الجزء الثالث

بعد دراسة النزاعات الحدودية الرئيسية بين دول مجلس التعاون، يمكن استشكاف الأطر القانونية وآليات الحل المستخدمة، والآثار الاقتصادية، والأبعاد الأمنية، وآثارها على وحدة دول المجلس وتعاونها.
الحل القانوني للخلافات الحدودية :
عولجت النزاعات الحدودية في دول مجلس التعاون من خلال مجموعة متنوعة من الأطر القانونية وآليات الحل، مما يعكس التفاعل المعقد بين القانون الدولي والأعراف الإقليمية والدبلوماسية الثنائية. وقد أدت هذه المقاربة إلى تظهير تحديات وإمكانيات إدارة النزاعات الإقليمية سلميًا.
القانون الدولي والإرث الاستعماري :
تتأثر الأطر القانونية التي تحكم نزاعات الحدود في دول مجلس التعاون بشكل كبير بالإرث الاستعماري، وخاصةً قرارات ترسيم الحدود البريطانية. ولا تزال الاتفاقيات والقرارات الإدارية التي تعود إلى الحقبة الاستعمارية تتمتع بثقل قانوني كبير في النزاعات الإقليمية، مما يعكس مبدأ “الحيازة القانونية الجارية” – أي افتراض أن الدول الجديدة ترث الحدود الاستعمارية. وقد لقي هذا المبدأ قبولًا عامًا في سياق دول مجلس التعاون، وإن كان غالبًا ما ترافق مع محاولات للتفاوض على تعديلات على الترتيبات الاستعمارية.
كان للعديد من وثائق الحقبة الاستعمارية الرئيسية تأثيرٌ خاص في عمليات التحكيم والمفاوضات الحدودية اللاحقة:
1 ـ الاتفاقية الأنجلو – عثمانية لعام 1913، التي وضعت مبادئ للحدود في شرق شبه الجزيرة العربية.
2 ـ اتفاقية العقير لعام 1922، التي حدّدت الحدود الكويتية السعودية وأنشأت المنطقة المحايدة.
3 ـ قرارات إدارية بريطانية مختلفة، مثل منح جزر حوار للبحرين عام 1939.
4 ـ الخرائط والمسوحات التي أعدها المسؤولون البريطانيون، والتي استُشهد بها كأدلة في العديد من النزاعات.
ويمثل استمرار السلطة القانونية لقرارات الحدود الاستعمارية إرثًا معقدًا من المواجهة الإمبراطورية، إذ يوفر في الوقت نفسه الوضوح ويُديم الترتيبات التي وُضعت بمدخلات محلية محدودة. وقد كان هذا التوتر بين الاستقرار الذي وفرته الحدود الاستعمارية وأصولها الإشكالية المحتملة موضوعًا متكررًا في نزاعات حدود دول مجلس التعاون الخليجي.
إلى جانب الإرث الاستعماري، لعبت العديد من المبادئ القانونية الدولية دورًا مهمًا في حل نزاعات حدود دول مجلس التعاون:
1 ـ السيطرة الفعلية: برز مبدأ أن الممارسة الفعلية والمستمرة للسلطة على الأراضي تعزز مطالبات السيادة بشكل بارز في قضايا مثل النزاع بين قطر والبحرين. وغالبًا ما كان دليل السيطرة الفعلية – بما في ذلك الإدارة، والسيطرة الأمنية، وإقامة مشاريع بنية تحتية – حاسمًا في النزاعات الإقليمية.
2 ـ الملكية التاريخية: قُدمت مطالبات تستند إلى الوجود التاريخي أو السلطة التقليدية في العديد من النزاعات، وإن كانت متفاوتة النجاح. يجب دعم حجج الملكية التاريخية عمومًا بأدلة على السيطرة الفعلية بدلاً من مجرد ادعاءات السلطة التقليدية، وهذا ما كان يردّده عبد العزيز بن سعود تحت شعار “ملك الآباء والأجداد”، والذي يستوعب مناطق واسعة من الخليج تمتد إلى سلطنة عمان.
3 ـ التجاور الجغرافي: تم الاستشهاد بمبدأ أن الإقليم ينتمي بشكل طبيعي إلى البر الرئيسي المجاور له في قضايا مثل مطالبة قطر بجزر حوار. ومع ذلك، وكما أظهر حكم محكمة العدل الدولية في تلك القضية، فإن حجج التجاور عادةً ما تحمل وزنًا أقل من أدلة السيطرة الفعلية أو الاتفاقيات الصريحة.
4 ـ مبادئ الحدود البحرية: قدمت اتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار (UNCLOS) أطرًا مهمة لترسيم الحدود البحرية، على الرغم من التعديلات التي تلائم الجغرافيا الفريدة للخليج. وتتطلب المساحة الضيقة للخليج تعديلات على مبادئ ترسيم الحدود البحرية القياسية، وغالبًا ما تكون المسافة المتساوية بمثابة نقطة انطلاق للتعديلات بناءً على الظروف الخاصة.
المفاوضات الثنائية مقابل التحكيم الدولي:
لجأت الحكومات الخليجية في حل النزاعات الحدودية إلى المفاوضات الثنائية والتحكيم الدولي، ولكلٍّ منهما مزاياه وقيوده الخاصة. يعكس الاختيار بين آليات الحل الثنائية وآليات الحل من طرف ثالث حسابات القوة التفاوضية النسبية، وطبيعة النزاع، والاعتبارات الدبلوماسية الأوسع.
كانت المفاوضات الثنائية هي النهج السائد، وقد استُخدمت على نحو مقصود في النزاعات السعودية الإماراتية، والسعودية القطرية، والعُمانية الإماراتية. واتسمت هذه المفاوضات عادةً بما يلي:
1 ـ دبلوماسية مباشرة بين الحكام: غالبًا ما كانت العلاقات الشخصية بين ملوك الخليج حاسمة في تسوية النزاعات أو تبريدها أو تأجيلها. إن الطبيعة الشخصية للسياسة الخليجية تعني أن قنوات الحوار بين الحكام قد تُحقق أحيانًا اختراقات في الحالات التي تتعثر فيها العمليات الدبلوماسية الرسمية، وفي حالات محددة يمارس فيها الأقوى ضغوطًا على الأضعف لإرغامه على التنازل.
2 ـ السرية: تم التفاوض على العديد من اتفاقيات الحدود الثنائية مع إفصاح محدود للعامة، مما سمح بتقديم تنازلات حساسة نتيجة ضغوط سياسية. إن غموض العديد من مفاوضات الحدود في دول مجلس التعاون قد سهّل التوصل إلى حلول عملية ربما كانت ستكون صعبة سياسيًا لو أُجريت بشفافية أكبر.
3 ـ الارتباط بقضايا ثنائية أخرى: غالبًا ما ارتبطت مفاوضات الحدود بعلاقات ثنائية أوسع، حيث وازنت التنازلات في النزاعات الإقليمية مكاسب في مجالات أخرى. إن دمج مفاوضات الحدود في علاقات ثنائية أوسع قد مكّن من إبرام صفقات شاملة يصعب تحقيقها إذا ما نُظر إلى مسألة الأراضي بمعزل عن غيرها.
4 ـ التنفيذ التدريجي: تمّ تنفيذ العديد من الاتفاقيات الثنائية تدريجيًا، حيث أعقب الترسيم الرسمي ترسيم فعلي على مدى فترات طويلة. كان التحكيم الدولي أقل شيوعًا، ولكنه لعب دورًا حاسمًا في بعض النزاعات، وأبرزها قضية قطر والبحرين أمام محكمة العدل الدولية. ومن مزايا هذا النهج:
1 ـ الوضوح القانوني: يوفر التحكيم الدولي تفسيرات قانونية موثوقة للمطالبات الإقليمية المعقدة. إن التحليل الشامل الذي أجرته محكمة العدل الدولية في قضية قطر والبحرين قد أرسى سوابق مهمة لتطبيق القانون الدولي على النزاعات الإقليمية الخليجية، كما كشف عن حدود قدرة مجلس التعاون على معالجة ملف الخلافات الحدودية وهذا يسجّل عيبًا بنيويًا في المجلس.
2 ـ الحياد المُتصوَّر: يمكن للتحكيم من قِبل طرف ثالث أن يتغلب على انعدام الثقة بين المتنازعين. إن الحياد المُتصوَّر للمحاكم الدولية يمكن أن يجعل قراراتها أكثر قبولًا لدى الجمهور المحلي من التسويات الثنائية.
3 ـ الحل الشامل: عادةً ما يتناول التحكيم الدولي جميع جوانب النزاع بدلاً من ترك الغموض. حلّ حكم قطر والبحرين العديد من القضايا الإقليمية والبحرية في آنٍ واحد، موفرًا حزمة متكاملة بدلًا من حل جزئي.
ومع ذلك، فإن للتحكيم الدولي أيضًا حدودًا في سياق دول مجلس التعاون:
1 ـ مخاوف السيادة: يمكن اعتبار إحالة النزاعات إلى التحكيم الخارجي مساسًا بالسيادة، ومع ذلك حين بلغت النزاعات الحدودية طريقًا مسدودًا لجأ المتخاصمون إلى التحكيم الدولي بعد أن كانت دول الخليج عمومًا تفضل الحفاظ على سيطرتها على القضايا الإقليمية بدلًا من تفويض صنع القرار للمؤسسات الدولية.
2 ـ نتائج غير متوقعة: لا يمكن للأطراف التحكم في نتائج التحكيم، مما يخلق مخاطر اتخاذ قرارات غير مواتية. إن عدم اليقين بشأن نتائج التحكيم قد ردع بعض دول مجلس التعاون عن اتباع هذا النهج، لا سيما عندما قد تُمكّن عدم التوازن في القوة من التوصل إلى تسويات ثنائية أكثر ملاءمة.
3 ـ تحديات التنفيذ: حتى الأحكام القانونية الواضحة تتطلب إرادة سياسية للتنفيذ. تعتمد فعالية التحكيم الدولي في نهاية المطاف على التزام الدول باحترام الأحكام، وهو أمر لا يمكن اعتباره أمرًا مفروغًا منه.
الوساطة الإقليمية ودور المجلس :
لعب مجلس التعاون دورًا محدودًا في حل النزاعات الحدودية، مما يعكس تفضيل الدول الأعضاء للحفاظ على السيطرة السيادية على القضايا الإقليمية. يستثني ميثاق مجلس التعاون صراحةً النزاعات الحدودية من ولاية المنظمة، حيث ينص في المادة الخامسة على أن “مجلس التعاون لا يُعنى بمسائل الحدود أو النزاعات الإقليمية بين الدول الأعضاء”. يعكس هذا الاستبعاد الصريح تصميم الأعضاء المؤسسين على منع المنظمة من التدخل فيما اعتُبر مسائل سيادية جوهرية، وهو اعتراف ضمني بأن الخلافات الحدودية عميقة ومن الصعب حلها عبر المجلس الذي أريد منه وظائف محددّة.
على الرغم من هذا التقييد الرسمي، وفّر مجلس التعاون أماكن غير رسمية لمناقشة قضايا الحدود. أتاح مؤتمرات القمة والاجتماعات الوزارية لمجلس التعاون فرصًا لمناقشات جانبية حول القضايا الإقليمية الثنائية في سياق إقليمي. وكان لهذا الدور غير الرسمي أهمية خاصة في خلق زخم للحل عندما تعثرت القنوات الثنائية، ولكن لم تصل الى حدود بعيدة، أي تسوية الخلافات الحدودية.
وقد قامت دول أعضاء في مجلس التعاون، كل على حدة، بدور الوسيط في النزاعات بين الأعضاء الآخرين. لعبت السعودية، بصفتها أكبر دول مجلس التعاون وأكثرها نفوذاً، هذا الدور في أغلب الأحيان. وكانت جهود الوساطة السعودية أكثر فعالية بالاستفادة من العلاقات الثنائية الأوسع. ومع ذلك، فقد تعقدت مشاركة السعودية في بعض الأحيان بسبب نزاعاتها الإقليمية مع الدول المجاورة.
الآثار الاقتصادية للنزاعات الحدودية:
كان للنزاعات الحدودية في دول مجلس التعاون آثار اقتصادية عميقة، إذ أثرت على تنمية الموارد، وتدفقات التجارة، ومشاريع البنية التحتية، والتكامل الاقتصادي الإقليمي. وقد عقّدت هذه الأبعاد الاقتصادية حل النزاعات من خلال زيادة مخاطر المطالبات الإقليمية، ويسّرت التسوية من خلال خلق حوافز للتعاون.
النفط والحدود :
كان اكتشاف واستغلال موارد النفط والغاز عاملاً محوريًا في النزاعات الحدودية بين دول مجلس التعاون، حيث حوّل الأراضي الهامشية سابقًا إلى أصول قيّمة. غيّرت جغرافية النفط بشكل كبير الجغرافيا السياسية لشبه الجزيرة العربية، مما جعل ترسيم الحدود بدقة ضرورة اقتصادية ملحة. أثر هذا البعد المتعلق بالموارد على سياسات الحدود بطرق عدة:
ـ تفاقم النزاعات القائمة: زادت اكتشافات النفط قرب الحدود المتنازع عليها من أهمية المطالبات الإقليمية التي كانت ذات أولوية منخفضة سابقًا. اكتسب نزاع البريمي أهمية متزايدة بعد أن أشارت المسوحات الجيولوجية إلى وجود احتياطيات نفطية محتملة في المنطقة، مما حوّل منطقة قبلية محيطية إلى أصل استراتيجي. وحدثت ديناميكيات مماثلة في المنطقة المحايدة الكويتية السعودية، وحقل الشيبة/زرارة في منطقة الحدود السعودية الإماراتية، والعديد من النزاعات الحدودية البحرية.
ـ التعقيد التقني: أضافت جيولوجيا النفط أبعادًا تقنية إلى مفاوضات الحدود، مما تطلب مراعاة خصائص الخزانات وطرق الاستخراج المثلى. أدت مخاوف توحيد حقول النفط – الحاجة إلى إدارة الخزانات كوحدات جيولوجية واحدة بغض النظر عن الحدود السياسية – إلى تعقيدات تقنية لما كان من الممكن أن يكون ترسيمًا إقليميًا مباشرًا. وقد ساعد هذا البعد التقني في بعض الأحيان على إيجاد حلول عملية تعتمد على مبادئ إدارة الموارد بدلاً من مفاهيم السيادة الصارمة.
الحوافز الاقتصادية للحل: لقد خلقت الفوائد الاقتصادية المحتملة لتطوير الموارد المتنازع عليها حوافز لحل النزاعات الإقليمية. إن احتمالية فتح آفاق تطوير الموارد في المناطق المتنازع عليها قد حفزت على إيجاد حلول وسطية ربما كانت لتصعب سياسياً لولا ذلك. وقد تجلى هذا التوجه بشكل خاص في اتفاقية المنطقة المقسومة بين الكويت والسعودية، وفي مختلف اتفاقيات الحدود البحرية التي تضمنت أحكاماً لتقاسم الموارد.
نفوذ الشركات: لعبت شركات النفط الدولية أحيانًا أدوارًا تسهيلية في النزاعات الحدودية، سواءً كأصحاب مصلحة، أو كمستشارين فنيين للحكومات. أظهر عرض أرامكو لخريطة عام 1949 التي تطالب بأراضٍ إضافية للمملكة السعودية كيف يمكن لمصالح الشركات أن تؤثر بشكل مباشر على سياسات الحدود. كما سهّلت شركات النفط التعاون الفني عبر الحدود، مما أدى في بعض الأحيان إلى إنشاء ترتيبات بحكم الأمر الواقع تسبق الاتفاقات الرسمية. تفاوتت القيمة الاقتصادية لموارد النفط بشكل كبير عبر مختلف المناطق المتنازع عليها، مما خلق ديناميكيات مختلفة في كل حالة. وقد حظيت النزاعات عالية القيمة، كتلك التي تشمل حقول النفط الرئيسية، باهتمام وموارد أكبر، إلا أنها كانت أيضًا أكثر صعوبة في الحل نظرًا للمخاطر الاقتصادية المترتبة عليها. كانت العلاقة بين قيمة الموارد وشدة النزاع قوية، وإن لم تكن مطلقة، حيث أثرت عوامل أخرى – بما في ذلك الموقع الاستراتيجي، والمطالبات التاريخية، والسياسة الداخلية – أيضًا على الأولويات الإقليمية.
البنية التحتية عبر الحدود :
أثّرت النزاعات الحدودية بشكل كبير على تطوير البنية التحتية عبر الحدود والتكامل الاقتصادي بين دول مجلس التعاون. أدّت القضايا الإقليمية غير المحسومة أحيانًا إلى تأخير أو منع مشاريع البنية التحتية التي من شأنها أن تعزز الاتصال الإقليمي والكفاءة الاقتصادية. وقد ظهر هذا التأثير جليًا في عدة مجالات:
1 ـ شبكات النقل: غالبًا ما تأخرت وصلات الطرق والسكك الحديدية عبر الحدود المتنازع عليها حتى يتم حل القضايا الإقليمية. لقد تأثر تطوير شبكة الطرق في دول مجلس التعاون بحالة النزاعات الحدودية، حيث كانت الاتصالات عبر الحدود المستقرة أسرع من تلك الموجودة عبر المناطق المتنازع عليها. على سبيل المثال، تأثر مشروع جسر قطر الإماراتي بالنزاع الإقليمي بين البلدين، ثم بالأزمة الدبلوماسية، وكذلك جسر المحبة بين قطر والبحرين..
2 ـ البنية التحتية للطاقة: تأثرت خطوط أنابيب النفط والغاز وشبكات الكهرباء ومشاريع تحلية المياه بسياسات الحدود. تعقدت مبادرات تكامل الطاقة الإقليمي في بعض الأحيان بسبب الحساسيات الإقليمية، على الرغم من أنه غالبًا ما تمّ التوصل إلى ترتيبات عملية لتمكين الاتصالات الضرورية. يمثل مشروع غاز دولفين، الذي ينقل الغاز القطري إلى الإمارات وسلطنة عمان، مثالًا ناجحًا للبنية التحتية للطاقة عبر الحدود على الرغم من التوترات الدورية.
3 ـ المناطق الاقتصادية الخاصة: تم تطوير المناطق الحدودية في بعض الأحيان كمناطق اقتصادية خاصة بعد حل النزاعات، مستفيدة من موقعها عبر الحدود. أنشأت العديد من دول مجلس التعاون مناطق تنمية اقتصادية في المناطق المتنازع عليها سابقًا، بهدف تحويل مناطق الصراع المحتملة إلى مراكز للتعاون ولكن لم تحقق تلك المباردات نجاحًا لافتًا. ومن الأمثلة على ذلك مبادرات التنمية في منطقة الحدود السعودية الإماراتية عقب معاهدة جدة لعام 1974 والتي شهدت تطورات متباينة، لكن التقدم لم يكن سلساً أو شاملاً كما كان مأمولاً.
وكانت السعودية والامارات قد وُقعتا معاهدة في جدة في 21 أغسطس 1974 لحل النزاع الحدودي، خاصة حول حقل الشيبة وخور العيديد. وقد صادقت • السعودية على المعاهدة عام 1993، بينما الإمارات لم تصادق عليها رسميًا حتى الآن، مما خلق حالة من الجمود القانوني والسياسي. وكان عدم تصديق الإمارات على المعاهدة أدى إلى غياب إطار قانوني واضح لتنفيذ مشاريع تنموية مشتركة، فيما استمرت الخلافات حول السيادة على بعض المناطق مثل حقل الشيبة وخور العيديد، مما يحد من الاستثمار في البنية التحتية أو الطاقة. وأبقت الخلافات على التوترات السياسية المتقطعة، مثل الاعتراض السعودي على مشروع جسر بحري بين الإمارات وقطر، أثرت على الاستقرار الحدودي . وبرغم ما قيل عن مشاريع لوجستية وبنية تحتية تم تنفيذها في مناطق قريبة من الحدود، ولكنها لم تصل إلى مستوى تنمية متكاملة للحدود المشتركة. وعليه، فإن المنطقة الحدودية لا تزال تعاني من تعقيدات قانونية وسياسية تعيق التنمية المستدامة.
التكاليف الاقتصادية لعدم حل النزاعات :
فرضت النزاعات الحدودية غير المحسومة تكاليف اقتصادية كبيرة على دول مجلس التعاون، على الرغم من صعوبة تحديد هذه التكاليف بدقة في كثير من الأحيان. وتمثل تكاليف الفرصة البديلة لتأخر تنمية الموارد، وتقييد تدفقات التجارة، ومشاريع البنية التحتية التي تمّ التخلي عنها آثارًا اقتصادية كبيرة للصراعات الإقليمية المستمرة وشملت هذه التكاليف:
1 ـ تأخير استغلال الموارد: ظلت المناطق المتنازع عليها ذات الإمكانات الهيدروكربونية غير مطورة في بعض الأحيان في انتظار حل المطالبات الإقليمية. إن القيمة الاقتصادية المفقودة من خلال تأخير تطوير الموارد في المناطق المتنازع عليها تمثل تكلفة خفية كبيرة للنزاعات الحدودية. يقدم توقف الإنتاج لمدة خمس سنوات في المنطقة المقسومة بين الكويت والسعودية (2014-2019) مثالاً واضحاً، حيث تقدر خسائر الإيرادات بمليارات الدولارات.
2 ـ اضطراب التجارة: أدت إغلاقات الحدود والقيود خلال فترات التوتر المتزايد إلى تعطيل تدفقات التجارة وسلاسل التوريد. أجبر إغلاق الحدود البرية السعودية القطرية خلال الأزمة الدبلوماسية 2017-2021 على إعادة توجيه مكلفة للواردات والصادرات، مما أثر بشكل خاص على السلع القابلة للتلف ومواد البناء. وقد حدثت اضطرابات مماثلة خلال نزاعات حدودية أخرى، وإن كانت عادةً لفترات أقصر.
3 ـ النفقات العسكرية: أدّت المخاوف الأمنية الحدودية إلى زيادة الإنفاق العسكري، مما أدى إلى تحويل الموارد عن الاستثمارات الاقتصادية الإنتاجية. لقد ساهمت المتطلبات الأمنية للحدود المتنازع عليها في ارتفاع النفقات العسكرية التي تميز دول مجلس التعاون، مما يمثل تكلفة فرصة كبيرة من حيث الاستثمارات البديلة. في حين أنه لا يمكن أن تُعزى هذه النفقات فقط إلى النزاعات داخل دول مجلس التعاون، إلا أنها تعكس المخاوف الأمنية الأوسع التي تفاقمت بسبب عدم اليقين الحدودي.
4 ـ التكرار الإداري: أدى التطوير غير المنسق للمناطق الحدودية في بعض الأحيان إلى ازدواجية البنية التحتية والأنظمة الإدارية. فقد أدى غياب التخطيط عبر الحدود في المناطق المتنازع عليها إلى تطوير متوازي وأحيانًا زائد عن الحاجة للبنية التحتية على جانبي الحدود المتنازع عليها. وقد تمت معالجة هذا القصور تدريجيًا مع حل النزاعات الحدودية وتحسين التنسيق عبر الحدود.
5 ـ عدم اليقين الاستثماري: خلقت قضايا الحدود غير المحلولة حالة من عدم اليقين لدى المستثمرين من القطاع الخاص الذين يفكرون في مشاريع في المناطق المتنازع عليها. ولقد أدّت المخاطر القانونية والسياسية المرتبطة بالأراضي المتنازع عليها إلى ردع الاستثمار الخاص، لا سيما في القطاعات كثيفة رأس المال التي تتطلب استقرارًا طويل الأجل. وكان هذا التأثير أكثر وضوحًا في المناطق التي تشهد نزاعات نشطة، ولكنه أثر أيضًا على أنماط الاستثمار في المناطق التي تشهد نزاعات إقليمية خاملة أو تم حلها مؤخرًا.
لم يتم توزيع التكاليف الاقتصادية للنزاعات الحدودية بالتساوي بين دول مجلس التعاون الخليجي. وقد تحملت دول مجلس التعاون الأصغر عادةً آثارًا اقتصادية غير متناسبة من قضايا الحدود التي لم يتم حلها، مما يعكس ضعفها الأكبر في مواجهة اضطرابات التجارة ومحدودية الأسواق المحلية. وقد أثّر هذا التأثير غير المتكافئ أحيانًا على مواقف التفاوض، حيث تقبل الدول الأصغر أحيانًا شروطًا إقليمية أقل ملاءمة مقابل الأمن الاقتصادي والوصول إلى أسواق جيران أكبر.
الأبعاد الأمنية للنزاعات الحدودية :
للنزاعات الحدودية في دول مجلس التعاون آثار أمنية كبيرة، تؤثر على الانتشار العسكري، وإدراك التهديدات، وأنماط التحالفات، والاستقرار الإقليمي. وقد أدّى ذلك كله إلى تعقيد حل النزاعات من خلال عسكرة القضايا الإقليمية، وتسهيل التسوية من خلال تسليط الضوء على تكاليف الصراع المحتمل. وقد شكلت المخاوف الأمنية سياسات الحدود وأثرت النزاعات الإقليمية على العلاقات الأمنية بين دول مجلس التعاون.
فقد أدت النزاعات الحدودية بشكل دوري إلى عسكرة المناطق المتنازع عليها، وإن كانت نادرًا ما تتصاعد إلى صراع مسلح مستمر. كان نشر القوات العسكرية في المناطق الحدودية المتنازع عليها سمة متكررة للصراعات الإقليمية في دول مجلس التعاون، حيث كان له وظائف دفاعية وإشارية. وقد اتخذت هذه العسكرة عدة أشكال:
1ـ تحصينات الحدود: شيّدت دول مجلس التعاون حواجز مادية وأنظمة مراقبة ومنشآت عسكرية على طول الحدود المتنازع عليها. غالبًا ما تسارعت وتيرة مشاريع تحصين الحدود خلال فترات التوتر المتزايد، مما حوّل الحدود الصحراوية المفتوحة سابقًا إلى مناطق أمنية خاضعة لمراقبة مشددة. وتراوحت هذه التحصينات بين علامات بسيطة وشبكات مراقبة إلكترونية متطورة وحواجز مادية.
2ـ الانتشار العسكري: نُشرت القوات أحيانًا لتأكيد السيطرة على الأراضي المتنازع عليها أو ردع أي تعدٍّ مُحتمل. وكانت عمليات الانتشار العسكري التكتيكي في المناطق المتنازع عليها بمثابة عروض للتصميم، وإن كانت عادةً ما تُدار لتجنب إثارة التصعيد. من الأمثلة على ذلك احتلال السعودية لحماسة عام 1952 في نزاع واحة البريمي، وعمليات نشر مختلفة على نطاق أصغر على طول الحدود السعودية الإماراتية والسعودية القطرية خلال فترات التوتر.
3ـ مناوشات حدودية: وقعت حوادث مسلحة محدودة في بعض النزاعات، وإن كانت نادرًا ما تتطور إلى صراع مستمر. وكانت المناوشات الحدودية بين دول مجلس التعاون عادةً قصيرة ومحدودة، مما يعكس مصلحة مشتركة في تجنب المواجهة العسكرية الخطيرة على الرغم من الخلافات الإقليمية. وقعت أهم الحوادث في فترة ما قبل مجلس التعاون، مثل اشتباك عام 1974 بين القوات السعودية والإماراتية بالقرب من خور العديد، وحتى بعد تأسيس مجلس التعاون الخليجي عام 1981، سعت الدول الأعضاء إلى تعزيز التعاون العسكري والأمني، لكن ذلك لم يمنع وقوع بعض المناوشات أو التوترات المسلحة المحدودة بين بعض الدول الخليجية.وقد
4 ـ وقعت مناوشات محدودة من بينها حادثة الخفوس في 30 سبتمبر 1992 على الحدود السعودية القطرية، أسفرت عن مقتل عدد من الجنود القطريين، وأثارت توترًا دبلوماسيًا استمر لسنوات. وحتى بعد اتفاقية الدفاع المشترك لعام 2000 والتي كانت مصممة لتقليل احتمالات المواجهة بين دول مجلس التعاون، فإن لم تمنع الخلافات العسكرية غير المباشرة خلال الأزمة الخليجية (2017–2021). صحيح لم تحدث مواجهات مباشرة، لكن التحركات العسكرية والتمركزات شهدت تصعيدًا رمزيًا، واضطرت قطر الى تعزيز تعاونها الدفاعي مع تركيا، بينما السعودية والإمارات كثفت التنسيق الأمني.
النزاعات الحدودية والأمن الداخلي:
أثّرت النزاعات الحدودية أيضًا على الأمن الداخلي داخل دول مجلس التعاون، مما أثر على الاستقرار الداخلي، وحركات السكان، وسياسات الهوية. فقد كانت للصراعات الإقليمية أحيانًا آثار أمنية داخلية كبيرة تتجاوز أبعادها الدولية، مما أثر على التماسك الداخلي وشرعية النظام، وتشمل الأبعاد الأمنية الداخلية ما يأتي:
ـ الولاءات القبلية: نشّطت النزاعات الحدودية أحيانًا روابط قبلية عبر الحدود، مما خلق ديناميكيات ولاء معقدة. فقد كانت النظرة إلى الجماعات القبلية ذات الروابط عبر الحدود المتنازع عليها على أنها مخاوف أمنية من قِبل الحكومات التي تسعى إلى ترسيخ سيطرتها الإقليمية. وقد أثرت هذه المخاوف على سياسات المواطنة، وأنماط الاستيطان، ونهج الأمن الداخلي في المناطق الحدودية.
ـ تحركات السكان: أثرت الحدود المتنازع عليها على أنماط الهجرة والمستوطنات السكانية، مع ما يترتب على ذلك من آثار أمنية. وأدّت حالة عدم اليقين الحدودية أحيانًا إلى نزوح السكان أو تقييد حركتهم، مما خلق تحديات إنسانية وأمنية. وقد سهّل حل النزاعات الحدودية عادةً تحركات سكانية أكثر طبيعية، وإن كان ذلك غالبًا مع استمرار المراقبة الأمنية.
ـ الوصول إلى الموارد: خلقت النزاعات على الوصول إلى المياه والمراعي وغيرها من الموارد في المناطق الحدودية تحديات أمنية محلية. وأدّى التنافس على الموارد في المناطق الحدودية المتنازع عليها أحيانًا إلى صراعات محلية، وإن كانت صغيرة النطاق، إلا أنها تخلق تحديات في إدارة الأمن ومخاطر تصعيد محتملة. وكانت هذه النزاعات على الموارد ذات أهمية خاصة في المناطق ذات الأنشطة الرعوية التقليدية.
ـ سياسات الهوية: تشابكت النزاعات الحدودية أحيانًا مع مسائل الهوية الوطنية والروايات التاريخية. فقد أُدمجت المطالبات الإقليمية أحيانًا في بناءات الهوية الوطنية، مما جعل التسوية مكلفة سياسيًا للقادة وخلق مخاوف أمنية محلية بشأن الظهور بمظهر التنازل عن “الأراضي الوطنية. وقد أدّى هذا البعد المتعلق بالهوية إلى تعقيد جهود الحل في الحالات التي تحمل فيها الأراضي المتنازع عليها أهمية رمزية تتجاوز قيمتها المادية.
ـ تطلبت إدارة الآثار الأمنية المحلية مناهج متطورة تعالج الأبعاد الدولية والداخلية للنزاعات الحدودية. وتتضمن استراتيجيات الحل الناجحة عادةً أحكامًا للمجتمعات المحلية المتضررة من تغيرات الحدود، مع إدراك أن المستوطنات المستدامة يجب أن تعالج شواغل الأمن البشري إلى جانب مصالح أمن الدولة. وقد تجلى هذا النهج الشامل في ترتيبات التنقل عبر الحدود، والوصول إلى الموارد، والروابط الثقافية عقب اتفاقيات الحدود الرسمية.
التحديات الأمنية المستقبلية المتعلقة بالحدود:
تُشير التحديات الأمنية الناشئة إلى أن العلاقات الحدودية في دول مجلس التعاون الخليجي ستظلّ ذات أبعاد أمنية مهمة حتى مع حلّ النزاعات الإقليمية التقليدية. ومن المرجح أن تصبح الجوانب الأمنية لإدارة الحدود أكثر تعقيدًا وتعددية الجوانب، مما يتطلب ترتيبات تعاونية متطورة توازن بين المخاوف السيادية والاحتياجات الأمنية العملية. وسيتطلب هذا التطور تطويرًا مستمرًا لأطر أمنية ثنائية ومتعددة الأطراف، قادرة على معالجة التهديدات العابرة للحدود الوطنية مع احترام السلامة الإقليمية.
الخلافات الحدودية والتعاون المنقوص:
كان للنزاعات الحدودية آثار كبيرة على أنماط أوسع من الوحدة والتعاون داخل مجلس التعاون. فقد أعاقت هذه النزاعات الحدودية في بعض الأحيان جهود التكامل، بينما حفزت في سياقات أخرى تنسيقاً أوثق.
تشكّل التطور المؤسسي لدول مجلس التعاون من خلال تعامل الدول الأعضاء مع نزاعاتها الإقليمية. وقد أثّرت النزاعات الحدودية على تصميم مؤسسات مجلس التعاون الخليجي وولايتها وفعاليتها منذ تأسيس المنظمة عام 1981. وقد تجلى هذا التأثير في جوانب عديدة من التطوير المؤسسي:
1 ـ قيود الميثاق: يستثني ميثاق مجلس التعاون صراحةً النزاعات الحدودية من ولاية المنظمة، مما يعكس تصميم الأعضاء المؤسسين على الحفاظ على السيطرة السيادية على القضايا الإقليمية. تنص المادة 5 على أنه “لا يُعنى مجلس التعاون بمسائل الحدود أو النزاعات الإقليمية بين الدول الأعضاء”، ويعكس هذا الاستبعاد المتعمد حساسية السيادة الإقليمية وتفضيل النهج الثنائي بدلاً من النهج متعدد الأطراف في النزاعات الحدودية. وقد حدّ هذا القيد الدستوري من قدرة مجلس التعاون على معالجة أحد أهم مصادر التوتر داخل المنطقة.
2 ـ التخصص المؤسسي: طورت مؤسسات مجلس التعاون الخليجي وظائف متخصصة تتجنب بعناية الانخراط المباشر في النزاعات الحدودية مع معالجة القضايا ذات الصلة. لقد طور مجلس التعاون آليات قوية للتكامل الاقتصادي والتعاون الأمني والتبادل الثقافي تعمل جنبًا إلى جنب مع النزاعات الإقليمية ولكن منفصلة عنها. وقد سمح هذا التقسيم بالتعاون الوظيفي على الرغم من قضايا الحدود غير المحسومة.
3 ـ إجراءات صنع القرار: تأثر نموذج صنع القرار القائم على الإجماع في مجلس التعاون بمخاوف بشأن السيادة في المسائل الحدودية. ويعكس شرط الإجماع في قرارات مجلس التعاون تصميم الدول الأعضاء على منع المنظمة من اتخاذ مواقف بشأن قضايا حساسة مثل النزاعات الإقليمية دون موافقتها الصريحة. وقد حمى هذا الضمان الإجرائي مخاوف السيادة ولكنّه حدّ من قدرة المنظمة على معالجة القضايا الخلافية بفعالية.
4 ـ آليات حل النزاعات: طور مجلس التعاون قدرات محدودة لحل النزاعات تتجنب بعناية المسائل الإقليمية. وركزت آليات حل النزاعات في مجلس التعاون على المسائل التجارية والاستثمارية والتقنية بدلاً من قضايا السيادة، مما يعكس القيود الدستورية للمنظمة فيما يتعلق بالنزاعات الحدودية. وقد أدى هذا التطور المؤسسي الانتقائي إلى خلق قدرة غير متكافئة على معالجة أنواع مختلفة من النزاعات الإقليمية. وقد تطور نهج مجلس التعاون تجاه النزاعات الحدودية إلى حد ما بمرور الوقت. ومع الحفاظ على القيود الرسمية على المشاركة في القضايا الإقليمية، طورت المنظمة تدريجيًا أدوار وساطة غير رسمية ووظائف بناء ثقة تدعم بشكل غير مباشر حل النزاعات الحدودية. يعكس هذا التطور التكيّف العملي مع الواقع الإقليمي مع الحفاظ على مبدأ الإدارة الثنائية لقضايا السيادة.
لناحية البعد الاقتصادي للنزاعات الحدودية، فقد أثّرت النزاعات بشكل كبير على مبادرات التكامل الاقتصادي لدول مجلس التعاون، حيث خلقت أحيانًا عقبات، ووفرت أحيانًا أخرى زخمًا لتعميق التعاون. كانت العلاقة بين النزاعات الإقليمية والتكامل الاقتصادي معقدة وثنائية الاتجاه، حيث يؤثر كل منهما على تطور الآخر. وقد تجلّت هذه العلاقة في العديد من مشاريع التكامل الرئيسية:
ـ الاتحاد الجمركي: تعقد تطبيق الاتحاد الجمركي لدول مجلس التعاون، الذي أُنشئ رسميًا عام 2003، بسبب النزاعات الحدودية وحالة حلها. وكان يتطلب التكامل الجمركي الفعال ترتيبات حدودية عملية، مما يخلق ضغطًا عمليًا لحل أو على الأقل إدارة القضايا الإقليمية العالقة. ويعكس التنفيذ غير المتكافئ للاتحاد الجمركي عبر الحدود المختلفة مستويات متفاوتة من التطبيع الإقليمي والثقة الثنائية.
ـ تكامل البنية التحتية: تأثرت مشاريع البنية التحتية عبر الحدود، بما في ذلك شبكات النقل والكهرباء وأنظمة المياه، بشكل مباشر بحالة النزاعات الإقليمية. زف
وقد تقدمت مبادرات البنية التحتية الإقليمية الرئيسية عادةً بسرعة أكبر عبر الحدود المستقرة مقارنةً بالحدود المتنازع عليها، مما خلق نمطًا غير متساوٍ من التكامل المادي. على سبيل المثال، واجه مشروع سكة حديد دول مجلس التعاون تحديات في التوجيه عبر المناطق المتنازع عليها سابقًا.
ـ تنقل العمالة: تأثرت حرية تنقل مواطني دول مجلس التعاون للعمل والإقامة، وهو هدف رئيسي للتكامل، بسياسات الحدود. وقد تأثر تنفيذ أحكام تنقل العمالة أحيانًا بالمخاوف الأمنية المتعلقة بالقضايا الإقليمية التي لم تُحل أو التي سُوّيت مؤخرًا. وقد حدّت هذه القيود على التنقل من تطوير سوق عمل إقليمي متكامل حقًا.
ـ تدفقات الاستثمار: تشكلت أنماط الاستثمار عبر الحدود من خلال النزاعات الإقليمية وحالة حلها. وازدادت تدفقات الاستثمار بين دول مجلس التعاون عادةً بعد تسويات الحدود، مما يعكس انخفاض المخاطر السياسية وتحسن العلاقات الثنائية. ويشير هذا النمط إلى أن حلول النزاعات الحدودية قد حققت فوائد اقتصادية ملموسة من خلال تعزيز التكامل الاستثماري.
وأظهرت الأزمة الدبلوماسية القطرية في الفترة 2017-2021 مدى سرعة تقويض إنجازات التكامل الاقتصادي عند تصاعد النزاعات السياسية. وكشف اضطراب تدفقات التجارة والعلاقات الاستثمارية والتنقل البشري أثناء الحصار عن هشاشة التكامل الاقتصادي الإقليمي في غياب تنسيق سياسي أعمق. وقد أبرزت هذه الحادثة كيف أن إدارة الحدود – حتى بين الدول التي حُلت نزاعاتها الإقليمية رسميًا – لا تزال عرضة للتوترات السياسية الأوسع.
التأثير على التعاون الأمني:
كان للنزاعات الحدودية آثارٌ مُعقدة على التعاون الأمني ضمن إطار مجلس التعاون. وقد أدت النزاعات الإقليمية في آنٍ واحد إلى تحفيز التعاون الأمني ضد التهديدات الخارجية، وإلى تعقيد التنسيق بين الدول الأعضاء المتنازعة. وقد تجلى هذا التأثير المزدوج في العديد من المجالات الأمنية:
ـ قوة درع الجزيرة: تأثر تطوير الذراع العسكرية المشتركة لمجلس التعاون الخليجي بالحساسيات الإقليمية. وقد أثّرت المخاوف بشأن السيادة في المناطق الحدودية المتنازع عليها على بروتوكولات نشر القوات، وهياكل القيادة، والتخطيط العملياتي لدرع الجزيرة. وقد حدّت هذه القيود من فعالية القوة كآلية أمنية إقليمية متكاملة بحق.
ـ تبادل المعلومات الاستخباراتية: تأثر تبادل المعلومات حول التهديدات الأمنية بحالة النزاعات الإقليمية. وكان التعاون الاستخباراتي عادةً أكثر قوة بين الدول التي لديها قضايا حدودية محسومة، مما يعكس مستويات أعلى من الثقة وقلقًا أقل بشأن استخدام المعلومات لتحقيق مكاسب في النزاعات الإقليمية. وقد خلق هذا النمط صورة استخباراتية غير متكافئة في جميع أنحاء المنطقة، مما قد يقوض جهود الأمن الجماعي.
ـ المشتريات الدفاعية: تأثر تنسيق عمليات الاستحواذ الدفاعية والتكنولوجيا العسكرية بسياسات الحدود. وعكست أنماط المشتريات الدفاعية أحيانًا مخاوف بشأن القدرات النسبية في المناطق الحدودية، حتى بين حلفاء مجلس التعاون. وقد ساهمت هذه الديناميكية في ازدواجية القدرات وتحديات التوافق التشغيلي داخل هيكل الأمن الإقليمي.
ـ الشراكات الأمنية الخارجية: تأثرت العلاقات مع شركاء الأمن الخارجيين، وخاصة الولايات المتحدة، بالنزاعات الإقليمية داخل مجلس التعاون. كان التنافس على علاقات أمنية مواتية مع القوى الخارجية مدفوعًا أحيانًا بمخاوف الحدود، مما أدى إلى تباين مناهج هيكل الأمن الإقليمي. وقد أدت هذه الاختلافات إلى تعقيد الجهود المبذولة لتطوير نهج متماسك لمجلس التعاون لضمانات الأمن الخارجية.
التأثير على التنسيق السياسي :
أثرت النزاعات الحدودية على التنسيق السياسي والتوافق الدبلوماسي بين دول مجلس التعاون. وقد تجلى هذا التأثير في عدة أبعاد للتنسيق السياسي:
1ـ توافق السياسة الخارجية: تأثرت المواقف تجاه القضايا الإقليمية والدولية أحيانًا بحالة النزاعات الإقليمية الثنائية. تبنت الدول المتورطة في نزاعات حدودية أحيانًا مواقف متباينة في السياسة الخارجية كوسيلة ضغط أو رد فعل في المفاوضات الإقليمية. وقد أدّت هذه الديناميكية إلى تعقيد الجهود الرامية إلى تطوير نهج موحد لدول مجلس التعاون لمواجهة التحديات الإقليمية.
2ـ أدوار الوساطة: تأثرت قدرة دول مجلس التعاون على العمل كوسطاء فعالين في النزاعات الإقليمية بنزاعاتها الإقليمية الخاصة. وقد واجهت الدول التي لديها قضايا حدودية عالقة تحديات تتعلق بالمصداقية عند محاولتها التوسط في نزاعات مماثلة في أماكن أخرى، مما حدّ من النفوذ الدبلوماسي الجماعي لدول مجلس التعاون . وقد تجلى هذا القيد بشكل خاص في الجهود المبذولة لمعالجة الجوانب الإقليمية للصراعات في اليمن والعراق.
3ـ مبادرات الإصلاح المؤسسي: تأثرت مقترحات تعميق التكامل السياسي داخل مجلس التعاون بمخاوف السيادة المتعلقة بالنزاعات الحدودية. وغالبًا ما واجهت المقترحات الطموحة للاتحاد السياسي أو الفيدرالي مقاومةً أشد من الدول ذات الاهتمامات الإقليمية النشطة، مما يعكس حساسيةً متزايدةً بشأن السيادة. وقد تجلى هذا النمط في الردود المتباينة على مقترح السعودية عام 2011 لتعزيز الاتحاد السياسي لدول مجلس التعاون، حيث آثرت سلطنة عمان الخروج من المجلس على الانضواء في وحدة خليجية، ولا شك أن هذا الموقف ينسجم مع أطراف أخرى مثل قطر والامارات..
إدارة الأزمات: تأثرت قدرة مجلس التعاون على الاستجابة للأزمات الإقليمية بحالة النزاعات الإقليمية الداخلية. وقد كانت آليات الاستجابة للأزمات أكثر فعالية عندما حلّ الدول الأعضاء قضاياهم الإقليمية الثنائية أو أدارتها بفعالية. وقد تجلّت هذه العلاقة خلال انتفاضات الربيع العربي، عندما عكست النهج المتباينة للتعامل مع عدم الاستقرار الإقليمي جزئيًا علاقات ثنائية مختلفة شكلتها سياسات الحدود.
مثّلت الأزمة الدبلوماسية القطرية في الفترة 2017-2021 مثالًا صارخًا بشكل خاص على كيفية انهيار التنسيق السياسي على الرغم من الإطار المؤسسي لمجلس التعاون الخليجي. وكشفت الأزمة عن حدود التكامل السياسي لمجلس التعاون عندما تتعارض المخاوف السيادية الأساسية والرؤى الإقليمية المتباينة. ورغم أن الأزمة لم تكن ناجمة بشكل مباشر عن النزاعات الإقليمية، إلا أنها أظهرت مدى سرعة انهيار التنسيق السياسي عند ظهور خلافات جوهرية.
وعادةً ما أعقبت تسوية النزاعات الإقليمية الرئيسية فترات من تحسّن التوافق السياسي ودبلوماسية جماعية أكثر فعالية ولكن تبقى الأمور غير يقينية. يشير هذا النمط إلى أن حلول النزاعات الحدودية تُنشئ رأس مال سياسيًا يُمكن استثماره في مبادرات تنسيق أوسع، بشرط احتواء المشكلات أو على الأقل ابتكار صيغ فعالة تتيح تجميد الخلافات السياسية والحدودية أو تأجيلها لفترات طويلة.
الآثار على تشكيل الهوية الإقليمية:
أثّرت النزاعات الحدودية على تطور الهوية الإقليمية والبناء الاجتماعي للخليج كمساحة جيوسياسية شبه متجانسة. وقد شكّلت النزاعات الإقليمية كيفية تصوّر دول مجلس التعاون لمكانتها داخل النظام الإقليمي وعلاقاتها مع بعضها البعض. لهذا البعد المتعلق بالهوية عدة جوانب مهمة:
1 ـ الهوية الخليجية: تعرّض مفهوم الهوية “الخليجية” المشتركة للتحدي والتعزيز من خلال سياسات الحدود. وقد أبرزت النزاعات الحدودية الاختلافات بين السرديات الوطنية، مع التأكيد في الوقت نفسه على التجارب التاريخية المشتركة للتدخل الخارجي في الشؤون الإقليمية. وأدى هذا التأثير المزدوج إلى خلق هوية إقليمية معقدة تعترف بكل من القواسم المشتركة والاختلافات.
2 ـ السرديات التاريخية: تشكلت السرديات التاريخية الوطنية من خلال المطالبات والنزاعات الإقليمية. وغالبًا ما تقدّم التواريخ الرسمية في دول مجلس التعاون سرديات متباينة حول السيطرة الإقليمية والسيادة التاريخية، مما يعقّد الجهود المبذولة لتطوير فهم مشترك للتاريخ الإقليمي. وقد أثرت هذه السرديات التاريخية المتنافسة على كيفية فهم مواطني دول مجلس التعاون لهوياتهم الوطنية فيما يتعلق بجيرانهم.
3 ـ الخطاب الإعلامي: تأثر النقاش العام للشؤون الإقليمية بالحساسيات المحيطة بالنزاعات الإقليمية. وغالبًا ما عكست التغطية الإعلامية للقضايا الإقليمية المواقف الوطنية بشأنها، مما عزز وجهات نظر مختلفة حول الهوية والعلاقات الإقليمية. وقد تجلى هذا النمط في كيفية تأطير وسائل الإعلام الوطنية للتطورات الإقليمية وتفسير تصرفات الدول المجاورة.
5ـ النظم التعليمية: تأثرت المناهج المدرسية والمواد التعليمية بالنزاعات الإقليمية وحلولها. فقد ركزت الأنظمة التعليمية في دول مجلس التعاون عادةً على السرديات الإقليمية الوطنية، مع تطور تدريجي نحو منظورات أكثر تكاملاً إقليميًا بعد تسوية الحدود. وقد شكّل هذا البُعد التعليمي كيفية فهم الأجيال الشابة للجغرافيا والتاريخ الإقليميين.
خلاصة نهائية:
مثّلت الخلافات الحدودية علامة فارقة في العلاقات البينية داخل مجلس التعاون الخليجي. وعلى الرغم من مرور أكثر من أربعين سنة على تأسيس المجلس لا يزال ملف الحدود عالقًا دون حسم، بل يمثّل عامل تفجّر في العلاقات الخليجية الخليجية. مشاريع عديدة تعطّلت أو تجمدت بفعل الخلاف الحدودي، ولا يبدو أن هناك نيّة لدى الاطراف كافة لاغلاق هذا الملف، لتمسّك كل طرف بسرديته الخاصة، ولإصرار الأقوياء على الاستئثار بالكعكة كاملة دون قبول بمنطق التسوية والتوزيع المتكافىء.