مقالات أخرى
أخر الأخبار

تعويم الجولاني : الدور السعودي وديناميكيات التحول تجاه سوريا

يمثل التطور الأخير المتمثل في بروز أحمد الشرع (أبو محمد الجولاني) كشخصية قيادية مقبولة إقليميًا ودوليًا، وتحوله من زعيم جماعة “هيئة تحرير الشام” إلى رئيس “الإدارة الانتقالية” في سوريا، تحولًا جذريًا في المشهد السياسي السوري والإقليمي. لقد كان لقاء الشرع العابر مع الرئيس الأمريكي دونالد ترامب في الرياض في 13 مايو 2025، وما تبعه من رفع للعقوبات الأمريكية المفروضة على سوريا بموجب قانون قيصر، نقطة تحول محورية. فما هي الدوافع الكامنة وراء هذا “التعويم” للجولاني، مع التركيز على الدور المحوري للسعودية والغرض الأمريكي الظاهر، بالإضافة إلى التداعيات الإقليمية والدولية المحتملة.

الانقلاب الدبلوماسي الأمريكي :

أشارت مجلة The Week البريطانية في تقريرها الصادر في 24 مايو 2025، بعنوان “انقلاب السياسة الخارجية لدونالد ترامب في الشرق الأوسط”، إلى أن قرار ترامب برفع جميع العقوبات عن سوريا كان بمثابة “انقلاب دبلوماسي” جريء في ولايته الثانية. هذا القرار، الذي فاجأ حتى مسؤولي وزارة الخزانة الأمريكية، مهد الطريق لإعادة دمج سوريا في المجتمع الدولي بعد الإطاحة بنظام بشار الأسد عام 2024.

لقد كان الدور الأمريكي، ممثلًا في لقاء ترامب مع الشرع، حاسمًا في تغيير تصور الجولاني من “جهادي” مطلوب دوليًا إلى قائد مقبول. وصرحت كايتلين ألين في Reaction (لندن) بأن ترامب أشاد بالشرع، متجاهلاً سجله السابق كـ “قائد سابق في تنظيم القاعدة” وكون الولايات المتحدة كانت ترصد مكافأة قدرها 10 ملايين دولار لمن يدلي بمعلومات عنه. يُعزى هذا التغيّر في الموقف إلى عوامل متعددة، أبرزها المقاربة البراغماتية لإدارة ترامب التي “لا تعرف سوى المال. بالإضافة إلى عروض الشرع الاقتصادية للشركات الأمريكية، بما في ذلك حقوق التنقيب عن الموارد الطبيعية وفكرة بناء “برج ترامب” في دمشق.

وقال كليمنس فيرغين في صحيفة “دي فيلت” (برلين) إن ترامب كان “متهورًا” للغاية في احتضانه لهذا الجهادي السابق. “الحركات الإسلامية التي وصلت إلى السلطة أثبتت دائمًا أنها مخيبة للآمال”: انظر فقط إلى الحكم الاستبدادي لجماعة الإخوان المسلمين في مصر ورجب طيب أردوغان في تركيا. من الواضح أن “عناصر شريرة” لا تزال موجودة داخل تحالف المتمردين في سوريا، بالنظر إلى المجازر الأخيرة التي طالت الأقليتين العلوية والدرزية. كان من الأفضل الاحتفاظ بـ”نفوذ” كافٍ “للضغط على النظام للحفاظ على نهج معتدل”.

لكن ترامب كان عاجزًا عن مقاومة ضغوط دول الخليج المضيفة، كما قال سيمون تيسدال في صحيفة “الغارديان” اللندنية. الحقيقة هي أنه الآن يرقص على أنغامهم. فبينما أطرته المملكة السعودية والإمارات وقطر بمرافقات طائرات مقاتلة وصفقات بوينغ المذهلة خلال زيارته، فإنهم الآن “يُملون السياسة الخارجية الأمريكية” فعليًا. ضغطت الدول الثلاث من أجل رفع العقوبات عن سوريا؛ يعتمد ترامب على هذه الدول النفطية “بدرجة غير مسبوقة” – للحفاظ على انخفاض أسعار النفط، والحفاظ على استثماراتها الضخمة في الولايات المتحدة – وقد استجاب على النحو الواجب. وأثناء إعلانه، أشار إلى ولي العهد السعودي محمد بن سلمان، وهتف: “يا إلهي، ما الذي أفعله من أجل ولي العهد!”.

قال بن سيلز في صحيفة (تايمز أوف إسرائيل): “هناك خاسر حقيقي واحد في كل هذا: بنيامين نتنياهو. يُهمّش ترامب رئيس الوزراء الإسرائيلي بشكل متزايد. أولاً، أعلنت الولايات المتحدة بشكل غير متوقع أنها تتفاوض مع إيران. ثم وافقت على هدنة مع جماعة الحوثي في اليمن. والآن على نتنياهو أن “ينظر بغضب مكبوت”، كما ذكرت صحيفة (دي فولكس كرانت) الهولندية، بينما يُعيد ترامب تأهيل رجل لا يزال يعتبره “جهاديًا”.

وقال شاي غولدن في صحيفة (إسرائيل هيوم): “كان على نتنياهو أن يكون حذرًا فيما يتمناه”. لقد قيّد نفسه بشدة بترامب منذ البداية، معتقدًا أنه الرئيس الأكثر “تأييدًا لإسرائيل” في التاريخ. لكن الحقيقة هي أن ترامب يفعل دائمًا “ما يناسبه” – والآن نتنياهو، كفأر “في قفص مذهّب”، لا يملك إلا أن يشاهد عاجزًا.

في الواقع ليس ترمب وحده من قام تولى مهمة تبييض صفحة الجولاني وقدّمه كرجل مقبول في المجتمع الدولي، طالما أنه يفعل الشيء ذاته الذي يفعله حكام الخليج. فهو الآخر قدّم لترمب ما يغريه من عروض اقتصادية في بلد يحكمه بصورة مؤقتة ولكنه يتصرّف كما لو أنه “الرئيس الخالد” كما أسلافه في سوريا وفي غرب آسيا عمومًا..

الاندفاعة السعودية: دوافع استراتيجية وتأثير إقليمي.

لعبت السعودية دورًا محوريًا في “تسويق” الجولاني (أحمد الشرع) لإدارة ترامب، وتقديمه كشخصية مقبولة دوليًا. ترى الرياض في النظام السوري الجديد بقيادة الشرع فرصة استثنائية لإعادة ترتيب المشهد الإقليمي وتحقيق مصالحها الاستراتيجية. تتعدد الدوافع وراء هذا التأييد السعودي، وتشمل:

ـ إبعاد سوريا عن محور المقاومة واحتوائها ضمن “الحضن العربي”: سعت السعودية إلى تعزيز عودة سوريا إلى جامعة الدول العربية، ولكن بشروط واضحة تتمثل في ابتعاد دمشق عن إيران ومحور المقاومة.

ـ الدور الاقتصادي والاستثماري: يعكس حديث الشرع عن فرص استثمارية كبرى للسعودية في سوريا رغبة الرياض في أن تكون شريكًا رئيسيًا في إعادة إعمار البلاد والاستفادة من الفرص الاقتصادية.

ـ التوازن الإقليمي ومحاصرة النفوذ الإيراني في سوريا، إذ تسعى السعودية إلى تعزيز حضورها هناك واستعادة نفوذها في الإقليم الشامي، وهو هدف استراتيجي طويل الأمد للرياض.

ـ رفع العقوبات الدولية وتسهيل التطبيع: لعبت السعودية دورًا في الضغط لرفع العقوبات الغربية عن سوريا، ونجحت في تسهيل لقاء ترامب بالشرع، مما أدى إلى صدور قرار برفع العقوبات تدريجيًا. هذا الدور يعزز مكانتها كقوة إقليمية قادرة على التأثير في الملفات الحساسة، ولا سيما ملف التطبيع مع الكيان الاسرائيلي، وهذا ما بدا واضحًا في لقاءات مسؤولين في حكومة الشرع مع مسؤولين صهاينة سواء على الحدود السورية الفلسطينية أو في الخارج بمشاركة الامارات التي رعت عددًا من اللقاءات. يضاف إلى ذلك قرار الشرع طرد قادة فلسطينيين من سوريا وسحب السلاح من الفصائل الفلسطينية وهو أيضًا مطلب سعودي قبل أن يكون مطلبًا أميركيًا واسرائيليًا.

حسابات أمنية: ترى السعودية في الاستقرار السوري حماية لأمنها. فالإدارة الجديدة بقيادة الشرع أعلنت التزامها بمكافحة الإرهاب الذي كانت شريكًا فيه على مدى سنوات طويلة وتخشى انتقال عناصر من داعش أو القاعدة أو من الجماعات السلفية المقاتلة الى داخل الجزيرة العربية وتنفيذ عمليات عسكرية في مناطق متفرقة من المملكة.

إدارة النفوذ الإقليمي والتطلعات السياسية: تسعى السعودية لإعادة إحياء نفوذها في سوريا والمنطقة، واستثمار فرصة وجود قيادة سورية انتقالية جديدة لتعزيز دورها كلاعب رئيسي، خاصة مع وجود رئيس مقرب من السعودية والغرب معًا.

التداعيات الإقليمية ومواقف القوى الفاعلة :

أثار “تعويم الجولاني” ردود فعل متباينة في المنطقة، وكشف عن ديناميكيات جديدة في موازين القوى: تواجه السعودية منافسة من قوى إقليمية أخرى تسعى إلى تعزيز نفوذها في سوريا، مما قد يعقد المشهد السياسي. تتصدر تركيا قائمة هذه الدول بنفوذها القوي في الادارة السورية الجديدة حيث تدير كثيرًا من المؤسسات ولها حضور اقتصادي فاعل كما تسعى إلى بناء قواعد عسكرية في أكثر من منطقة إلى جانب سيطرتها على شمال سوريا، وقد يؤدي ذلك إلى تضارب في المصالح. كما تلعب قطر دورًا رئيسًا في الملف السوري وقد شاركت في إطاحة النظام السابق وقدّمت أشكال دعم الى الادارة الحالية عن طريق الدعم المالي (دفع ديون سورية مثالًا) وكذلك توفير المشتقات النفطية، وتتقاسم مع تركيا النفوذ والتنسيق في الملفات السورية.

لا يمكن اغفال الدور الاسرائيلي المحوري في الجيوسياسية السورية سواء عبر احتلال مناطق واسعة من الجنوب السوري، وتشكيل منطقة آمنة للكيان داخل الاراضي السورية، ومنع تركيا من إقامة قواعد عسكرية، وهي اليوم تقرر على السوريين وعلى الادارة الجديدة ما يجب فعله بخصوص علاقاتها مع الدول الاقليمية.

وعلى الرغم من عدم وضوح الدور العراقي والاردني إزاء المتغيّر السوري الجديد، ولكن الملف الأمني يتصدر اهتمامات هذين البلدين خشية تسلل جماعات قاعدية وتفجير الاوضاع الأمنية.

الواقعية السياسية والمخاوف المحيطة :

إن الاندفاع السعودي نحو دعم الإدارة السورية الجديدة يفسر على أنه خطوة براغماتية تهدف إلى تحقيق الاستقرار في سوريا وتأمين المصالح الأمنية للمملكة. لقد أدركت السعودية ومعظم دول المنطقة أن سياسة “تغيير النظام” في سوريا لم تنجح، مما أدى إلى تفاقم الأزمة. وبالتالي، فإن التعامل مع الواقع الجديد والفاعل على الأرض هو الخيار الأكثر واقعية.

ومع ذلك، تواجه هذه السياسة مخاوف وتحديات:

خلفية الإدارة الجديدة: على الرغم من إعلان “هيئة تحرير الشام” التخلي عن بعض أيديولوجياتها المتطرفة وتغيير اسمها إلى “حكومة الإنقاذ”، فإن جذورها السلفية المتشددة تثير مخاوف بعض الأطراف الغربية والدولية، مما قد يصعب التعامل الكامل مع الإدارة الجديدة.

ضمان الاستقرار طويل الأمد: لا يوجد ضمان بأن الإدارة الجديدة ستتمكن من بسط سيطرتها الكاملة والمستقرة على كل سوريا أو تلبية تطلعات الشعب بعد سنوات من الصراع.

تنافس القوى الإقليمية والدولية: قد يؤدي تنافس القوى الإقليمية والدولية إلى تعقيد المشهد السياسي ويؤثر على مصالح المملكة.

إن “تعويم الجولاني” وتحوله إلى أحمد الشرع، مدفوعًا بدعم سعودي صريح وغطاء أمريكي، يمثل لحظة محورية في مسار الأزمة السورية، لكنها ليست خالية من التحديات والمخاطر. تعكس هذه الخطوة براغماتية جيوسياسية تسعى لتحقيق مكاسب استراتيجية وأمنية، خاصة بالنسبة للمملكة العربية السعودية، في محاولة لتعزيز نفوذها الإقليمي وتقويض نفوذ الخصوم. ومع ذلك، فإن هذا التوجه يثير تساؤلات جوهرية حول المصداقية الأخلاقية للتحول، وقدرة النظام الجديد على تحقيق الاستقرار الفعلي، والتداعيات المحتملة لتنافس القوى الإقليمية والدولية. في الختام، يُظهر اندفاع السعودية نحو دعم سوريا الجديدة رغبة في تعزيز دورها الإقليمي، إلا أن هذا التوجه يواجه تحديات ومخاوف تتطلب إدارة حذرة وتنسيقًا دبلوماسيًا فعالًا لتجنب تفاقم أزمة لم تنته فصولها بعد.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى