصد الأول
تُعدّ فصائل المقاومة، ولا سيما المنضوية في الحشد الشعبي القوة الأكثر تهديدًا لأي تمدد سعودي في العراق، خصوصًا في المناطق ذات الأغلبية الشيعية. هذه الفصائل تنظر إلى السعودية بوصفها خصمًا عقائديًا وسياسيًا، وتتهمها بالمسؤولية عن تغذية التيار السلفي المسلّح وتمويل الإرهاب.
وعلى الأرض، مارست الفصائل ضغطًا مباشرًا ضد أي مشروع استثماري سعودي في الجنوب، وشنّت حملات إعلامية ضد السفارة السعودية وضد الزيارات الرسمية، ما خلق مناخًا من التوتر الدائم، حدّ من قدرة الرياض على توسيع أنشطتها.
ب ـ الانقسام الداخلي
يُعاني العراق من انقسام سياسي حاد، بين قوى شيعية متنافسة، ومرجعيات دينية غير منسجمة، ونخب سنيّة ممزقة بين التبعية والانكفاء، فضلًا عن التوتر بين بغداد وأربيل. هذا الانقسام يضعف أي محاولة سعودية لبناء علاقة شراكة مستقرة مع الدولة العراقية، في ظل مشهد تعددي هش، يتطلب التعامل مع أطراف متعددة ومتعارضة.
وفي هذا السياق، تضطر السعودية إلى مراعاة الحساسيات الطائفية والجهوية في كل خطوة، ما يُبطئ من حركتها، ويجعل حضورها مرهونًا بحسابات دقيقة وغير مضمونة النتائج.
ج ـ التحفظ الأمريكي على التدويل الخليجي
ورغم أن الولايات المتحدة شجعت السعودية على الانخراط في العراق ضمن استراتيجية “احتواء إيران”، إلا أنها لم تسمح لها بهامش كامل من المناورة. فواشنطن – التي لا تزال تحتفظ بقواعد عسكرية وقنوات تأثير في بغداد – تخشى من أن يؤدي تزايد النفوذ الخليجي إلى استثارة ردود فعل عنيفة من الفصائل، أو إلى تسريع الاصطفاف بين قوى الداخل العراقي، بما يعقّد مهمة التهدئة والتوازن التي تحاول إدارتها بين طهران والرياض.
لذلك، فإن الدعم الأمريكي للمشروع السعودي في العراق مشروط ومحكوم بإيقاع بطيء ومنضبط، يحول دون تحوّل السعودية إلى فاعل مهيمن، حتى وإن رغبت هي في ذلك.
5 ـ الخيارات الاستراتيجية: ماذا تريد السعودية من بغداد؟
بعد أكثر من عقدين من الغياب النسبي عن الساحة العراقية، يبدو أن السعودية قد رسمت لنفسها مقاربة جديدة تقوم على الموازنة بين الحضور الاقتصادي والسياسي، دون الانخراط المباشر والعلني في مغامرات أمنية أو محاور صدامية. لكن هذا لا يعني غياب الطموح، بل يعكس فهمًا جديدًا لمحدودية القوة في بيئة معقدة مثل العراق. وهذا الخيار له اشتراطات من بينها:
1 ـ إعادة التوازن الإقليمي لا السيطرة
السعودية لا تسعى إلى الهيمنة في العراق ليس رغبة ولكن عجزًا، ولذلك، فإن ما تسعى إليه هو “تحييد” العراق تدريجيًا عن المحور الإيراني، عبر تمويل مشاريع تجارية بخلفية سياسية وأمنية كما في مشروع منفذ الجميمة بين السماوة والمثنى. الهدف الأساسي هو استغلال السعودية لقدرتها المالية على تحقيق نفوذ واسع في العراق.
لذلك، فإن الرهان السعودي يقوم علىبناء علاقات مع زعامات سياسية ودينية ومع الفصائل والتجار؛أي توظيف العراق لمصالحها الخاصة.
2 ـ ـ تعزيز النفوذ الاقتصادي
تدرك الرياض أن الأداة الأكثر فعالية لبناء نفوذ مستقر ومستدام هي الاقتصاد، لا العقيدة أو الاصطفاف المذهبي في بلد منقسم يبدو فيه الاستقطاب المذهبي حادًا. ولهذا، تركز مشاريعها على قطاعات حيوية مثل:
ـ الزراعة في الجنوب (النجف والمثنى)
ـ الاستثمار في المناطق الصناعية الحدودية
ـ الطاقة المتجددة
ـ التعليم والتدريب المهني
وهذه المشاريع تُقدَّم غالبًا في إطار “التعاون بين شعبين”، بعيدًا عن الشعارات السياسية، مما يمنحها قبولًا محليًا واسعًا، أي بما يحقق لها اختراقًا ناعمًا ولكن لغايات غير نبيلة بالضرورة.
3 ـ عدم الدخول في تحالفات دائمة
بخلاف ما فعلته إيران، تتجنب السعودية بناء تحالفات عقائدية أو أمنية طويلة الأمد مع قوى عراقية بعينها. وهي تدرك أن كل تحالف دائم يُصبح عبئًا سياسيًا في بيئة متقلبة، لذلك تُبقي علاقاتها “مرنة”، قابلة لإعادة التشكيل حسب السياق. فالحليف اليوم قد يصبح خصمًا غدًا، والعكس.
وهذه السياسة تمنح السعودية مساحة أكبر للمناورة، لكنها تحرمها – في المقابل – من عمق استراتيجي دائم، ما يجعلها عرضة للتقلبات السياسية والأمنية في الداخل العراقي.
4 ـ استراتيجية الحزام العربي الإقليمي
أحد أهداف السعودية غير المعلنة في العراق هو إعادة تشكيل “حزام عربي” يربط المملكة بالأردن وسوريا والعراق، ويخلق نوعًا من العمق الإقليمي الموازي لمشروع محور المقاومة. ولهذا، فإن العراق يُعدّ نقطة وصل أساسية في مشروع التوازن السعودي، جغرافيًا واستراتيجيًا.
وقد ظهرت معالم هذه الرؤية في “مشروع الربط الكهربائي”، و”منطقة التجارة الحرة” السعودية – العراقية – الأردنية، التي تسعى لتقليص ارتباط العراق بإيران اقتصاديًا، وربطه أكثر بمنظومة عربية جديدة بقيادة الرياض.
في نهاية المطاف، لا تسعى السعودية اليوم إلى كسب العراق، بل إلى عدم خسارته. وهي تعرف مستوى نفوذ ايران في العراق، لكنها تؤمن بأن النفوذ الاقتصادي، والسياسي الهادئ، والدبلوماسية الذكية، يمكن أن تخلق توازنًا جديدًا ولو ببطء.