مقالات أخرى
أخر الأخبار

سعودية “اليوم التالي”

l

لم تظهر السعودية هذا القدر من الانكشاف لناحية التطبيع مع الكيان الاسرائيلي كما تفعل في أوقات الحرب على غزة وتاليًا على لبنان.. في اليوم الأول لطوفان الأقصى بدا واضحًا الشعور الافتجاعي لدى حكام الرياض؛ لأن ما كان وشيك الحصول بات بعيد المنال. وفيما كان محمد بن سلمان يبشّر شريكه المستقبلي، الاسرائيلي، بأن التطبيع أزف موعده، وبات قريبًا من لحظه الاستعلان، وإذ به ينظر إلى البناء الذي عمّره بالزيارات السّرية والعلنية والوقائع المفتعلة (خلل في الطائرة المدنية الاسرائيلية مثالًا) وحضور الوزراء الاسرائيليين الى الرياض تحت عناوين المشاركة في مؤتمرات دولية وقد انهار من علٍ لا يلوي على شيء، دع عنك الزيارة السرية التي قام بها نتنياهو الى نيوم، شمال غربي الجزيرة العربية في نوفمبر 2020 واجتماعه بولي العهد محمد بن سلمان والذي وصفه سيغورد نيوبارو مؤلف كتاب (الخليج وإسرائيلظم صراعات قديمة وتحالفات جديدة) بـ “التاريخي بكل المقاييس”، فيما عدّ آيان بريمر، رئيس مؤسسة أوراسيا لدراسة المخاطر السياسية نفي وزير الخارجية السعودية فيصل بن فرحان حصول اللقاء بأنه “لن تكون المرة الأولى التي تنفي فيها السعودية شيئًا نعرفه جميعًا”1.

على أية حال، ما كان يجري في السر، بات أقرب الى العلن بل هو بالفعل علني، مثل حضور السفيرة السعودية في واشنطن ريما بنت بندر فعالية بواشنطن بمشاركة إسرائيلييين. وكانت السفيرة قد شاركت في 9 سبتمبر 2024 في “قمة الحوار الشرق أوسطي الأميركي” في العاصمة الأميركية واشنطن، شارك فيها السفيران المغربي والبحريني، ووصفت صحيفة “تايمز أوف إسرائيل” المشاركة بـ”السابقة”، كونها تجلس جنبًا إلى جنب عدد من كبار المسؤولين الإسرائيليين. لم يكن مجرد حضور رمزي، بل شاركت بنت بندر بخطاب وصفته الصحيفة الاسرائيلية سالفة الذكر بـ “الملهم”، ولم يكشف عن محتوى الخطاب، لأن الجلسة والصور الخاصة بها محاطان بسرية تامة. ولكن، كشفت المصادر الاسرائيلية والأميركية بأن رئيس حزب “المعسكر الرسمي” بيني غانتس العضو السابق في حكومة نتنياهو، شارك في القمّة، وقال في الجلسة إن “السعودية هي الدولة الوحيدة التي تعرضت لهجوم إيراني بالمسيّرات، كالتي واجهته إسرائيل قبل نحو 5 أشهر” يقصد بذلك الهجوم بالمسيرات على المنشآت النفطية في بقيق وخريص في 14 سبتمبر 2019، والذي لم يثبت ضلوع إيران في العملية. وفي بيان لحزب غانتس نوّه بحضور السفيرة السعودية ريما بنت بندر. بطبيعة الحال، إن خلفية تصريحات غانتس ورئيس حكومة العدو نتنياهو هو إقناع العرب بأن اسرائيل وحدها الضامنة لحماية مشيخات النفط!2

وبحسب الموقع الرسمي لقمة الحوار الشرق أوسطي الأميركي (MEAD)، فإن تعزيز الحوار بين الولايات المتحدة والشرق الأوسط يأتي في طليعة جهود القمة، وأن الاجتماع السنوي “يجمع بين القادة من المنطقتين، لتعزيز التحالفات وصياغة السياسات المستقبلية”. في حقيقة الأمر، أن القمة تمثل أحد قنوات التطبيع بين الكيان الاسرائيلي ودول عربية، وعلى رأسها السعودية. وبحسب وسائل إعلام عبرية عن مسؤول إسرائيلي رفيع  أن ثمة إمكانية لإبرام “صفقة تطبيع بين السعودية وإسرائيل خلال الفترة ما بين انطلاق الانتخابات الأميركية في نوفمبر وتنصيب الرئيس الأميركي الجديد في 20 يناير”، مع التأكيد على أن ذلك “يتطلب وقفًا لإطلاق النار في غزة، ورؤية بشأن حل القضية الفلسطينية”.

في حقيقة الأمر، إن نتنياهو اليوم لا يكترث بالتطبيع وفق التصوّر السعودي، بل يريد أن يفرض شروطه على الطرف الآخر ومن دون مقابل، ومن دون حتى قف إطلاق النار، مع أن الانغماس السعودي (الإعلامي في الحد الأدنى) في الحرب ضد غزة ولبنان ومحور المقاومة بعمومه يكشف عن حقيقة أن التطبيع أصبح واقعًا عمليًا، ولا ينقصه سوى صورة تجمع نتنياهو محمد بن سلمان.

يتحدث السعودي عن “تحالف دولي من أجل حل الدولتين”، ويتحدث الأميركي عن “إتفاق وقف اطلاق النار في غزة” ومعالجة القضايا العالقة، وأن ذلك يتيح المضى في مسار التطبيع مع السعودية. والحال، لا السعودية تقوم بما يجب عليها من أجل بناء تحالف دولي حقيقي، ولا الآميركي يعمل على وقف اطلاق النار، ومع التصعيد الصهيوني المجنون في الجبهة اللبنانية، وكلام المبعوث الأميركي الصهيوني هوكستاين بأن ورقة المفاوضات لم تعد مطروحة على الطاولة، وبذلك تكون المنطقة مفتوحة على احتمالات تصعيدية تنذر باندلاع حرب إقليمية شاملة..

الصفقة كما تريدها الرياض واضحة وهي باختصار: اعتراف السعودية بالكيان الصهيوني مقابل إقامة علاقة أمنية أقوى بين الرياض وواشنطن، إضافة إلى تقديم مساعدة أميركية لبرنامج نووي مدني سعودي. ومع أن السعودية لم تقم علاقات دبلوماسية مع الكيان الاسرائيلي، ولم تنضم إلى اتفاقيات ابراهام سنة 2020 والتي شملت الامارات والبحرين بوساطة أميركية ثم تلت ذلك المغرب والسودان، فإن السعودية كانت تشجع هذه الدول على التطبيع، فيما تقيم هي علاقات سرية مع الكيان الاسرائيلي، بانتظار لحظة الاعلان المناسبة.

توق المملكة السعودية للتطبيع يكاد يكون أشد منه لدى الكيان الاسرائيلي، على الرغم من عزوف رئيس حكومة العدو نتنياهو عن التطبيع بالصيغة القديمة، ويرى نفسه منتصرًا فهو يملي شروطه، مع أنه لم يحقق أي من الاهداف المعلنة سواء في غزة أو لبنان (على الرغم من اغتياله سيد شهداء طريق القدس أمين عام حزب الله القائد التاريخي السيد حسن نصر الله)، ولكن لا تزال المقاومة راسخة في أرضها وثابتة القدم على الحدود في مواجهة محاولات التقدّم البري. السعودية ترى في اليوم التالي فرصة لخروجها من المأزق التاريخي سواء على مستوى تكوين الدولة أو على مستوى مسارها الدولي، وتأمل بأن ثمة معادلة سوف تفرض نفسها بعد الحرب تجعل من التطبيع منجزًا بالنسبة إليها، على أساس أن ما فشل محور الممانعة في تحقيقه عن طريق الحرب سوف تحصل عليه عن طريق السلم.

ولكن سوف تبقى فلسطين اختبارًا حقيقيًا لقدرة أي دولة في المنطقة على الذهاب في العلاقة مع الكيان الصهيوني، في الوقت الذي يتجاوز فيه قادة الكيان كافة الخطوط الحمراء ويرتكب المجازر والإبادات الجماعية على الهواء مباشرة دون اكتراث لا لمشاعر مليار ونصف المليار مسلم ولا لحكومات تزعم بأنها تدافع عن حقوق الشعب الفلسطيني. في الواقع بدا اضحًا بعد تصعيد الهجوم الاسرائيلي على لبنان منذ اغتيال القائد التاريخي سيد شهداء طريق القدس السيد نصر الله أن السعودية بدأت تكشف عن اصطفافها السياسي والاعلامي مع الكيان الاسرائيلي. فالمملكة لم تكتف بعدم إدانة الجريمة باستخدام الصهاينة قنابل محرّمة دوليًا في عملية الاغتيال، ولكن كشفت معلومات خاصة عن اجتماعات سرية بين السعودية والكيان الاسرائيلي أن الرياض طلبت من تل ابيب اغتيال أربعة من قادة المقاومة الاسلامية في لبنان لارتباطهم بملف اليمن والعدوان السعودي الاماراتي عليه.

إن أهمية القضية الفلسطينية بالنسبة إلى النظام السعودي ليست نابعة من موقف مبدئي وقناعة بجدارة الدفاع عنها بصفتها قضية عربية وإسلامية عادلة، وإنما لأنها تمثل قضية الأمة، وإن حكام الرياض يشعرون بأن من غير الممكن الاصطدام بمشاعر الأمة..ولذلك، فإنه سوف يبقى يردد بأنه مع التطبيع مع الكيان الاسرائيلي ولكن بشرط إقامة دولة فلسطينية، كما ذهب السفير السعودي في لندن خالد بن بندر في 10 يناير 2024. وكشف بأن الاتفاق مع الكيان الاسرائيلي كان “وشيكًا”، وإن تعليق المحادثات بوساطة أميركية جاء على إثر طوفان الاقصى في 7 أكتوبر واندلاع الحرب العدوانية الهمجية على قطاع غزة. ومع ذلك، فإن كل جرائم الصهيونية في القطاع تبقى مغفورة، لأن السعودية لا تزال تؤمن بإقامة علاقات مع الكيان الاسرائيلي. كان ولي العهد السعودي ابن سلمان واضحًا في مقابلة عبر قناة فوكس نيوز الأميركية في 21 سبتمبر 2023 بما نصّه “إننا نقترب كل يوم أكثر” من الاتفاق مع الكيان الاسرائيلي، وأن ما يريده ابن سلمان من الأخيرة هو أن “يخفف عناء الفلسطينيين”.

ولكن لا تبدو المقاييس واحدة لدى حكام الرياض حيال المعاناة التي ينزعوا إلى وضع الاسرائيليين والفلسطينيين على حد سواء، ولا عجب أن يقول خالد بن بندر بأن “درجة العنف غير المسبوق الذي مارسه الطرفان..” وإن العتب الذي يوجهه بن بندر لإسرائيل لكونها “دولة مسؤولة”!.

ولكن القضية أبعد من ذلك، فإن ثمة رهانًا كبيرًا بات اليوم مفصليًا ووجوديًا، وكما عبّرت عن ذلك صحيفة “جيورزاليم بوست” الاسرائيلية في مقال رأي كتبه بريان بلوم في 16 يونيو 2024 بعنوان “السعودية شريان الحياة الوحيد لإسرائيل بعد الحرب”، وفيما اعترف الكاتب بأن نصرًا كاملًا في قطاع غزة غير متاح البته، فإن على اسرائيل أن تفعل شيئًا “يحفظ ماء وجهها”. وإن خسارة اسرائيل الحرب مع حماس، لا يمكن تعويضه إلا إذا اعتمدت الحكومة الخطة ب، أي أن الهزيمة أمام حماس يمكن التعويض عنها من أجل كسب استعادة ثقة الناس ويكون من خلال الاتجاه شرقًا، أي بالتطبيع مع السعودية والإمارات. بكلمات أخرى، إن الكيان الاسرائيلي ترى في السعودية والإمارات بابًا خلفيًا في حال اشتعال الحريق في الكيان، بفعل الهزيمة أمام حماس، وأن التطبيع مع السعودية وحده الوصفة السحرية لإفشال احتفالية حماس ومحور المقاومة بالنصر العسكري على الكيان. وهذا هو اليوم التالي الذي يعوّل عليه قادة الكيان في حال خرجوا من الحرب الهمجية بصفر نتائج على الجبهتين الفلسطنيية واللبنانية. بطبيعة الحال، إن هذا الرهان لم يأت من فراغ، فهناك رغبة مؤكّدة لدى الجانب السعودي في تطبيع العلاقات مع الكيان، كما يظهر في خطواتها التمهيدية في التطبيع فيما يبدي الجانب الاسرائيلي بأنه غير مستعجل، وأن التطبيع تحصيل حاصل سواء كان مع حل الدولتين أو من دونه، لأن السعودية التي فرّطت في كثير من أوراق القوة المحلية والخارجية، تجد نفسها محثوثة بأي صفقة مع الكيان الاسرائيلي ما دامت تحت الرعاية الاميركية، وما دامت سوف توفّر لها الحماية  عن طريق الاتفاقية الدفاعية والمشروع النووي. ولكن في المقابل، تصر الحكومة الليكودية على رفض تقديم أي تنازل فيما يخص الدولة الفلسطينية، ونادرًا ما حظي  هذا المسار بقبول لدى الاسرائيليين والحكومة الحالية بشدة، مع أنّ المنطق يقول إذا لم ينجح الكيان الصهيوني في كسب الحرب ضد حماس، فإن البديل يكون بتقديم تنازل ولو جزئي أو حتى شكلي يكون مبرَرًا للسعودية للدخول مشروع التطبيع. وقد يكون هذا المشروع قناة مناسبة بالنسبة إلى السعودية  من أجل اصلاح صورة نتتياهو المدمرة، بل قد تكون مرحلة اللاحرب فرصة للتخلص منه بعد أن أصبح في نظر العالم مجرد مجرم حرب ومارق وخارج على القانون.

وجهة نظر أخرى تذهب إلى أن التطبيع سوف يشكل فرصة يكون فيها نتنياهو أكثر قبولًا في المنطقة، من خلال بناء تحالف عربي سني! ضد ايران ومحور المقاومة، في حال قرر الدخول في شراكة استراتيجية مع السعودية والامارات وحلفاء الولايات المتحدة في المنطقة. تبقى مشكلة واحدة أن نتنياهو لا يشتغل على صورته في الحرب على فلسطين وغزة، فالهمجية غير المسبوقة في استخدام القنابل الفتّاكة لإحداث تدمير واسع النطاق وإيقاع أكبر عدد من القتلى سواء في قطاع غزة أو لبنان لا تعكس رغبة لدى نتنياهو بالصورة، وقد يكون جوابه للسعودية ولغيرها في المنطقة “اقبلوني كما أنا أو انصرفوا”، هو يعتقد بأن القوة وحدها القادرة على فرض احترامه وأيضًا شروطه على المنطقة، وإنه ليس على استعداد لأن يفرض بهذه القوة. بالنسبة إلى السعودية، فإن اليوم التالي قد يكون عارًا في نظر الأمة، لأن التطبيع سوف يكون هذه المرة مع أسوأ نموذج في التوحّش أنتجته البشرية في العصر الحديث، وأن السعودية سوف يكون دورها هو إضفاء مشروعية على مجرم وقاتل الأطفال ومهندس المجازر الجماعية. من تداعيات تطبيع السعودية مع الكيان الاسرائيلي هو انقاذ قادته من المحاكمة العادلة ولا سيما محكمة العدل الدولية والمحكمة الجنائية الدولية، لأن نتنياهو سوف يصبح بحكم التطبيع رجل سلام، بل وحتى على مستوى داخل الكيان الاسرائيلي سوف يفرض صورته على قضاة المحكمة الذين يلاحقونه بتهمة الفساد والرشوة ويصبح هو في موقع الرجل الذي ينقذ الكيان من أي ملاحقات قانونية ويعيد موضعته في النظام الاقليمي والدولي، وقد يصدر عفو بحقه لأن الكيان بحاجة إليه في هذه المرحلة وبدلًا من أن يساق الى السجن وملاحق في 120 دولة بعد قرار المحكمة الجنائية الجدولية إصدار مذكرة اعتقال بشأنه، فإنه يتحوّل الى بطل قومي في نظر الجمهور الاسرائيلي، ويكون بفضل النظام السعودي رجل سلام..وهذا هو اليوم التالي الذي يجب أن يخشى منه العالم.

  1. https://www.alhurra.com/arabic-and-international/2023/10/02/%D8%B5%D8%AD%D9%8A%D9%81%D8%A9-%D8%AA%D9%83%D8%B4%D9%81-%D8%A7%D9%84%D8%AA%D8%A7%D8%B1%D9%8A%D8%AE-%D8%A7%D9%84%D8%B3%D8%B1%D9%8A-%D9%84%D9%84%D8%B9%D9%84%D8%A7%D9%82%D8%A7%D8%AA-%D8%A7%D9%84%D8%A5%D8%B3%D8%B1%D8%A7%D8%A6%D9%8A%D9%84%D9%8A%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%B3%D8%B9%D9%88%D8%AF%D9%8A%D8%A9 ↩︎
  2. https://www.alhurra.com/saudi-arabia/2024/09/09/%D9%81%D9%8A-%D8%B3%D8%A7%D8%A8%D9%82%D8%A9-%D8%B3%D9%81%D9%8A%D8%B1%D8%A9-%D8%B3%D8%B9%D9%88%D8%AF%D9%8A%D8%A9-%D8%AA%D8%AD%D8%B6%D8%B1-%D9%81%D8%B9%D8%A7%D9%84%D9%8A%D8%A9-%D8%A8%D9%88%D8%A7%D8%B4%D9%86%D8%B7%D9%86-%D8%A8%D9%85%D8%B4%D8%A7%D8%B1%D9%83%D8%A9-%D8%A5%D8%B3%D8%B1%D8%A7%D8%A6%D9%8A%D9%84%D9%8A%D9%8A%D9%86 ↩︎

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى