مقالات أخرى
أخر الأخبار

(السعودية سوريا الجديدة ) بين خيارات: الاحتواء، التخادم، التصادم

في مذكرة مشتركة بين لجنة الشؤون الخارجية في الكونغرس ولجنة من الخارجية الاميركية أعدّت في عام 1992 ورفعت إلى الرئيس الأميركي المنتخب جديدًا بيل كلينتون ورد أن: “الملك فهد، ومنذ بروزه كقوة حاكمة في 1974 حين أصبح وليًا للعهد، كان مسرفًا في البذخ في استعماله المال لتقديم الرشى، وتغيير إتجاهات ردود الفعل، ومنع صنع القرار في كثير من الدول. وقد امتدّت ذراعه مؤخرًا ـ يقصد من تاريخ كتابة التقرير 19921 ـ إلى هيئة الأمم المتحدة حين تمّ تعيين بطرس بطرس غالي أمينًا عامًا. فقد ملئت الحسابات البنكية الخاصة بالأمين العام بالملايين من الدولارات عبر السفير السعودي في بلادنا، السيد بندر بن سلطان. وكان الهدف وراء هذا التدخّل من جانب الملك تحقيق أمور ثلاثة أوّلها:

ـ تهميش المشكلة البوسنية لاعتقاده بأن أي إنتصار للمسلمين سيفضي إلى حدوث تداعيات في المنطقة وخصوصاً في بلاده”.  وكان يقصد بذلك منع قيام دولة إسلامية في البوسنة، ويوضّح التقرير: “إن التدخل السعودي في البوسنة كان عاملًا مسؤولًا عن إحباط سياساتنا الرامية الى تسوية مبكّرة”.

في المحصلة، بقيت البوسنة دولة علمانية بحكومة متعددة الاثنيات والمؤسسات وأن النظام السياسي ما بعد الحرب كان مبنيًا على اتفاقيات دايتون التي تؤكد على عدم هيمنة دينية أو إثنية وتطوّر إطارًا سياسيًا مشتركًا.

في الشيشان أيضًا، عملت السعودية على منع قيام دولة إسلامية على النهج الوهابي ودفعت أموالًا طائلة من أجل إحباط مشروع الدولة التي كانت عناصر “القاعدة” تخطط لإقامته في منطقة القوقاز، وخصوصًا في الشيشان ومحاولة فصلها عن روسيا. وكان مشايخ الوهابية يقومون بتمويل الصراع من أجل استقلال الشيشان عن روسيا، حتى أنه أحال من “قادة الاستقلال” الوهميين إلى مجرمي الحرب الذين أسبغوا عليهم وسم “أمراء الجهاد” وهم من أتباع المنهج الوهابي، من أبرزهم شامل باسييف والسعودي خطّاب (وإسمه الحقيقي  (ثامر صالح السويلم) وآخرون انخرطوا في عمليات إرهابية مثل خطف الأجانب وقتل المدنيين والتمثيل بجثثهم كما فعل شامل بساييف بقتل مدنيين جورجيين عام 1993 ولعب كرة القدم برؤوسهم في ستاد سوخومي الرياضي2..

وكان أتباع بساييف وخطّاب ينشطون من أجل تقسيم الشيشان وإعلان إمارة شيشان الاسلامية، وفي فبراير 1999 أعلن عن قيام المحاكم الشرعية، وأقرّت عقوبة الجلد والرجم وقطع الأطراف، وتمّ إبطال عمل البرلمان الشيشاني لكونها سلطة دنيوية، وتأسّست نواة جيش عقائدي باسم اللواء الاسلامي الدولي مؤلف من مقاتلين من داغستان والشيشان وتركيا وبلدان عربية وروسيا يقودهم شامل بساييف وخطّاب. ولم يكن هذا اللواء سوى لواء وهابي يتلقى مقاتلوه توجيهاتهم من مشايخ الوهابية ويحصلون على أموال طائلة من هؤلاء المشايخ عبر غطاء الجمعيات الخيرية وحملات الإغاثة3.

على أية حال، فإن اللواء الوهابي ما لبث أن تعرّض لضربة قاصمة في عملية منسّقة بين سكان داغستان والقوات الروسية تحت قيادة فلاديمير بوتين. وفرّ المقاتلون الوهابيون فيما طاردت المخابرات الروسية من تبقى منهم، فقتل خطّاب في مارس 2002، وأصلان مسخادوف في مارس 2005، وباسييف في يوليو 2006، فيما قتلت المخابرات الروسية سليم خان باييف، خليفة باسييف، في الدوحة بقطر في فبراير 2004.

لم تقطع الرياض علاقاتها بمن غذّتهم بتعاليم الوهابية التكفيرية، وإنما كانت ترى فيهم مخزونًا استراتيجيًا يمكن اللجوء إليه في أوقات الشدّة، أو في المعارك مع الخصوم. بدا ذلك واضحًا في ساحات العراق، واليمن وأخيرًا سوريا.

ولكن بدا واضحًا منذ اعتلاء الاخوان المسلمين سدّة الحكم في مصر أن ثمة قلقًا لدى السعودية وحلفائها في الخليج (الامارات والبحرين والكويت) حيال انتقال عدوى الدولة الدينية إلى خارج مصر وتاليًا تنامي النفوذ التركي في المنطقة، خصوصًا بعد أن أظهر أردوغان رغبة في إعادة إحياء تركة الهيمنة العثمانية على المنطقة، وتتويجه خليفة وامتدادًا للعصر الذهبي العثماني. ولذلك، خطّطت السعودية والإمارات إلى قطع دابر التجربة الإخوانية في مصر، بل وفي كل المنطقة، وهذا ما حصل بعد إطاحة حكم محمد مرسي في يوليو 2013.

خيارات السعودية:

إن سقوط نظام بشار الأسد في سوريا من شأنه أن يؤثر بشكل كبير على استراتيجية المملكة السعودية في المنطقة، وخاصة فيما يتعلق بتنظيمات السلفية الجهادية في المنطقة وفي سوريا في الوقت الراهن. وبات عليها أن تختار بين الاحتواء بهدف درء الأخطار المحتملة الناجمة عن تعاظم قوة “هيئة تحرير الشام” الحاكمة في سوريا، أو التخادم بما يحقق مصلحة مشتركة لدى السعودية والحكم الجديد، وهنا قد يكون التخادم مؤقتًا وليس، بالضرورة، طويل الأمد، خصوصًا حين تبدأ المصالح بالتباين بين الطرفين على قاعدة أن ما تريده السعودية من الحكم الجديد قد لا يكون متطابقًا، أو ربما تتجه في سيناريو آخر الى التصادم لمعارضة النظام السعودي المبدئية مع أصل الحكم الديني الذي يهدد مشروعيته الدينية بعد أن اختار الانفتاح الاجتماعي والثقافي والترفيه على حساب الهوية الدينية التي بدأ منذ سنوات في التخفيف منها واستبدالها بهوية علمانية أو على الأقل غير دينية بالمعنى الحرفي.

لقد شاركت السعودية منذ فترة طويلة في الصراع السوري، حيث دعمت في البداية جماعات المعارضة التي كانت تقاتل ضد نظام الأسد، بما في ذلك بعض فصائل السلفية المسلّحة. ومع ذلك، تغيّرت ديناميكيات الصراع بمرور الوقت، ومن شأن عواقب سقوط الأسد أن تقدم كل من المخاطر والفرص للمملكة السعودية فيما يتعلق بمستقبل الحكم الديني في سوريا.

لناحية السياق، كانت السعودية داعمًا رئيسيًا لقوى المعارضة في سوريا، وخاصة تلك المتحالفة مع السلفيين، في معارضة نظام الأسد الذي يتهمه خصومه بميوله نحو تمييز طائفته العلوية عن بقية الطوائف، وأن هذا النظام يحظى بدعم إيران ذات الأغلبية الشيعية وحزب الله. كان تورط العربية السعودية في سوريا مدفوعًا بعدة عوامل:

ـ مواجهة النفوذ الإيراني: تنظر السعودية إلى إيران بكونها منافسًا إقليميًا رئيسيًا، وكان أحد أهدافها الرئيسية في سوريا “تقليص نفوذ إيران” في البلاد.

ـ تعزيز الإسلام السُنّي: دعمت السعودية تاريخيًا “الجماعات الإسلامية” السُنّية، بما في ذلك المسلّحة منها وكذلك “الفصائل السلفية الجهادية”، كجزء من استراتيجيتها الإقليمية الأوسع لضمان احتفاظ الإسلام السُنّي بالهيمنة في الدول العربية الرئيسية.

الأمن الإقليمي: تشعر السعودية بالقلق إزاء إمكانية سيطرة المتطرفين الإسلاميين على سوريا، وخاصة في ظل وجود جماعات مثل “هيئة تحرير الشام”، الفصيل المرتبط تنظيميًا وإيديولوجيًا بشبكة القاعدة، وأن زعيم الهيئة وعناصر متطرفة أخرى في المعارضة يستلهمون مواقفهم من أدبيات القاعدة.

تبدو توجهات السعودية إزاء الدولة الدينية في سوريا بعد الأسد شديدة التعقيد، بلحاظ التقاطعات القائمة بين القوى النافذة في سوريا، وشبكة التحالفات المتعارضة أو المتشابكة بين الأطراف العاملة على الساحة السورية منذ اندلاع الأزمة في 2011.

سقوط نظام الأسد المفاجىء، أربك حسابات السعودية وجعلها أمام واقع جديد فرض عليها التعامل معه على نحو عاجل، قبل أن تخسر حصتها فيه، كونها تواجه خيارات استراتيجية متعددة فيما يتعلق بأي “نظام حكم إسلامي” أو “نظام حكم يحظى بدعم الإسلاميين” في سوريا كما هو الحاصل الآن. وسيتعين على السعوديين الموازنة بين “التزاماتهم الإيديولوجية” و”مصالحهم الجيوسياسية” و”مخاوفهم الأمنية الإقليمية”.

ـ دعم الجماعات الإسلامية المعتدلة (الإسلاميون السنة)، من غير تنظيمات السلفية الجهادية. وعلى ما يبدو، فإن تركيا قدّمت للدول العربية نموذجًا معدّلًا أو مهجّنًا مثل “هيئة تحرير الشام” ذات الخلفية السلفية القاعدية، من أجل ليس فقط طمأنة هذه الدول، ولكن أيضًا من أجل تمرير نموذج يمكن قبوله ونيل الرضا به ليكون هو البديل عن أي نظام حكم ديني من داخل المنظومة الاسلامية السنيّة ولا سيما السلفيّة.

هناك من يرى بان السعودية، ولأنها تجد نفسها أمام خطر التطرف،  فمن المرجح أن تفضل التعامل مع فصائل إسلامية معتدلة، تكون أقل ميلاً إلى التطرف، مثل الجماعات المتحالفة مع “الإخوان المسلمين” أو “الحركات السلفية” التي لا تتبنى “الأيديولوجية الجهادية”. والحجّة في ذلك أن السعودية تاريخيًا  دعمت “جماعة الإخوان المسلمين السورية”، ولا سيما في زمن الملك فيصل، وقد يوفر انهيار نظام الأسد فرصة لتعزيز “الدور السياسي” للإخوان المسلمين في أي حكومة سورية مستقبلية. ولكن هذا الرأي ينقصه التحديث، وينتمي إلى حقبة لم تعد ممتدة، بل إن عكس الرأي هو السائد اليوم، وأن السعودية لا تميل إلى أي نظام حكم ديني، فضًلا عن نظام حكم يديره الإخوان المسلمون وإن ما دفع بالسعودية والامارات لإطاحة حكم مرسي ليس التناقض الايديولوجي بين الاخوان المسلمين والوهابية، بل إن السعودية لا تميل لأي نظام حكم ديني في الأصل، وإن قبلت فذلك ليس على سبيل “الشيك المفتوح”،و لكنّه قبول تكتيكي ريثما تعيد ترتيب أوراقها قبل أن تنقلب رأسًا على عقب.

فرصة التأثير: من خلال دعم القوى الإسلامية الأكثر اعتدالاً، يمكن للمملكة السعودية تشكيل المستقبل السياسي لسوريا وضمان عدم وقوعها تحت تأثير إيران أو جماعات السلفية المتطرفة. ومن المرجح أن يتحالف “الإسلاميون السنة المعتدلون” مع المصالح السعودية، في معارضة النفوذ الإيراني والحفاظ على “الأغلبية السنية” في سوريا، ولكن ليس من ضمانات بنجاح تحالف يقوم على استبعاد العامل التركي أو حتى القطري، ببساطة لما للدور المحوري الذي يلعبه التركي والقطري في المعادلة الداخلية.

من غير الممكن استبعاد دور الاستقطاب السياسي الحاد بين ثنائية التركي القطري والسعودي الاماراتي. فالاخيرتان كانتا لاعبين محوريين في إعادة بشار إلى الحظيرة العربية بعد أكثر من عقد من العزلة. وكانت إعادته مدفوعة برغبة مشتركة لدى الرياض وأبو ظبي بانتزاع سوريا من التحالف الاستراتيجي مع ايران وتخفيض نفوذ الأخيرة في الشرق الأوسط عامة. استجاب بشار لهذه الرغبة التي كانت أحد عوامل تقليص حضور فصائل المقاومة في سوريا وصولًا إلى إطاحته في 8 ديسمبر 2024. كان انفتاح السعودية والامارات على نظام بشار بمثابة اعتراف ضمني بأنه على الرغم من الجهود التي يدعمها الغرب للإطاحة به، فإن بقاءه السياسي أصبح حقيقة لا يمكن تجاهلها بعد الآن.

مع اطاحة بشار وصعود قادة جدد، على الرغم من التناقض الايديولوجي والسياسي مع حكّام الخليج (وخاصة السعودية والامارات)، فإن خيار الاحتواء قد يكون راجحًا من خلال البوابة الاقتصادية، إذ ستكون فرص إعادة الإعمار جزءًا من أي تقييم لدول الخليج. ومع تدمير البنية التحتية في سوريا، فإن السعودية والإمارات ستستفيدان من جهود إعادة الإعمار، شريطة أن تتمكنا من التفاوض على شروط مواتية مع الحكومة الجديدة في دمشق. إن تأمين دور في إعادة بناء سوريا يوفر أيضًا منفذًا للتأثير على نظام الحكم الجديد وعلى مستقبل سوريا في العموم.

في المقابل، حافظت قطر على اتصالات منتظمة مع (هيئة تحرير الشام) التي تمسك بزمام الأمور في سوريا، حتى الآن. في عام 2015، قامت قطر بوساطة في صفقة تبادل أسرى بين جبهة النصرة (هيئة تحرير الشام حاليًا) والجيش اللبناني.

تجدر الإشارة إلى أن السعودية والإمارات والبحرين وضعت بعد قطع علاقاتها مع قطر في 5 يونيو عام 2017، أحد مطالبها كما جاء في بيان قمة المنامة في 30 يوليو من العام نفسه إعلان قطر قطع علاقاتها مع جميع التنظيمات الإرهابية ومن أبرزها جماعة الإخوان المسلمين وتنظيم داعش والقاعدة وفتح الشام (جبهة النصرة سابقًا).

في قمة جامعة الدول العربية في جدة في عام 2023، انسحب أمير قطر، تميم بن حمد، من الاجتماع قبل خطاب الأسد، في سياق التأكيد على الموقف القطري من النظام السوري. وبعد إطاحة الأسد، أرسلت قطر وزير خارجيتها إلى دمشق في أواخر ديسمبر 2024، وكان ذلك بمثابة تتويج لانتصار الخيار القطري التركي. وتبع ذلك زيارة من رئيس مجلس التعاون الخليجي ووزير خارجية الكويت.

أحمد الشرع (أبو محمد الجولاني)، رئيس الإدارة السورية الجديدة، وزعيم هيئة تحرير الشام الذي قاد الهجوم الذي أطاح بالأسد، أعلن أن القطريين سوف يحصلون على الأولوية لدعمهم على مدى العقد الماضي، في إشارة إلى دور قطر في مشاريع إعادة الإعمار. وقال الشرع للصحفيين: “إن قطر لها أولوية خاصة في سوريا بسبب موقفها المشرف تجاه الشعب السوري”.

الاحتفالية التي أظهرها وفد الادارة السورية الجديدة التي ضمّت وزير خارجية أسعد الشيباني ووزير الدفاع ورئيس الاستخبارات العامة الى السعودية في مطلع عام 2025 حملت إشارات غامضة لناحية خيارات دمشق القادمة، إذ تحدّث الشيباني عمّا وصفها “زيارة تاريخية” للسعودية، فيما سبق وصول الوفد كلام للشرع يشيد فيه بعلاقته القديمة بالسعودية، التي ولد فيها ويتطلع إلى إقامة علاقة خاصة معها. ولكن هل هذه الاشادات كافية لطمأنة السعودية بحجز حصة وازنة لها في سوريا الجديدة، وفي مستقبل سوريا الاقتصادي والسياسي؟

من الواضح، أن ثمة دورًا مشتركًا يقوم به الثنائي التركي القطري في إعادة الإعمار في سوريا. وكان لافتًا تحرّكهما في 7 يناير 2025 من أجل معالجة مشكلة الكهرباء، حيث أرسلتا سفينتين تركية وقطرية من أجل توليد الكهرباء. رسائل الطمأنة التي بعثت بها أنقرة الى عواصم عربية ودولية بضرورة إعطاء فرصة للحكم الجديد وإبعاد الصورة النمطية عن التنظيم الحاكم، وتجربته الدموية الماضية، على أساس أن عملية تأهيل جرت له خلال السنوات الماضية من أجل الاندماج في المجال السياسي الدولي والتحرر من المسلّمات العقدية الصارمة، لقى ترحيبًا حذرًا من جانب عواصم عربية بما في ذلك الرياض التي ربما تلقت الدعوة التركية من أجل درء اخطار أو استكشاف فرص.

دعم الانتقال السياسي: يمكن للسعودية أن تدفع نحو “الانتقال السياسي” الذي يضمن كسر الاحتكار التركي القطري للنفوذ السياسي في سوريا، عن طريق مشاركة فصائل المعارضة (وخاصة حلفاء السعودية) في الحكومة المستقبلية مع تعزيز نهج من شأنه أن يعمل على استقرار سوريا وتأمين المصالح السعودية.

التعامل مع تنظيمات السلفية المسلّحة:

منذ الأيام الأولى لسقوط بشار، بدا واضحًا أن السعودية مترددة في دعم الجماعات التي تتوافق مع “الإيديولوجية السلفية المسلحة”، وخاصة تلك التي لها علاقة مع “القاعدة” (مثل هيئة تحرير الشام) أو “داعش”. هذه الجماعات تعتنق الوهابية التي أسّس عليها النظام السعودي مشروعيته الدينية، ولكنه اليوم لم يعد يتبنى هذه العقيدة من الناحية الرسمية، وعليه، فإن هذه الجماعات تحسبه مرتدًا، وقد تكون معادية للمصالح السعودية في الأمد البعيد. يُنظر إلى صعود مثل هذه الجماعات على أنه “تهديد أمني” للسعودية، حيث يمكن أن يؤدّي نفوذها إلى نشر التطرف في جميع أنحاء المنطقة.

خطر الارتداد: حتى مع الدعم الظاهري للحكم الجديد وإظهار الاستعداد لقيادة التبني العربي لسوريا الجديدة، كما ذهب عبد الوهاب بدر خان في صحيفة (الجزيرة) السعودية في 5 يناير 2024، فإن الحذر لايزال سيد العلاقة. فإذا دعمت الرياض سوريا الجديدة أو تسامحت مع صعود الجماعات السلفية المتطرفة في سوريا، فقد تواجه “ارتدادًا”، بما في ذلك زيادة خطر “الإرهاب” وعدم الاستقرار في الداخل أو في أجزاء أخرى من المنطقة. في النتائج، سوف تكون السعودية حذرة من “احتمال رد الفعل السلفي المسلّح”، وخاصة في ضوء المخاوف الأمنية الداخلية للمملكة فيما يتصل بتنظيمي (داعش) و(القاعدة) في شبه الجزيرة العربية.

التحديات في إدارة فصائل السلفية المسلّحة: سوف تواجه المملكة السعودية أيضًا تحدي “استقطاب” أو “السيطرة” على الفصائل الأكثر تطرفًا في سوريا لمنعها من تحدي السلطة السعودية أو زعزعة استقرار المنطقة. وقد تسعى إلى “احتواء” هذه الجماعات من خلال التحالفات مع “القبائل السنيّة المحلية” أو “الجهات الفاعلة الأخرى” في سوريا والتي يمكن أن تعمل كوسطاء.

الدعم السري للقوى العلمانية أو القومية :

خطر الاغتراب من الحركات الإسلامية: إذا كانت السعودية ستدعم “الفصائل العلمانية أو القومية” في سوريا، فقد يؤدي ذلك إلى تنفير “الفصائل السلفية” الأكثر انسجامًا أيديولوجيًا مع رؤية المملكة “للإسلامية السنية”. في حين قد يُنظر إلى هذا بكونه وسيلة لتعزيز الإستقرار، فإنّه من شأنه أن يحد من نفوذ السعودية على الفصائل الأكثر ميلاً إلى الإسلام في سوريا، والتي من المرجح أن تحظى بدعم شعبي بين الأغلبية السنية.

–  تشكيل مستقبل غير إسلامي: إن دعم القوى “العلمانية” أو “القومية” من شأنه أن يكون وسيلة للسعودية للحد من نفوذ الإسلاميين وإنشاء هيكل سياسي أكثر قابلية للاستقرار الإقليمي. وقد يكون هذا وسيلة لمنع صعود “النفوذ الشيعي المدعوم من إيران” أو “التطرف الإسلامي” في سوريا، على الرغم من أنّه سيواجه معارضة من العديد من “العالم العربي السني”، بما في ذلك تركيا وغيرها من الجهات السنية الإقليمية الفاعلة.

التسوية السياسية بعد الأسد:

خطر التفتت: إن “أكبر خطر” تواجهه المملكة السعودية في فترة ما بعد الأسد هو “تفتت سوريا” إلى “فصائل متحاربة” متعددة. – ستسعى المملكة إلى تجنب الموقف الذي قد تسيطر فيه الميليشيات السلفية المسلحة على مناطق واسعة من البلاد، وخاصة إذا كان بإمكانها زعزعة استقرار الدول المجاورة مثل الأردن أو لبنان أو حتى العراق.

المشاركة الدبلوماسية: من المرجّح أن تشارك السعودية في جهود دبلوماسية للتأثير على شكل الحكومة السورية المستقبلية. وقد يشمل ذلك المفاوضات المباشرة أو دعم عمليات السلام الدولية (مثل تلك التي تتوسط فيها الأمم المتحدة أو روسيا)، في حين تحاول في الوقت نفسه إضعاف أو تفكيك الفصائل السلفية المتطرفة. ومن المرجح أن تدعم الفصائل الإسلامية المعتدلة التي تتوافق مع مصالحها ويمكنها المساعدة في الحفاظ على الاستقرار.

في سؤال عن المخاطر والفرص التي تواجه السعودية بعد سقوط نظام الأسد، تبرز أولًا المخاطر الآتية:

ـ صعود السلفية المتطرفة: أحد المخاطر الرئيسية التي تواجه السعودية هو أن يؤدي “سقوط الأسد” إلى تصدّر التنظيمات السلفية المسلّحة المشهد السوري، باكتساب النفوذ في سوريا، مما يخلق “مركزًا إرهابيًا جديدًا” يستمد تعاليمه من الوهابية وقد يهدد استقرار السعودية. وقد يؤدي هذا إلى زيادة تأجيج التطرف في المنطقة وقد يؤدي إلى “هجمات إرهابية” في السعودية نفسها. وهذا يمثل أحد التفسيرات لميل السعودية الى احتواء الحكم الجديد كيما تكون قريبة من مصادر الخطر وإحباط مفاعيلها.

ـ خسارة النفوذ: تخاطر السعودية بخسارة “نفوذها” في سوريا إذا فشلت في التعامل بفعالية مع انتقال ما بعد الأسد. وفي حين دعمت تاريخيًا “الجماعات الإسلامية السُنّية”، فإن ديناميكيات القوة في سوريا قد تتحول بطرق تقوض الأهداف السعودية، وخاصة إذا فرضت جهات فاعلة إقليمية أخرى مثل تركيا أو قطر المزيد من السيطرة. ومع إدراك السعودية بأن ما جرى في سوريا منذ 27 نوفمبر حتى 8 ديسمبر 2024 هو انجاز تركي بدرجة أساسية وتاليًا قطري، إلى جانب بطبيعة الحال الأميركي والاسرائيلي فإنها لن تقبل الاستقالة أمام الواقع الجديد، وإن من باب درء الخطر قبل أن تفكر في جني الأرباح الذي يتطلب تدابير أخرى تختبر فيها الادارة السورية الجديدة ومدى استعدادها لتقبل مشاركة السعودية في الانتقال السياسي وفي مشاريع اعادة الإعمار.

ـ التوترات الطائفية: من الأخطار التي برزت فور سقوط الأسد تفاقم “التوترات الطائفية” القائمة بين “السُنّة” و”الشيعة”، وخاصة في “المناطق المختلطة في سوريا”. وسوف تحتاج السعودية إلى إدارة هذه التوترات بعناية لتجنب المزيد من عدم الاستقرار، والذي قد يمتد إلى البلدان المجاورة، وخاصة لبنان، أو العراق، أو الأردن والتي سوف تترك تداعيات مباشرة على دول مجلس التعاون الخليجي عامة.

أما على مستوى الفرص، فهي على النحو الآتي:

ـ النفوذ في الحكومة السورية الجديدة: وفّر سقوط الأسد للسعودية فرصة لتشكيل المستقبل السياسي لسوريا مع بروز مؤشرات على استعداد الحكم الجديد للذهاب بعيدًا في الشراكة مع السعودية، التي خصّها الحكم الجديد بأول زيارة خارجية. وهذا من شأنه أن يسمح للمملكة بموازنة ليس النفوذ الإيراني الذي يقترب من الصفر بعد سقوط بشار، ولكن النفوذ التركي الذي يجتاج كل مفاصل سوريا العسكرية والامنية والدبلوماسية والاقتصادية وحتى الدينية. ما تسعى إليه السعودية بقاء سوريا دولة “ذات أغلبية سنية” تتوافق بشكل أوثق مع المصالح السعودية، في مقابل تركيا التي تتأهب لأن تكون الدولة السنيّة الأكثر نفوذًا في سوريا. وعلى ما يبدو، فقد بدا ان ثمة “فرملة” ظهرت مؤخرًا للاندفاعة التركية لدرء ما تنطوي عليه من إثارات وقلق لدى السعودية ودول عربية أخرى. وحتى زيارة الرئيس التركي أردوغان الى سوريا وإلقاء خطاب النصر في الجامع الأموي الذي وعد به قد تأخر من أجل استكمال جولة الطمأنة التي بدأها الشرع وفريقه بالتنسيق مع الجانب التركي.

ـ إعادة التموضع الإقليمي: باتت سوريا ما بعد الأسد فرصة للسعودية “لإعادة تأكيد نفوذها” في بلاد الشام والعالم العربي الأوسع بعد عقود من التقيّد الجيوسياسي. وقد يتضمن هذا “تعزيز التحالفات” مع الأردن ومصر والتي تشترك جميعها في المخاوف بشأن النفوذ التركي القادم. كما يمكن للسعودية أن تعمل كلاعب رئيسي في “إعادة بناء سوريا” وتشكيل مستقبل “الاقتصاد السوري” من خلال الاستثمار والمساعدات والدعم السياسي. مع لفت الانتباه إلى أن السعودية المشغولة في توفير مصادر تمويل لمشاريع رؤية 2030 قد لا تكون قادرة على الإنخراط الكثيف في مشاريع إعادة إعمار سوريا أو الاستثمار فيها بمبالغ طائلة.

ـ مواجهة النفوذ الإيراني: إن “الفرصة الأكثر إلحاحًا” للمملكة السعودية هي منع محور المقاومة بقيادة إيران من العودة إلى سوريا وإعادة تشكيل نفوذه فيها.

في الخلاصات، إن النهج السعودي بعد سقوط الأسد في التعامل مع “نظام الحكم” الديني في سوريا ينطوي على عملية موازنة معقدة بين “الالتزامات الإيديولوجية” تجاه الإسلام السُنّي و”المخاوف الأمنية” بشأن صعود الفصائل السلفية المتطرفة. وكما يبدو، حتى الآن، أن السعودية تفضّل “حكومة معتدلة يهيمن عليها السنة” قادرة على مواجهة النفوذ الإيراني والحفاظ على الاستقرار الإقليمي. ومع ذلك، يتعيّن على السعودية أن تتغلب على مخاطر “الصراع الطائفي” و”التطرف السلفي” و”تقسيم” سوريا، في حين تحاول تعزيز نفوذها في بيئة سياسية ما بعد الأسد.

  1. https://kingfahad.sa/%D8%A7%D9%84%D9%85%D9%84%D9%83-%D9%81%D9%87%D8%AF-%D9%88%D8%A7%D9%84%D8%A8%D9%88%D8%B3%D9%86%D8%A9-%D9%88%D8%A7%D9%84%D9%87%D8%B1%D8%B3%D9%83/ ↩︎
  2. https://www.kuna.net.kw/ArticleDetails.aspx?id=1049637&language=ar ↩︎
  3. https://www.aljazeera.net/politics/2004/10/3/%D8%A7%D9%84%D8%AD%D8%B1%D9%83%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%A5%D8%B3%D9%84%D8%A7%D9%85%D9%8A%D8%A9-%D9%81%D9%8A-%D8%A7%D9%84%D8%B4%D9%8A%D8%B4%D8%A7%D9%86 ↩︎

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى