مقالات أخرى
أخر الأخبار

آفاق العلاقات السعودية الأمريكية

كان الحذر سيد الموقف السعودي حيال ترمب في الأيام الأولى من فوزه بولاية ثانية، بسبب عدم اليقين حيال الأجندة المبهمة واللهجة التصعيدية بخصوص قضايا المنطقة، فيما كانت ميول فريقه الوزاري والاستشاري المتطرفة والمنحازة للكيان الاسرائيلي قد أثارت مخاوف لدى ابن سلمان وفريقه. انعكس ذلك حتى على مقالات الصحف السعودية التي تعاطت، في البداية، بحذر مع ترمب الثاني، وما يضمره من خيارات غير مريحة لحلفائه، خصوصًا تأييده لفكرة اسرائيل الكبرى وحديثه ذات حملة انتخابية عن اسرائيل بكونها مجرد بقعة صغيرة وتساءل عن إمكانية توسّعها.

أول مؤشر مفتاحي في العلاقة بين ابن سلمان وترمب كان في إعلانه عن جاهزيته لتكرار زيارته الأولى في 20ـ 21 مايو 2017 مع رفع ثمن الزيارة الثانية إلى 500 مليار دولار. بدا وكأن ابن سلمان التقط الرسالة سافرة ومن دون “لف ودوران”، فقابله بكرم الضيافة البدوية ورفع الثمن إلى 600 مليار دولار، فاستغل ترمب الرغبة السعودية فأوصل المبلغ الى تريليون دولار، هذا في الشكل.

في المضمون، يتطلع ابن سلمان لأن يجد في رجل “الصفقات” ضالته وتعجيل الفوز بمعاهدة دفاعية كان قد طالب بها في عهد إدارة بايدن، ولكن كان الثمن هو “التطبيع” مع الكيان الاسرائيلي، الذي كان ابن سلمان سوف يدفعه على أي حال في مقابل الحصول على “صفقة” مغرية: التطبيع مقابل حماية العرش. في ولاية ترمب الثانية سوف يكون “التطبيع” تحصيل حاصل، وإن الكلام سيتركز حول الصفقات التجارية التي سوف يحصل عليها ترمب شخصيًا من صديقه الصغير، إبن سلمان. وعليه، سوف يتسبب تعطّش ترامب في ولايته الثانية لجني أكبر قدر من الأموال السعودية في إحداث نزيف مالي هائل من الثروة الوطنية، في مقابل الحصول على امتيازات خاصة من بينها ما هو مرتبط بالحماية الاميركية للعرش، وكذلك التزام الصمت إزاء انتهاكات حقوق الإنسان، وتشكيل تحالف دولي تقوده الولايات المتحدة وتشارك فيه السعودية والكيان الاسرائيلي ودول أخرى في مواجهة الصين وروسيا وايران.. وتركيا الجديدة، بعد المتغيّر السوري في 8 ديسمبر 2024.

وعليه، سوف تتسم آفاق العلاقات الأمريكية السعودية خلال ولاية ترامب الثانية باستمرار التحالف الاستراتيجي الذي ميز ولايته الأولى، وإن كان ذلك مع بعض التطورات الملحوظة والتحولات المحتملة القائمة على الديناميكيات الإقليمية والتفاعلات الشخصية بين القيادتين.

فيما يلي بعض الجوانب الرئيسية التي يجب مراعاتها عند تقييم مستقبل العلاقات الأمريكية السعودية في ولاية ترامب الثانية:

1 ـ الأمن الإقليمي وإيران:

كان أحد أقوى ركائز العلاقات الأمريكية السعودية في عهد ترامب هو الهدف المشترك المتمثل في مواجهة محور المقاومة أو ما يسبغ عليه المحور الأميركي عنوان “النفوذ الإيراني” في الشرق الأوسط. ولطالما نظرت السعودية إلى إيران بكونها منافسها الإقليمي الرئيسي، وقد أدى هذا العداء المشترك إلى خلق تحالف قوي بين الولايات المتحدة والسعودية، وخاصة فيما يتعلق بالبرنامج النووي الإيراني، وفصائل المقاومة في المنطقة مثل فلسطين ولبنان واليمن.

في فترة ولايته الثانية، من المرجح أن تستمر حملة “الضغط الأقصى” التي يشنها ترامب ضد إيران، بهدف استدراجها إلى “صفقة” جديدة معه، والهدف المعلن هو الحد من طموحات إيران النووية واحتواء محور المقاومة في المنطقة. وسيظل السعوديون شريكًا حاسمًا في هذه الاستراتيجية، وخاصة فيما يتعلق بالتنسيق العسكري وتبادل المعلومات الاستخباراتية، وربما حتى العمليات السرية ضد المصالح الإيرانية والمناطق التي ينشط فيها محور المقاومة (لبنان والعراق واليمن بدرجة أساسية). وقد تستمر السعودية أيضًا في اللعب بورقة النفط، وتوظيفها سياسيًا لمصلحة الولايات المتحدة، كما عبّر عن ذلك ترامب بمطالبته السعودية تخفيض أسعار البترول كورقة للضغط على روسيا من أجل وقف الحرب في أوكرانيا. ويبقى أن للرياض دورًا رئيسيًا في تأمين تدفقات النفط الإقليمية، خاصة بالنظر إلى الأهمية الاستراتيجية لأمن الطاقة.

2 ـ التعاون الدفاعي والتسليح :

خلال فترة ولاية ترامب الأولى، كانت “المبيعات العسكرية” إلى المملكة السعودية مكوّنًا بالغ الأهمية في العلاقة بين الرياض وواشنطن. كانت السعودية مشتريًا رئيسيًا للأسلحة الأمريكية، مع صفقات تتضمن تقنيات متقدمة في مجالات مثل “أنظمة الدفاع الجوي” و”الطائرات المقاتلة” و”أنظمة الدفاع الصاروخي”. وكان حجم المشتريات السعودية من السلاح الأميركي هو الأعلى في الفترة ما بين 2016 ـ 2020، إذ زادت وارداتها من الأسلحة بنسبة 61% في الفترة بين عامي 2016 و2020 مقارنة بالسنوات الخمس التي سبقتها، وشكّل حجم مشتريات المملكة من السلاح 11% من حجم مبيعات الأسلحة العالمية، وتصدّرت أميركا قائمة مزودي السعودية بالسلاح بنسبة 79%، تلتها بريطانيا (9.3%)، ثم فرنسا (4%). وبحسب تقرير “Sipri” أن الإنفاق العسكري للسعودية وصل عام 2017 إلى 70 مليار دولار، ما يجعلها أكبر مستورد للأسلحة في العالم.

 من المرجح، أن تشهد ولاية ترامب الثانية استمرارًا لصفقات الأسلحة مع السعودية، حيث سوف يتحوّل ترمب إلى “سمسار” نشط بين مصانع السلاح الأميركي والزبون السعودي، وفي ذلك فائدة شخصية له، كما تستفيد الولايات المتحدة من العائدات الاقتصادية الناتجة عن هذه المبيعات و”النفوذ الجيوسياسي” المصاحب لمثل هذه المعاملات.

3 ـ العلاقات الاقتصادية والاستثمارية:

ما يطلبه ترمب من السعودية من أموال ليس من أجل استثمارها في الشركات أو البنية التحتية الأميركية، وإنما يريد منها شراء سلع وخدمات لا تجني منها أي فوائد أو تستعيد رأس المال في مرحلة لاحقة. 

على نحو إجمالي، كان أحد أهم “الجوانب الاقتصادية” للعلاقة في عهد ترامب هو جهود محمد بن سلمان لضخ أموال طائلة في الولايات المتحدة، مع وعد بمليارات الدولارات لمشاريع البنية التحتية الأميركية و”المشاريع التكنولوجية”. كان التزام إبن سلمان باستثمار 600 مليار دولار في الولايات المتحدة بحسب وعد قطعه لترامب هو نقطة رئيسية في تعزيز العلاقات الثنائية السياسية والاقتصادية.

في فترة ولايته الثانية، من المرجح أن يواصل “ترامب” استدراج الأموال السعودية الى السوق الأميركية كوسيلة لتحفيز “الاقتصاد الأميركي”. كما ركّز ترامب على خلق “فرص اقتصادية للشركات الأميركية” في الخارج، والمملكة السعودية، بثروتها من النفط ومبادرة “رؤية 2030” لتنويع اقتصادها، تقدّم فرصًا عديدة للتعاون.

ومع ذلك، لن يأتي هذا دون انتقادات محلية محتملة، أي داخل الولايات المتحدة، وخاصة من أولئك الذين يعترضون على انتهاكات حقوق الإنسان السعودية، بما في ذلك مسلسل الاعدامات العبثية، والأوضاع غير الإنسانية التي يعاني منها العمال الأجانب، إلى جانب ملفات سابقة مثل مقتل خاشقجي، والحرب على اليمن. ومع ذلك، فإن نهج ترامب المعاملاتي (الصفقوي) في السياسة الخارجية، والذي يؤكد على الفوائد الاقتصادية وسياسات “أمريكا أولاً”، يشير إلى أنه قد يقلّل من شأن مخاوف حقوق الإنسان لصالح تعميق العلاقات الاقتصادية.

4 ـ التطبيع واتفاقيات ابراهيم :

شهدت فترة ولاية ترامب الأولى اتفاقيات إبراهيم، والتي أسفرت عن تطبيع الكيان الاسرائيلي للعلاقات مع العديد من الدول العربية، ولا سيما الإمارات والبحرين. وبينما لم تنضم المملكة السعودية رسميًا إلى الاتفاقيات، كانت هناك معلومات وفيرة عن تعاون سري بين الكيان الاسرائيلي والسعودية، وكذلك لقاءات خاصة بعيدًا عن الاعلام على مستوى وزراء، بل كان رئيس الوزراء الاسرائيلي بنيامين نتنياهو طرفًا في هذه اللقاءات، حيث زار المملكة السعودية والتقى ابن سلمان في نيوم بصورة سريّة في 22 نوفمبر 2020، بحسب وزير التعليم الاسرائيلي يو آف غالانت، وزير الدفاع لاحقًا والمقال من رئيس الحكومة نتنياهو في 5 نوفمبر 2024.

– في فترة ولايته الثانية، سوف يستأنف ترامب جهوده لتشجيع التطبيع السعودي الإسرائيلي. وقد يشمل هذا “الحوافز الاقتصادية”، و”الضمانات الأمنية”، وزيادة “التعاون الإقليمي” ضد إيران. وسوف تكون السعودية على استعداد للتحرك نحو “التطبيع” مشفوعة بمحاولات الحصول على “امتيازات كبيرة” من كل من الولايات المتحدة والكيان الاسرائيلي، وخاصة فيما يتصل بدورها الإقليمي في ملفات سوريا وفلسطين ولبنان والوعد “بالدعم الأمني” ضد النفوذ الإيراني، والحد من النفوذ التركي.

5 ـ حقوق الإنسان :

كما أنقذ ابن سلمان من مأزق خاشقجي في عام 2018، وقد أعلنها حينذاك بأنه هو الذي حمى (…)، فإن ترامب سوف يستخدم نفوذه في توفير حماية لابن سلمان ونظامه قبالة الانتقادات التي تتعلق بانتهاكات حقوق الانسان.

ومع أن حساب جريمة قتل جمال خاشقجي لم يغلق حتى الآن، وبقي “نقطة خلاف” رئيسية في العلاقات الأمريكية السعودية على المستوى القضائي والإعلامي في الحد الأدنى، إذ على الرغم من الأدلة الساحقة التي تشير إلى تورّط محمد بن سلمان في الجريمة،  فإن ترامب “قلّل” إلى حد كبير من أهمية الحادث وركز على “الحفاظ على العلاقات” مع المملكة السعودية بسبب الأهمية الاستراتيجية والاقتصادية للعلاقة. وقد قاومت إدارة ترامب في البداية الدعوات إلى فرض عقوبات على المملكة السعودية، ونجح في منع أي قرار يدين ابن سلمان أو يجلبه للمحاكمة.

في فترة الولاية الثانية، من المرجح أن يظل “نهج ترامب” كما هو، حيث يعطي الأولوية للاستقرار الجيوسياسي والفوائد الاقتصادية على مخاوف حقوق الإنسان. سيظل “الافتقار إلى المساءلة” عن انتهاكات حقوق الانسان، سيما الإعدامات، والاعتقالات العشوائية، وغياب الشفافية عن المحاكمات الخالية من الحد الأدنى من شروط المحاكمة العادلة، إضافة إلى ترسّبات مقتل خاشقجي مصدر قلق منظمات حقوق الانسان المحلية والدولية. باختصار، من غير المرجح أن يغيّر ملف حقوق الانسان وبشكل أساسي العلاقات الأمريكية السعودية في فترة ولاية ترامب الثانية، بالنظر إلى “الفوائد الاستراتيجية والاقتصادية والأمنية” التي يستمدها ترمب من العلاقة.

 من جهة ثانية، سوف يسعى محمد بن سلمان إلى “تأكيد موقفه” على الساحة العالمية، من خلال التواصل مع ترمب بشكل أكبر “لتعزيز العلاقات الثنائية” وإظهار دوره في “الأمن الإقليمي”.

وقف الاتجاه شرقًا :

في السنوات الأخيرة، سعت السعودية إلى “تنويع سياستها الخارجية” والانخراط بشكل أعمق مع الصين وروسيا في سياق تنويع الشركاء. ويرجع هذا جزئيًا إلى الاعتبارات الاقتصادية، مثل “العلاقات التجارية” والحاجة إلى “شركاء بديلين” في مجالات مثل “أسواق الطاقة” و”التعاون العسكري”. ولكن هذا لاتجاه لم يكن أصيلًا، بل كان أشبه بإثارة انتباه الحليف الاستراتيجي للسعودية، أي الولايات المتحدة، حيث تتطلع الرياض إلى مزيد من الشراكة والرعاية والحماية من واشنطن.

وفي حين أن فكرة قطع السعودية علاقاتها مع الولايات المتحدة مستحيلة، فإن فترة ولاية ترامب الثانية سوف تشهد العلاقات الثنائية فصلّا متطوّرًا يصل الى حد التبعية الشاملة. نعم، قد تستمر السعودية في علاقاتها مع الصين (خاصة في مجالي الطاقة والاستثمار) لحاجة السعودية إلى الصين كزبون أكبر وثابت (تشتري الصين ما مقدراه 1.7ـ 2 مليون برميل يوميًا من النفط السعودي ما يجعلها أكبر مستورد، إلى جانب الاستثمارات الصينية في مشاريع نيوم) ومع روسيا (خاصة في صفقات إنتاج النفط والتعاون العسكري). وقد يؤدي هذا التعاون مع بكين وموسكو إلى بعض التوتر في العلاقات الأمريكية السعودية، حيث ينظر ترامب إلى هذه التحركات على أنها تحدٍ للنفوذ الأمريكي في المنطقة، خاصة إذا كانت تقوّض أهداف الولايات المتحدة فيما يتعلق بأمن الطاقة. وعلى ما يبدو، فإن السعودية التي أعلنت تعليق عضويتها في بريكس، وقد تستجيب لطلب ترمب بتخفيض أسعار النفط من أجل الضغط لوقف الحرب في أوكرانيا، سوف تلحق أضرارًا بالاقتصاد الصيني والروسي.

7 ـ أسواق الطاقة والنفط :

تتمتع السعودية، بصفتها زعيمة “أوبك+”، بنفوذ كبير على “أسعار النفط” العالمية. في عهد ترامب الأول، كان هناك توتر مستمر بين الولايات المتحدة و السعودية بشأن مستويات إنتاج النفط وسعر النفط. وكان ترمب غالبًا ما دعا السعوديين إلى “زيادة إنتاج النفط” لخفض الأسعار، الأمر الذي من شأنه أن يعود بالنفع على “الاقتصاد الأمريكي” و”المستهلكين الأمريكيين”.

في فترة ولايته الثانية، عادت “سياسات ترامب النفطية” إلى سابق عهدها، بمطالبته السعودية بزيادة الانتاج وخفض الاسعار. تحدّث ترامب عن تفوّق بلاده الانتاجي على كل دول العالم، وأنها لم تعد بحاجة إلى أي نفط من الخارح،  وبدا كما لو أنه يومىء إلى قدرة بلاده على التحكم في معادلة “إنتاج النفط” و”استقلال الطاقة”، وتاليًا توظيف العمل النفطي في التأثير على العلاقات الأمريكية السعودية. ومع ذلك، فإن دور السعودية في قرارات “أوبك+” و”سوق الطاقة العالمية” الأوسع نطاقًا سيظل عاملاً حاسمًا في تحديد صحة العلاقة.

في النتائج، سوف تبقى العلاقات الأمريكية السعودية متينة على أساس قدرة السعودية على “بذل المال” في الاقتصاد الأميركي، كشرط لكل ما يليه من “تنسيق جيوسياسي”، وخاصة فيما يتعلق بـ “إيران”، و”التعاون الدفاعي”، و”الشراكات الاقتصادية”. إن نهج ترامب في السياسة الخارجية القائمة على “المعاملاتية” يعني أنه سيستمر في إعطاء الأولوية للصفقات الاقتصادية، والدعم العسكري، والأمن الإقليمي، على المخاوف بشأن حقوق الإنسان.

ومع ذلك، هناك عدة عوامل يجب مراقبتها:

– الأهمية المستمرة لدور محور المقاومة وترمومتر التوتر في العلاقات الاميركية الايرانية وكيفية تعامل السعودية مع ملفات المنطقة: سوريا وفلسطين ولبنان واليمن والكيان الاسرائيلي.

– العلاقات المتنامية للسعودية مع الصين وروسيا، قد تتأثر بالديناميكيات الاقتصادية والسياسية والأمنية والاستراتيجية في ولاية ترامب الثانية.

– إمكانية أن تحقق الاستثمارات السعودية دفعًا للتعاون المستقبلي مع الولايات المتحدة في مجالات مثل التكنولوجيا والبنية التحتية والطاقة، وما يحمله التعاون من رسائل على مجالات أخرى حيوية، مثل حقوق الانسان، ومستقبل العرش، والصراعات الخفيّة داخل البيت السعودي، وحتى علاقات الرياض بالجوار الخليجي.

بشكل عام، في حين قد تكون هناك لحظات من التوتر، فمن المرجح أن تظل العلاقة متوافقة استراتيجيًا بسبب المصالح المشتركة في الأمن الإقليمي، والتعاون الاقتصادي، وسياسات الطاقة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى