فجأة ومن دون سابق إبلاغ أعلنت وزارة الداخلية السعودية في الأول من يناير 2025 عن إعدام ستة إيرانيين بتهمة “تهريب الحشيش” في المنطقة الشرقية 1.
وكانت السعودية وإيران قد وقعتا إتفاقية التعاون الأمني في 17 أبريل عام 2001 بالعاصمة الإيرانية طهران. ويشمل الإتفاق تعاونًا بين البلدين في مجالات عدّة من بينها “تبادل المجرمين ومكافحة تجارة المخدرات”. وقد أعيد إحياء الإتفاق بعد نجاح الوساطة الصينية بعقد المصالحة بين ايران والسعودية في مارس 20232.
بدا مسار العلاقات بين الدولتين طبيعيًا على الرغم من الفتور الذي يكسوه، وكانت ثمة رغبة لدى الطرفين على سحب فتيل التوتر وتفادي أي عنصر تفجير في العلاقة، فيما كانت تصريحات المسؤولين الايرانيين والسعوديين تجمع على إرادة مشتركة بتطوير العلاقة وطي صفحة الماضي. ولذلك، كان إعلان وزارة الداخلية السعودية المعنيّة بالاتفاقية الأمنية مع نظيرتها الإيرانية عن إعدام ستة إيرانيين في مطلع العام الجديد صادمًا لطهران، كما جاء في الاحتجاج شديد اللهجة الذي أبلغته وزارة الخارجية الإيرانية للسفير السعودي في طهران بعد استدعائه. وجاء في مذكرة الإحتجاج بحسب وكالة “تسنيم” للأنباء الرسمية المقرّبة من الحرس الثوري أنه: “تمّ التأكيد على أن هذا الإجراء يتعارض مع المسار العام للتعاون القضائي بين البلدين”، وتم تسليم السفير السعودي مذكرة رسمية تُطالب بتقديم تفسيرات واضحة بشأن الحادثة. ونقلت الوكالة عن كريمي شصتي، مدير عام الشؤون القنصلية بوزارة الخارجية، اعتراض الوزارة الشديد على إعدام 6 من المواطنين الإيرانيين المسجونين في السعودية بتهمة تهريب المخدرات. وأوضح “أن هؤلاء الأفراد حُكم عليهم بالإعدام قبل سنوات عدّة من قبل القضاء السعودي، وكانت وزارة الخارجية الإيرانية تبذل جهودًا مستمرة لتقديم خدمات قنصلية لهم والعمل على تخفيف الأحكام الصادرة بحقهم”. وأشار إلى أن تنفيذ أحكام الإعدام دون إخطار مسبق للسفارة الإيرانية أمر غير مقبول على الإطلاق، وينتهك قواعد ومبادئ القانون الدولي، بما في ذلك اتفاقية العلاقات القنصلية3.
ويظهر من ردود طهران، أن قرار السعودية بتنفيذ الاعدامات كان مفاجئًا وخارج سياق التعاون القضائي، بما يثير سؤالًا حول الغاية من تنفيذ الأحكام الآن، ولماذا قرّرت الرياض تجاهل بنود الاتفاقية الامنية، وما الغاية من كل ذلك؟
من الناحية القانونية، ليس هناك عقوبة اعدام على “تهريب الحشيش”، بلحاظ الفارق بين “التهريب” و”الترويج”، لأن التهريب قد يكون محدود الكمية وعلى نطاق ضيق، ولم يذكر بيان الداخلية تفاصيل عن كمية “الحشيش” التي كانت بحوزة الإيرانيين الستة، ولا طبيعة المحاكمة التي جرت لهم ومدى التزامها بشروط المحاكمة العادلة والتمثيل القانوني للمتّهمين. وبحسب المستشار القانوني للمنظمة السعودية الأوروبية لحقوق الإنسان طه الحجي: “نحن أمام توسّع كبير في مسبّبات الإعدام في السعودية”، وأن النظام السعودي “خلق أسباب جديدة للإعدام من بينها الانتماء السياسي والخيانة، الغامضة”.
على أية حال، فإن الحادثة قد تحدث هزّة متوسطة الشدّة في العلاقات السعودية الايرانية، وفي أسوأ السيناريوهات قد تؤسس لفصل جديد من القطيعة، ولكن هل ستخدم هذه الواقعة مشروع السعودية في المرحلة المقبلة، وفي منطقة أصبحت مفتوحة على احتمالات متعدّدة، لمجرد أن فريقًا أميركيًا واسرائيليًا (وربما أوروبيًا) يريد تفجير المنطقة؟
في السياق، كانت السعودية منذ سقوط نظام بشار الأسد في 8 ديسمبر 2024 منشغلة بجولة “استكشاف” لهوية القادم الجديد الى الحكم في سوريا، وكانت متوجسة خيفة من اعتلاء فريق ينتمي إلى ضدّها النوعي، أي الوهابية من الناحية العقدية. “هيئة تحرير الشام” التي تضم ائتلافًا من جماعات سلفية جهادية برئاسة أحمد الشرع (أبو محمد الجولاني) هي في جذورها العقدية وهابية، وفي نهجها الحركي الجديد إخوانية، وكلاهما غير متصالحين مع السعودية الجديدة، وحتى القديمة، التي ترى في أي حكم ديني في المجال الإسلامي السنّي خصمًا لها ويهدّد مشروعيتها الدينية4.
مؤشرات متوالية بعد المتغير السوري كانت تفيد في بداية الأمر بأن ثمة تنسيقًا مشتركًا بين السعودية وايران والعراق ومصر والاردن والامارات لمواجهة تداعيات مرحلة ما بعد بشار، وكانت الرياض تلتزم الحذر في علاقتها مع الحكومة السورية الجديدة، ولذلك اقتصرت أول زيارة لمسؤول سعودي إلى دمشق على رئيس الاستخبارات العامة، ولكن ما لبث أن حصل تحوّل مفاجىء في الموقف السعودي حيث قدّمت الرياض دعوة لوزير الخارجية السوري أسعد الشيباني لزيارة المملكة، ولحقها إرسال اسطول جوي من المساعدات الإنسانية مترافقة مع مشاركة إعلامية ملفتة.
كل ذلك يبدو مفهومًا، ولكن ما ترافق مع ذلك التحوّل من مواقف مثيرة من بينها حملة شيطنة لإيران، كالتي عبّر عنها المهرّج ناصر القصبي، المقرّب من محمد بن سلمان في تغريدة على منصة (X) في 31 ديسمبر 2024 جاء فيها: ” غمرنا 2024 ببركاته أولها الشروع في أقتلاع المشروع الصفوي في منطقتنا و من جذوره ان شاءالله . سقوط أقذر نظام حَكم سوريا منذ ألف عام في مزبلة التاريخ والعقبى في بدايه 2025 لمشروع ملالي ايران وأذنابهم وزعرانهم في العراق وسحقهم سحقًا بقدر ما عثوا فسادًا فيه”.
جاءت التغريدة قبل يوم من تنفيذ أحكام الإعدام بحق الإيرانيين الستة. ولم يكن القصبي يجرؤ على مثل هذه التغريدة التي شملت العراق، الدولة العربية الصديقة نظريًا على الأقل للسعودية والتي يفترض أن الأخيرة تعلّمت من درس سابق حين تجاوز السفير السعودية في بغداد ثامر السبهان على الحشد الشعبي، بصفته مؤسسة رسمية في القوات المسلحة العراقية وانتهى به الحال إلى النبذ والعودة إلى البلاد. رود الفعل على التغريدة، لا سيما من المواطنين العراقيين، كانت عاصفة وغاضبة لما فيها من تطاول على مواطنين عراقيين والتحريض على العنف بشكل سافر واستفزازي.
قد تبدو التغريدة في ظاهرها قفزة في الهواء، أو تصرّف غير مسؤول وفردي ومعزول، ولكن خبر الاعدامات المفاجئة لستة من الجنسية الايرانية لفت إلى متغيّر يسترعي اهتمامًا خاصًا ربطًا بمعطيات أخرى يمكن استدماجها في تحليل التوجّه السعودي المستجد. وقد يرجعنا حكم الاعدامات المتزامن مع زيارة وفد الادارة الجديدة في سوريا الى التقاليد القبلية التي تستقبل ضيفها بالأضاحي، وكأن الرياض أرادت ان توصل رسالة الى الوفد بأنها تنتقم للنظام الجديد من خصمه السابق وأن تشاطره الموقف من ايران التي يجري التحريض بالحرب عليها بعد تنصيب ترمب بصورة رسمية.
في السياق أيضًا، ثمة تحضيرات لمواجهة عسكرية في اليمن تجري على قدم وساق تحشد لها الولايات المتحدة وحلفاؤها ومعها السعودية والامارات وقوى يمنية داخلية ويتم توظيف العامل الطائفي للتحريض والتحشيد.
في خبر ذو دلالة، ذكرت صحيفة “الإقتصادية” في الأول من يناير 2025 عن مصادرها بأن لا وجود للشركات السعودية في السوق الإيرانية بعد تصفية شركة صافولا للأغذية كامل أعمالها في إيران. وفي بيان الشركة أن هذه الخطوة جاءت في سياق “استراتيجيتها في الخروج في الوقت المناسب من كافة الأسواق غير الرئيسية لتعظيم القيمة للمساهمين وإعادة تخصيص الموارد نحو الأسواق ذات الإمكانات العالية والاستثمارات التي تتوفر لها فرص كافية للنمو المستقبلي في قطاع الأغذية”.
قد تبدو هذه الخطوة مفصولة عن سياق التطوّرات السياسية الأخيرة، واندكاكها في المجال التجاري المحض، ولكن طريقة الإعلان وتوقيته تأتيان في إطار التصعيد التراكمي الذي تشهده المنطقة منذ سقوط بشار وعودة الخطاب الطائفي إلى الانبعاث على نحو استفزازي، حيث يتم استهداف إيران بكونها تمثل الرمز الشيعي الأبرز وأيضًا المصنّفة في خانة الخصم لسوريا الجديدة، فيما يجري التغافل عن احتلالات أجنبية: أميركية وتركية واسرائيلية وما تشمله من مصادرات لثروات وأملاك وسيادة سوريا.
على أية حال، فإن السعودية صاحبة التجارب الطويلة في المعارك الطائفية، بدت وكأنها تستجيب لقرار إدارة ترمب بـ”تلزيمها” مهمة إشعال النار الطائفية في المنطقة، أولًا لاستكمال الحرب على محور المقاومة، وثانيًا لتغيير مشهد الاسناد الذي ساد لأكثر من عام، حيث تبّين، وباللغة المذهبية، أن جبهات الإسناد لقطاع غزة وصمودها ومقاومتها شيعية الطابع، الذي أثار حساسية السعودية وتركيا ومصر ودولًا عربية وإسلامية ذات أغلبية سنيّة.
قد يكون الخطاب الطائفي المغذّى سعوديًا مجرد محاولة لإبعاد إيران عن سوريا وحرمانها من أن يكون لها موطىء قدم، كما يرغب الأميركيون، وليس من مصلحة السعودية التورّط في أي نزاع طائفي مسلّح، لأن تداعياته لن تقف عند حدود ميدان النزاع، سواء في سوريا أو العراق، بل سوف تمتد نيرانه إلى الجزيرة العربية والخليج عامة. وفي النزاع الطائفي ليس هناك من رابح، وقد جرّبت السعودية ذلك في الثمانينات، واضطرت أخيرًا الى التفاهم مع خصومها. علاوة على ذلك، إن عدّة الفتنة الطائفية غير متوافرة لدى السعودية الجديدة، رائدة الترفيه والتسلية والانفتاح.
وإذا كان من أهداف الانفتاح العربي على سوريا الجديدة تعزيز استقرارها ومنع تفكّكها بالنظر إلى وجود تنظيمات سلفية جهادية وطائفية متعدّدة يمكن أن تشيع الفوضى في الساحتين السورية والعراقية، فإن من مصلحة السعودية وباقي الدول العربية عدم الذهاب في مسار يؤول إلى تغذية الفوضى. قد لا يكون الحكم الجديد في سوريا وصفة مثالية أو حتى مقبولة من السعودية ودول عربية أخرى مثل مصر والامارات والاردن، وحتى الجزائر، ولكن من مصلحة كل هذه الدول عدم الذهاب نحو خيارات راديكالية بنتائج مجهولة أو غير مضمونة، بتحويل الساحة السورية إلى ميدان لتصفية الحسابات سواء مع الداخل أو مع الجوار (وخاصة العراق ولبنان) على خلفية تناقض المصالح أو بناء على حسابات طائفية.
هناك قدر كبير من “التجييش” الطائفي في مواقع التواصل الاجتماعي وفي الجوامع بعد سقوط الأسد، وإن الاستجابة للغرائز قد تحقق هدفًا ضيقًا ومحدود الأجل، ولكن آثارها سوف تكون على استقرار سوريا ووحدة أراضيها والتي تعني في نهاية المطاف الأمن القومي العربي.
هناك سؤال كبير: هل تفضّل السعودية تكريس جهودها بالانشغال بإشعال فتنة طائفية في سوريا ولبنان لإبعاد إيران على استدراك ما فاتها في المتغّير السوري وضمان حصة وازنة في مقابل التركي والقطري؟ هناك من يرى بأن السعودية تميل الى الخيار الأول، على الرغم من أن الربح فيه غير مضمون، بل ترجح كفة الخسارة في مثل هذا النوع من الرهانات.
على نحو الإجمال، ثمة تحديان أمام السعودية في سوريا الجديدة: النفوذ التركي والحكم الديني. فإذا ما تخلّصت من النفوذ الإيراني الذي لم يكن متجذّرًا أو عصيًّا على الزوال، كونه لم يتغلغل في البيروقراطية الدولتية، ولم تكن له قواعد عسكرية واضحة وثابتة أو حتى احتلال لأراضي ولا مشاريع اقتصادية نافذة ومندكة في بنية الاقتصاد السوري، فإن النفوذ التركي في سوريا الجديد، على العكس، وكما تكشف تصريحات المسؤولين الأتراك أنفسهم ينبىء عن نوع من التغلغل العميق في أحشاء الدولة السورية، وفي مؤسساتها، وفي بنيتها الاقتصادية والعسكرية والأمنية وحتى بنيتها الثقافية والهوياتية. وهذا ينذر بشكل من الاحتلال الناعم وغير المباشر الذي سوف يغيّر معالم سوريا، وهذا بالتأكيد لن تقبل به لا السعودية ولا بقية الدول العربية المجاورة. من ناحية ثانية، إن نشوء دولة دينية، مهما كان شكلها وعلى الرغم من رسائل الطمأنة الشكلية من قيادة الإدارة السورية الجديدة، من شأنه إثارة قلق كثير من الدول المجاورة. ولذلك، قد يكون هدف الرياض من الانفتاح على الإدارة السياسية الجديدة هو الاحتواء وتشبيك مصالح مع قادتها للحيلولة دون الذهاب نحو الدولة الدينية. مهما يكن، فإن الديناميات الفاعلة على الساحة السورية لا تشجع على هذا النوع من النماذج، كما أن البنى الإثنية والدينية والإجتماعية لا تساعد على فرض صيغة دينية للحكم، وقد تفجّر صراعات لا نهاية لها.
في الحساب الإجمالي، قد تكون اللعبة الطائفية، التي تتقنها السعودية، سلاحًا لتخريب المعادلة السورية القائمة حاليًا، لتحقيق ضربة مزدوجة ضد إيران وتركيا والنظام السوري الجديد، ولكن من يضمن نجاح هذه اللعبة، ومن يضمن حدودها زمانيًا ومكانيًا، وأخيرًا من يمكنه حسم هوية المنتصر.
وإذا كان رهان السعودية، وإبن سلمان على وجه الخصوص، على ترمب لا يزال قائمًا ومن دون حساب التجارب السابقة معه، فإن النتائج سوف تكون هي ذاتها، وكما يقول اينشتاين: “الجنون هو أن تفعل الشيء ذاته مرةً بعد أخرى وتتوقع نتيجةً مختلفةً”.
- https://yemenfuture.net/gulf/28499 ↩︎
- https://www.dohainstitute.org/ar/PoliticalStudies/Pages/iranian-saudi-agreement.aspx ↩︎
- https://www.alhurra.com/iran/2025/01/01/%D8%A5%D9%8A%D8%B1%D8%A7%D9%86-%D8%AA%D8%B3%D8%AA%D8%AF%D8%B9%D9%8A-%D8%B3%D9%81%D9%8A%D8%B1-%D8%A7%D9%84%D8%B3%D8%B9%D9%88%D8%AF%D9%8A%D8%A9-%D8%A5%D8%B9%D8%AF%D8%A7%D9%85%D8%A7%D8%AA-%D8%AF%D9%88%D9%86-%D8%A5%D8%AE%D8%B7%D8%A7%D8%B1 ↩︎
- https://aawsat.com/%D8%A7%D9%84%D8%B9%D8%A7%D9%84%D9%85-%D8%A7%D9%84%D8%B9%D8%B1%D8%A8%D9%8A/%D8%A7%D9%84%D8%AE%D9%84%D9%8A%D8%AC/5096485-%D8%A7%D9%84%D8%B4%D9%8A%D8%A8%D8%A7%D9%86%D9%8A-%D8%A3%D9%88%D9%84-%D8%B2%D9%8A%D8%A7%D8%B1%D8%A9-%D8%AE%D8%A7%D8%B1%D8%AC%D9%8A%D8%A9-%D8%B1%D8%B3%D9%85%D9%8A%D8%A9-%D8%B3%D8%AA%D9%83%D9%88%D9%86-%D9%84%D9%84%D8%B3%D8%B9%D9%88%D8%AF%D9%8A%D8%A9 ↩︎